نفحات الولایه (شرح عصری جامع لنهج البلاغه) المجلد 8

اشارة

عنوان و نام پدیدآور:نفحات الولایه: شرح عصری جامع لنهج البلاغه المجلد 8 / ناصرمکارم شیرازی، بمساعده مجموعه من الفضلاء؛ اعداد عبدالرحیم الحمدانی.

مشخصات نشر:قم : مدرسه الامام علی ابن ابی طالب (ع) ، 1426ق.-= 1384.

مشخصات ظاهری:10 ج.

شابک:30000 ریال : دوره 964-813-958-X: ؛ ج. 1 964-813-907-5 : ؛ ج. 2 964-813-908-3 : ؛ ج. 3 964-813-917-2 : ؛ ج. 4 964-813-918-0 : ؛ ج.5 : 964-813-941-5 ؛ 70000 ریال: ج. 6 978-964-533-120-5 : ؛ 70000 ریال: ج. 7 978-964-533-121-2 : ؛ 70000 ریال: ج. 8 978-964-533-122-9 : ؛ 70000 ریال: ج. 9 978-964-533-123-6 : ؛ 70000 ریال: ج. 10 978-964-533-124-3 :

یادداشت:عربی.

یادداشت:ج 1- 5 ( چاپ دوم: 1384).

یادداشت:ج. 6- 10 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390).

یادداشت:کتابنامه.

مندرجات:.- ج. 6. من خطبة 151 الی 180.- ج. 7. من خطبة 181 الی 200.- ج. 8. من خطبة 201 الی 241.- ج. 9. من رسالة 1 الی 31.- ج. 10. من رسالة 32 الی 53

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق -- خطبه ها

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- کلمات قصار

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- نامه ها

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغه -- نقد و تفسیر

شناسه افزوده:حمرانی، عبدالرحیم

شناسه افزوده:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغه. شرح

شناسه افزوده:مدرسة الامام علی بن ابی طالب (ع)

رده بندی کنگره:BP38/02 /م7 1384

رده بندی دیویی:297/9515

شماره کتابشناسی ملی:م 84-40347

ص :1

اشارة

ص :2

نفحات الولایه: شرح عصری جامع لنهج البلاغه المجلد 8

ناصرمکارم شیرازی، بمساعده مجموعه من الفضلاء

اعداد عبدالرحیم الحمدانی

ص :3

ص :4

الخطبة 201

اشارة

یَعِظُ بِسُلُوک الطَّریقِ الْواضِحِ(1)

نظرة إلی الخطبة

أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة القصیرة إلی ثلاثة أمور مهمّة تشکل کلّ واحدة منها جزءاً من هذه الخطبة:

1. إنّها تدعو السائرین علی طریق الحقّ إلی الثقة بالنفس بحیث وألّا یشعروا بوحشة من هذا الطریق رغم قلّة سالکیه.

2. أشارت إلی أصل اسلامی مهم وهو أنّ الرضا بأعمال الآخرین یجعل الإنسان شریکاً لهم فی تلک الأعمال، وإن لم یکن له من تدخل فی تلک الأعمال.

3. یوصی بانتخاب طریق الحقّ الواضح والشفاف والبیّن من أجل الوصول

ص:5


1- (1) سند الخطبة: نقل هذه الخطبة کثیر من علماء الإسلام الذین عاشوا قبل وبعد السید الرضی بشکل مرسل أو مسند، ویمکن ذکر أربعة أشخاص من الذین الذین عاشوا قبل السید الرضی وهم: أ) نقل أحمد بن محمّد بن خالد البرقی فی کتابه «المحاسن» قسماً من هذه الخطبة. ب) أوردها النعمانی فی کتابه «الغیبة» بسندین. ج) ذکرها الطبری من علماء الإمامیّة فی کتاب «المسترشد». د) أوردها الشیخ المفید فی کتابه «الإرشاد».

إلی الهدف والحذر من سلوک الطرق المظلمة الملتویة التی تنتهی إلی الغی والضلال.

***

ص:6

أَیُّهَا النَّاسُ لاَ تَسْتَوْحِشُوا فِی طَرِیقِ الْهُدَی لِقِلَّةِ أَهْلِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَی مائِدَة شِبَعُهَا قَصِیرٌ، وَجُوعُهَا طَوِیلٌ.

أَیُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا یَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَی وَالسُّخْطُ. وَإِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَمَّهُمُ اللّه بِالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَی، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: «فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِینَ»(1) فَمَا کَانَ إِلاَّ أَنْ خَارَتْ أَرْضُهُمْ بِالْخَسْفَةِ خُوَارَ السِّکَّةِ الْمُحْمَاةِ فِی الأَرْضِ الْخَوَّارَةِ.

أَیُّهَا النَّاسُ، مَنْ سَلَک الطَّرِیقَ الْوَاضِحَ وَرَدَ الْمَاءَ، وَمَنْ خَالفَ وَقَعَ فِی التِّیهِ!

الشرح والتفسیر: سبیل النجاة

یواسی الإمام علیه السلام - فی هذا الموضع العمیق المعنی - السائرین علی النهج أن لا یشعروا قلوبهم أدنی تردّد بسبب قلّة سالکیه، فیقول: «أَیُّهَا النَّاسُ لاَ تَسْتَوْحِشُوا فِی طَرِیقِ الْهُدَی لِقِلَّةِ أَهْلِهِ».

ثم یشیر إلی تبریر ذلک فیقول: «فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَی مائِدَة شِبَعُهَا (2)قَصِیرٌ، جُوعُهَا طَوِیلٌ». فی إشارة إلی أنّ أهل الطریق القویم إن کانوا قلّة فإنّما یعزی ذلک إلی مغریات الدنیا، فقد شبّه الإمام علیه السلام الدنیا فی هذا الکلام العمیق المعنی

ص:7


1- (1) . سورة الشعراء، الآیة 157.
2- (2) . «شِبَع» علی وزن «عِلل» لها معنی مصدری وتعنی الشبع بصورة تامة.

بمائدة الطعام الغناء التی مُلئت بالأطعمة ذات القیمة القلیلة أو العدیمة القیمة من الناحیة الغذائیة؛ ولکنّها زیّنت بالبهرجة والزخرف، وقد اجتمع حولها طلّاب الدنیا متناسین أنّ أطعمتها إنّما تشبعهم لأمد قصیر یتبعه جوع طویل.

ولعل هذا «الجوع الطویل» إشارة إلی الحزن والحسرة الأبدیة التی تطال المتهافتین علی الدنیا عند الموت وبعده وفی مشهد القیامة، ومدی الأسی الذی یعتریهم علی تقصیرهم فی هذه الدنیا.

والواقع أنّ عبارة الإمام علیه السلام هذه العظیمة المعنی هی اقتباس من آیات القرآن الکریم، فقد جاء فی الآیة 100 من سورة المائدة: «قُلْ لاَّ یَسْتَوِی الْخَبِیثُ وَالطَّیِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَک کَثْرَةُ الْخَبِیثِ».

بالاضافة إلی الآیات التی تتحدّث عن الأکثریّة الجاهلة، عدیمة الإیمان، غیر العاقلة، الفاسقة، الجاحدة وأمثال ذلک.

ثم ذکر الأمر الثانی؛ الأمر الذی من شأنه حلّ الکثیر من المسائل العقائدیة والاجتماعیة تکمن فی أنّ الذی یمیز الجماعات البشریّة، الاتجاهات الفکریة ونوازع القلوب، وإن کانوا أفراداً معینین فی ظرف معین؛ حیث ینضوی معهم کلّ من تضامن معهم فکریاً وارتضاهم قلبیاً.

قال: «أَیُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا یَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَی وَالسُّخْطُ(1)».

وعلیه فلیس سبب الاشتراک فی النتیجة مجرّد الاشتراک فی العمل أو إعداد مقدّماته والإعانة علی الإثم فحسب؛ بل یترتب هذا الاشتراک علی الرضی القلبی، ومن هنا وردت صراحة هذه العبارة فی الزیارة: «وَلَعَنَ اللّه امَّةً سَمِعَتْ بِذلِک فَرَضِیَتْ بِهِ»(2).

وقد مرّ علینا فی الخطبة الثانیة عشرة التی مضی شرحها فی الجزء الأوّل أنّ

ص:8


1- (1) «السخط» ضدّ الرضا بمعنی الغضب.
2- (2) زیارة الأربعین للإمام الحسین علیه السلام.

علیّاً علیه السلام لما سمع أحد أصحابه بعد معرکة الجمل وقد تمنی أن یکون أخوه شهد معهم المعرکة فیشترک معهم فی تحقیق ذلک النصر. فقال له علیه السلام: «فَقَدْ شَهِدنَا، وَ لَقَدْ شَهِدَنا فِی عَسْکَرِنا هذَا أَقْوَامٌ فِی أَصْلابِ الرِّجَالِ، وَ أَرْحَامِ النِّسَاءِ، سَیَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمانُ وَ یَقْوَی بِهِمُ الْإِیمانُ».

ولعل هذا الکلام یفتح لنا افقاً جدیداً فی المطالعات الإسلامیّة ویحّث الجمیع علی ضرورة مراقبة الروابط القلبیّة والرضی والسخط الباطنی.

ویحظی هذا المطلب بدرجة من الأهمیّة بحیث أشارت إلیه العدید من روایات المعصومین علیهم السلام؛ فقد ذکر المرحوم الشیخ الحر العاملی فی کتاب «الوسائل» فی أبواب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر باباً تحت عنوان: «وُجُوبُ إنْکارِ الْمُنْکَرِ بِالْقَلْبِ عَلی کُلِّ حال وَتَحْریمُ الرِّضا بِهِ وَوُجُوبُ الرِّضا بِالْمَعْرُوفِ» أورد فیه سبعة عشر حدیثاً بهذا الخصوص؛ ومنها حدیث مفصّل عن الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام أنّه قال: «لَوْ أنَّ رَجُلاً قُتِلَ بِالْمَشْرِقِ فَرَضِیَ بِقَتْلِهِ رَجُلٌ بِالْمَغْرِبِ لَکانَ الرّاضِی عِنْدَ اللّه عَزَّوَجَلَّ شَریک الْقاتِلِ»(1).

وزبدة القول، لیس مجرّد العمل أو التعاون فی مقدّماته سبب الاشتراک فی النتائج المترتبة علی ذلک العمل فی الشریعة الإسلامیّة فحسب؛ بل للرضا القلبی مثل هذا الأثر.

ثم استشهد الإمام علیه السلام بدلیل محکم من القرآن المجید لإثبات هذه الحقیقة فقال:

وإنّما عقر ناقة ثمود واحد بینما عمّ العذاب جمیع قوم ثمود کونهم رضوا جمیعاً بعمل ذلک الفرد، فقال سبحانه: «فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِینَ» عقر القوم الناقة فلمّا نزل العذاب ندم الجمیع «وَإِنَّمَا عَقَرَ(2) نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَمَّهُمُ اللّهُ بِالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَی، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: «فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِینَ» (3)فَمَا کَانَ إِلاَّ أَنْ

ص:9


1- (1) وسائل الشیعة، ج 11، ص 410، ح 4.
2- (2) . «عقر» من «العُقر» علی وزن «قفل» تعنی فی الأصل أساس الشیء وإن استعملت فی الحیوان عنت البقر قطع أسفل الرجل وصرعه، کما تعنی نحر الناقة.
3- (3) . سورة الشعراء، الآیة 157.

خَارَتْ(1) أَرْضُهُمْ بِالْخَسْفَةِ خُوَارَ السِّکَّةِ(2) الْمُحْمَاةِ(3) فِی الأَرْضِ الْخَوَّارَةِ».

یشیر کلام الإمام علیه السلام إلی معجزة صالح علیه السلام، نبی قوم ثمود، فلما طلب منه قومه معجزة، خرجت بقدرة اللّه ناقة من صخرة فآمنت طائفة بینما أنکر ذلک أغلب القوم، وأوصاهم نبیّهم ألا یتعرضوا لتلک الناقة بسوء فیأخذهم العذاب، فلم یأبهوا بقول النّبی وعمدوا إلی الناقة فعقروها، فأتتهم زلزلة عظیمة فانشقّت الأرض وابتلعت الکفّار وبیوتهم.

والمعروف أنّ قاتل هذه الناقة شقی یدعی «غدّار بن سالف»؛ إلّاأنّ العبارة وردت فی الآیة القرآنیة بصیغة الجمع «فَعَقَرُوهَا»، لأنّهم رضوا جمیعاً بعمله وقد عبّروا عن هذا الرضی من خلال دعوته وتشجیعه علی الإتیان بذلک العمل الشنیع کما ورد ذلک فی الآیة 29 من سورة القمر: «فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَی فَعَقَرَ».

العبارة «خَارَتْ أَرْضُهُمْ بِالْخَسْفَةِ خُوَارَ السِّکَّةِ الْمُحْمَاةِ» إشارة إلی أنّ حدیدة المحراث إذا احمیت فی النار انغمرت سریعاً فی الأرض لاسیما فی الأرض الرخوة، نعم، فقد انغمرت منطقتهم وما علیها بهذه السرعة فی جوف الأرض إثر ذلک الزلزال العظیم.

ثم حذّر الإمام علیه السلام فی القسم الثالث من هذه الخطبة، عامّة الناس فقال: «أَیُّهَا النَّاسُ، مَنْ سَلَک الطَّرِیقَ الْوَاضِحَ وَرَدَ الْمَاءَ، وَمَنْ خَالفَ وَقَعَ فِی التِّیهِ(4)!».

المراد من «الطَّرِیقَ الْوَاضِحَ» الطریق الذی عرضه القرآن والسنّة والدلیل العقلی والذی یهدی الناس إلی ماء الحیاة المعنویة وأولئک الذین یضلون الطریق إنّما یحرمون من الهدی ویموتون علی الکفر والإلحاد.

ص:10


1- (1) «خارت» من «الخوار» علی وزن «غبار» صوتت کخوار الثور والناقة وماشابه ذلک وخوّاره صیغة مبالغتها.
2- (2) «السِّکَّة» الحدیدة والمحراث.
3- (3) «محماة» اسم مفعول من مادة «احماء» وضع الشیء علی النار وتطلق «محماة» علی الشیء الذی یحمی بالنار.
4- (4) «تیه» الوادی الجاف کما وردت بمعنی الحَیْرَة.

وممّا لا شک فیه أنّ منهج وطریق الإمام علیه السلام أحد مصادیق «الطَّرِیقَ الْوَاضِحَ» والبینة الواضحة، ذلک لأنّه بمنزلة نفس النّبی وأعلم الأمّة بمنهجه وطریقه، وهذا ما صرّح به الإمام علیه السلام فی الخطبة 97 إذ قال: «و إنّی لَعلی بیّنة مِنْ رَبّیَ ومِنهاج مِنْ نبی وَإنّی لَعلی الطَّریقِ الواضحِ».

ومن البدیهی أنّ الإنسان الذی یسیر علی الطریق القویم المعلوم إنّما یبلغ اثناء الطریق بعض المنازل ذات المیاه الوفیرة، ومن یزلّ عن الطریق عادة مایجد نفسه فی الصحاری الجرداء القاحلة فیهلکه العطش.

***

ص:11

ص:12

الخطبة 202

اشارة

رُوِیَ عَنْهُ أَنَّهُ قالَهُ عِنْدَ دَفْنِ سَیِّدَةِ النِّساءِ فاطِمَةَ علیها السلام،

کَالْمُناجی بِهِ رَسُولَ اللّه صلی الله علیه و آله عِنْدَ قَبْرِهِ(1) و(2)

نظرة إلی الخطبة

کلام الإمام علیه السلام هذا بلیغ إلی درجة؛ الکلام الذی یعکس حرقة قلب الإمام علیه السلام

ص:13


1- (1) سند الخطبة: قال ابن أبی الحدید فی «شرح نهج البلاغة» أنّ تعبیر السیّد الرضی عن فاطمة الزهراء علیها السلام ب «سیّدة نساء العالمین» اقتباس من خبر متواتر روی عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله بهذه العبارة أو عبارة أخری تفید نفس المعنی. وقال صاحب «مصادر نهج البلاغة» بعد نقله لهذا الکلام: إنّ هذا الحدیث (حدیث سیّدة نساء العالمین) متواتر عند علماء الإمامیّة؛ بل یعد جزءا من عقائدهم. ثم روی عدّة روایات عن العامّة بهذا الخصوص. أمّا من روی هذه الخطبة من العلماء الذین عاشوا قبل السیّد الرضی، فهم کلّ من المرحوم الکلینی فی الجزء الأوّل من کتاب «الکافی» (بعبارات أکثر ممّا أوردها السیّد الرضی) والشیخ المفید فی کتاب «المجالس» وروتها طائفة أخری ممن عاش بعد السیّد الرضی مع اختلافات تفید أنّهم استقوها من مصادر أخری غیر «نهج البلاغة»؛ مثل الطبری فی «دلائل الإمامة» والشیخ الطوسی فی «الأمالی» وسبط ابن الجوزی فی «تذکرة الخواص» الذین ذکروا دفن الزهراء والأشعار التی أنشدها علی علیه السلام فی وداعها. ثم نقل الکلام المذکور مع بعض الاضافات. (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 93-98).
2- (2) الجدیر بالذکر أنّ الضمیر فی «عند قبره» ورد بصیغة المذکر حیث یعود إلی النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله ویقول: إنّه قال هذا الکلام حین دفن فاطمة الزهراء علیها السلام، وهذا یعنی أنّ السیّد الرضی یری أنّ قبر الزهراء علیها السلام عند قبر النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله.

حین دفنه الصدیقة الطاهرة فاطمة الزهراء علیها السلام، والذی یتضمن بث الشکوی الألیمة والمفجعة ولوعة الفؤاد التی تعکس شکوی الإمام علیه السلام للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله بشأن مصائب فاطمة الزهراء علیها السلام من جهة ومصابه بسبب فراق الزهراء علیها السلام من جهة أخری، وجانب من الحقائق التاریخیّة المهمّة فی صدر الإسلام بصورة غیر مباشرة؛ لکنّه یعکسها بصیغة بلیغة وعمیقة وسیرد شرح ذلک فی ختام تفسیر هذا الکلام.

***

ص:14

السَّلاَمُ عَلَیْک یَا رَسُولَ اللّهِ عَنِّی، وَعَنِ ابْنَتِک النَّازِلَةِ فِی جِوَارِک، وَالسَّرِیعَةِ اللِّحَاقِ بِک، قَلَّ، یَا رَسُولَ اللّه، عَنْ صَفِیَّتِک صَبْرِی، وَرَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِی، إِلاَّ أَنَّ فِی التَّأَسِّی لِی بِعَظِیمِ فُرْقَتِک، وَفَادِحِ مُصِیبَتِک، مَوْضِعَ تَعَزٍّ، فَلَقَدْ وَسَّدْتُک فِی مَلْحُودَةِ قَبْرِک، وَفَاضَتْ بَیْنَ نَحْرِی وَصَدْرِی نَفْسُک، «فَإِنَّا للّه وَإِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ!»(1) فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِیعَةُ، وَأُخِذَتِ الرَّهیِنَةُ! أَمَّا حُزْنِی فَسَرْمَدٌ، وَأَمَّا لَیْلِی فَمُسَهَّدٌ، إلَی أَنْ یَخْتَارَ اللّه لِی دَارَک الَّتی أَنْتَ بِهَا مُقِیمٌ. وَسَتُنَبِّئُک ابْنَتُک بتَضَافُرِ أُمَّتِک عَلَی هَضْمِهَا، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ، وَاسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ؛ هذَا وَلَمْ یَطُلِ الْعَهْدُ، وَلَمْ یَخْلُ مِنْک الذِّکْرُ، وَالسَّلاَمُ عَلَیْکُمَا سَلاَمَ مُوَدِّعٍ، لاَ قَالٍ وَلاَ سَئِمٍ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلاَ عَنْ مَلاَلَةٍ، وَإِنْ أُقِمْ فَلاَ عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللّه الصَّابِرِینَ.

الشرح والتفسیر: لوعة علی علیه السلام عند قبر الزهراء علیها السلام

قال الإمام علیه السلام هذا الکلام الألیم والمفجع حین وسد بیده الشریفة البدن الطاهر لسیدة النساء الزهراء البتول علیها السلام فی القبر، وهوالکلام الدال - من جهة - علی عظمة الصدیقة الطاهرة فاطمة الزهراء علیها السلام ومن جهة أخری مدی لوعة علی علیه السلام علی فراقها الألیم.

اختار الإمام علیه السلام أروع وأفضل مخاطب فی بیان هذه العبارات؛ أی رسول اللّه صلی الله علیه و آله لیشکو له ذلک المصاب، فابتدأ کلامه قائلاً: «السَّلاَمُ عَلَیْک یَا رَسُولَ اللّه عَنِّی، وَعَنِ

ص:15


1- (1) . سورة البقرة، الآیة 156.

ابْنَتِک النَّازِلَةِ فِی جِوَارِک، وَالسَّرِیعَةِ اللِّحَاقِ بِکَ».

ورغم أنّ مضمون کلام الإمام علیه السلام، شکوی ألیمة ومفجعة؛ إلّاأنّ أدب الخطاب یقتضی أن یستهلّه بتحیة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله والسلام علیه.

تفید العبارة: «النَّازِلَةِ فِی جِوَارِکَ» أنّ قبر سیّدة النساء عند قبر النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وهذا یدعم نظریة من یری أنّ الزهراء علیها السلام إنّما دفنت فی بیتها.

طبعاً یمکننا أن نعتبر الدفن فی البقیع علی أنّه إلی جوار رسول اللّه صلی الله علیه و آله أو أن نعتبر المراد بالجوار هو الجوار الروحی والمعنوی فی الجنّة؛ غیر أنّ المعنی الأوّل أنسب لظاهر العبارة ویؤید ذلک العدید من الروایات.

أورد المرحوم الکلینی روایة تقول: إنّ أحد الصحابة أحمد بن محمد بن أبی نصر قال: سألت الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام عن قبر فاطمة علیها السلام فقال: «دُفِنَتْ فی بَیْتِها فَلَمّا زادَتْ بَنُو امَیَّةَ فی الْمَسْجِدِ صارَتْ فِی الْمَسْجِدِ»(1).

العبارة: «السَّرِیعَةِ اللِّحَاقِ بِکَ» إشارة عمیقة المعنی لهول مصائب الصدیقة الطاهرة فاطمة الزهراء علیها السلام التی ساقتها فی ربیع عنفوان شبابها إلی الدار الأبدیة فتکون المدّة التی أعقبت التحاقها بالنّبی الأکرم صلی الله علیه و آله طبق بعض الروایات 45 یوماً وطبق البعض الآخر 75 یوماً وطبق روایة أخری 95 یوماً، کما قیل حسب بعض الروایات غیرالمشهورة 4 أشهر و 6 أشهر وهذا ما سنتطرق له فی مبحث التأملات بالإضافة إلی موضع قبرها.

ثم واصل الإمام علیه السلام خطابه للنّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قائلاً: «قَلَّ، یَا رَسُولَ اللّهِ، عَنْ صَفِیَّتِک(2) صَبْرِی، وَرَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِی(3) ، إِلاَّ أَنَّ فِی التَّأَسِّی(4) لِی بِعَظِیمِ فُرْقَتِک،

ص:16


1- (1) الکافی، ج 1، ص 461، باب مولد الزهراء علیها السلام، ح 9.
2- (2) . «صفیّة» من مادة «صفو» علی وزن «عفو» بمعنی الصافی والطاهر وصفیّ بمعنی المصطفی. وقد ذکرالإمام علیه السلام بنت النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بصفتها صفیة لیعکس علو شأنها وجلالة قدرها.
3- (3) «تجلّد» من مادة «جلد»، علی وزن «بلد» و «جلادة» التی تعنی الصبر والاستقامة و «تجلّد» هنا إشارة إلی التحمل والصبر علی المصیبة.
4- (4) «تأسّی» تأتی أحیاناً بمعنی الاقتداء وأحیاناً أخری بمعنی الاغتمام والمعنی الثانی هنا أنسب، لأنّ الکلام عن الهم والغم والحزن ولیس الاقتداء، وإن ذهب بعض الشرّاح إلی المعنی الأوّل ویبدو أنّ سبب خطأهم ما تعارف علیه فی الاستعمالات المتداولة.

وَفَادِحِ(1) مُصِیبَتِک، مَوْضِعَ تَعَزٍّ(2)».

یشیر إلی أنّ مصیبة الزهراء علیها السلام وإن کانت ألیمة للغایة؛ لکنّ ألم مصیبتک کان أعظم وأعمق وتحملها هوّن احتمال هذه المصیبة، قطعاً کان مصاب علی علیه السلام برحیل النّبی أعظم، وإن کانت فاطمة الزهراء زوجة عظیمة المنزلة انعدم مثیلها؛ فقد کان النّبی بمنزلة أبی علی علیه السلام وإضافة إلی ذلک، کان بالنسبة لعلی القائد والمرشد والمعلم والأستاذ وبالتالی کلّ شیء لعلی، ومن هنا ورد فی الحدیث أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال لعلی علیه السلام: «یا أَبَا الرَّیْحانَتَیْنِ... عَنْ قَلیلِ یَنْهَدُّ رُکْناک».

ولما توفی رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال علی علیه السلام: «هذا أَحَدُ رُکْنَی الَّذی قالَ لی رَسُولُ اللّه».

وقال حین استشهدت الصدیقة الطاهرة الزهراء علیها السلام: «هذَا الرُّکْنُ الثّانی الَّذی قالَ رَسُولُ اللّه»(3).

ثم أضاف الإمام علیه السلام فی شرحه لهذا الکلام قائلاً: «فَلَقَدْ وَسَّدْتُک(4) فِی مَلْحُودَةِ (5)قَبْرِک، وَفَاضَتْ بَیْنَ نَحْرِی وَصَدْرِی نَفْسُک، فَ «إِنَّا للّه وَإِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ»!».

ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ «نفس» هنا تعنی الدم (لأنّ أحد معانی النفس هو الدم) وقالوا: إنّ قلیلاً من الدم خرج من فم النّبی عند وفاته وجری علی صدر علی علیه السلام؛ ولکن هذا المعنی یبدو مستبعداً، علی کلّ حال تفید القرائن (کما تدل الخطبه 197) أنّ رأس النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله حین وفاته کان فی حجر علی علیه السلام ففاضت روحه الطاهرة فمرّت علی صدر علی علیه السلام ونحره، رغم ما ذکره بعض

ص:17


1- (1) «فادح» من مادة «فدح»، علی وزن «فتح» بمعنی المثقل وتعنی هنا المصیبة الجلل.
2- (2) «تعزّ» أو «تعزّی» بمعنی الصبر علی المصیبة ومادته «عزاء».
3- (3) بحارالأنوار، ج 43، ص 173، ح 14. کما ورد هذا الحدیث فی مصادر العامّة؛ مثل کتاب فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل، ج 2، ص 623، ح 1067.
4- (4) . «وَسّد» من «وسادة»؛ والتی تعنی هنا وضع الوسادة تحت الرأس.
5- (5) «ملحودة» من مادة «لحد» علی وزن «عهد» بمعنی الشق الذی یجعل فی جهة من القبر ویوضع داخله المیت حتی لایصله التراب حین یمتلیء به القبر.

محدثی العامّة من أنّ عائشة قالت: «کان رأس رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حجری لما فاضت روحه»(1) ؛ فلیس هنالک من دلیل معتبر علی هذا الکلام ولعله من قبیل العدید من الروایات التی سعوا من خلالها لنسب فضائل علی علیه السلام الواحدة تلو الأخری لغیره.

آنذاک عاد الإمام ثانیة لشرح مصیبة الزهراء علیها السلام فخاطب النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قائلا؛ «فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِیعَةُ، وَأُخِذَتِ الرَّهیِنَةُ! أَمَّا حُزْنِی فَسَرْمَدٌ(2) ، وَأَمَّا لَیْلِی فَمُسَهَّدٌ(3) ، إلَی أَنْ یَخْتَارَ اللّه لِی دَارَک الَّتی أَنْتَ بِهَا مُقِیمٌ».

هذه العبارة التی تعکس مدی لوعة علی علیه السلام إزاء حادثة شهادة الصدیقة الطاهرة فاطمة الزهراء علیها السلام تشیر بوضوح إلی مدی قیمة سیّدة النساء لدی علی علیه السلام وعمق الإرتباط العاطفی والمعنوی والروحی بینهما.

التعبیر ب «ودیعة» إشارة إلی مافعله رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی أعتاب وفاته حین أخذ بید فاطمة ووضعها بید علی علیه السلام وقال: «یا أَبَاالْحَسَنِ هذِهِ وَدیعَةُ اللّهِ وَوَدیعَةُ رَسُولِهِ عِنْدَک فَاحْفَظَ اللّه وَاحْفَظْنی فیها وَإِنَّک لَفاعِلُهُ»(4).

ویری البعض أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال ذلک لیلة زفاف الزهراء علیها السلام، وذهب بعض الشرّاح إلی أنّ التعبیر بالودیعة هنا یشیر إلی أنّ أرواح الناس فی الأبدان شبیهة بالودیعة والأمانة التی تسترد عند الوفاة، إلّاأنّ هذا التفسیر یبدو مستبعداً هنا.

ویمکن أن یکون التعبیر ب «الرهینة» حیث إنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أخذ من علی علیه السلام عهد الخلافة والوصایة والوفاء وکانت کریمته الزهراء علیها السلام رهینة إزاء ذلک.

وقد استعمل هذا التعبیر کون الصدیقة أعظم نعمة من اللّه علی علی علیه السلام.

ص:18


1- (1) . سیر أعلام النبلاء، ج 2، ص 141؛ مجمع الزوائد، ج 9، ص 241.
2- (2) . «سرمد» دائم وطویل ویطلق السرمدی أحیاناً علی الشیء الذی له بدایة ولیس له نهایة.
3- (3) «مُسَهَّد» من مادة «سهد» علی وزن «صمد» بمعنی السهر وعدم النوم. جدیر ذکره أنّ «مسهّد» وردت صفة للخبر «لیل» وقد قال الإمام علیه السلام أمّا لیلی فمسهد بدلاً من أن یقول أنّا علی هذه الحالة، وهذا فی الواقع یشعر بالتأکید.
4- (4) بحار الأنوار، ج 22، ص 484، ح 31.

وتفسیر العبارة: «أَمّا حُزْنِی فَسَرْمَدٌ» واضح، فالإمام علیه السلام لا یکاد یذکر البتول حتی تتجدد أحزانه وآلامه وهو الحزن الذی خیم علی جمیع تفاصیل حیاة الإمام علی علیه السلام.

والعبارة: «وَأَمَّا لَیْلِی فَمُسَهَّدٌ» کنایة عن أنّی أعیش أغلب اللیالی علی ذکر تلک الصدیقة الطاهرة، وأنّ ذکرها لیسلب من عینیَّ النعاس، وخیر شاهد علی ذلک الأشعار التی أنشدها بعد فراق فاطمة الزهراء علیها السلام:

نَفْسی عَلی زَفَراتِها مَحْبُوسَةٌ

آنذاک أشار الإمام علیه السلام إلی جانب من مصائب فاطمة الزهراء علیها السلام المفجعة فقال:

«وَسَتُنَبِّئُک ابْنَتُک بتَضَافُرِ أُمَّتِک عَلَی هَضْمِهَا، فَأَحْفِهَا(1) السُّؤَالَ، وَاسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ؛ هذَا وَلَمْ یَطُلِ الْعَهْدُ، وَلَمْ یَخْلُ مِنْک الذِّکْرُ».

الظاهر أنّ هذه العبارات المقتضبة من أمیرالمؤمنین علی علیه السلام بغیة رعایة الأدب عند قبر النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فلا یخوض فیها ولا یشرحها، والتی تشیر إلی الأحداث المأساویة التی أعقبت رحیل النّبی؛ من قبیل الهجوم علی بیت الصدیقة الطاهرة فاطمة الزهرا علیها السلام، وإضرام النار فی البیت، وإسقاط جنینها المحسن وحمل الإمام علی علیه السلام إلی المسجد بالقوّة من أجل البیعة وهذا ما سنتناوله فی ختام هذا البحث، وهی الأحداث التی لم ترد بصیغة مرکزة فی مصادر الإمامیّة والعجیب أنّها ذکرت صراحة فی مصادر العامّة.

والمفردة «تضافر» من مادة «ضفر» (علی وزن ضعف) تعنی التعاون والتعاضد للقیام بعمل، إشارة إلی أنّ فئة من الاُمّة کانت شریکة فی ارتکاب تلک الجرائم، ولما کان الأعم الأغلب قد لاذ بالصمت الذی یعنی تأیید ذلک الفعل نسب إلی جمیع

ص:19


1- (2) . «أحفها» من مادة «الإحفاء» بمعنی الإصرار فی السؤال والاستخبار.

الأمّة، و «هضم» تعنی فی الأصل الظلم والکسر، والمفردة «عهد» هنا بمعنی الزمان ولها معانٍ أخری.

کما یحتمل أن یکون المراد من هذا العهد هو العهد الذی أخذه رسول اللّه صلی الله علیه و آله بشأن خلافة علی علیه السلام وحفظ حرمة أهل البیت علیهم السلام ولاسیما ابنته الصدیقة الطاهرة فاطمة الزهراء علیها السلام وجعلهم عدل القرآن بمقتضی حدیث الثقلین وأمثال ذلک؛ أی لم تمض مدّة طویلة علی تلک العهود حتی نسیت طائفة من الاُمّة کلّ شیء وإرتکبت أفظع الجرائم التی تذهل العقول.

ثم اختتم خطبته مخاطباً النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وفاطمة الزهراء علیها السلام قائلاً: «وَالسَّلاَمُ عَلَیْکُمَا سَلاَمَ مُوَدِّع، لاَ قَال(1) وَلاَ سَئِم(2) ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلاَ عَنْ مَلاَلَة، وَإِنْ أُقِمْ فَلاَ عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللّه الصَّابِرِینَ».

ورد فی روایة «الکافی» فی ذیل هذا الکلام: «واه واهاً وَالصَّبْرُ أَیْمَنُ وَأجْمَلُ وَلَوْ لا غَلَبَةُ الْمُسْتَوْلینَ لَجَعَلْتُ الْمَقامَ وَاللَّبْثَ لِزاماً مَعْکُوفاً وَلأعْوَلْتُ إِعْوالَ الثَّکْلی عَلی جَلیلِ الرَّزِیَّةِ فَبِعَیْنِ اللّه تُدْفَنُ ابْنَتُک سِرّاً وَتُهْضَمُ حَقَّها وَتُمْنَعُ إِرْثَها وَلَمْ یَتَباعَدِ الْعَهْدُ وَلَمْ یَخْلُقْ مِنْک الذِّکْرُ وَإِلَی اللّه یا رَسُولَ اللّه الْمُشْتَکی وَفیک یا رَسُولَ اللّه أحْسَنَ الْعَزاء وَصَلَّی اللّه عَلَیْک وَعَلَیْها السَّلامُ وَالرِّضْوانُ»(3).

ویتضح بجلاء من هذه العبارات وما ورد فی «نهج البلاغة» مدی شدّة المصائب التی جرّعها الفسقة أهل البیت علیهم السلام وبضعة النّبی صلی الله علیه و آله عقب تلک المدّة الوجیزة بعد رحیل النّبی صلی الله علیه و آله والتی هزّت علیّاً علیه السلام بصفته جبل الحلم والصبر وجعلته یبکی بکاء الثکلی، والعجیب أنّ أسناد ذلک الهجوم البربری علی بیت الرسالة ورد فی مصادر العامّة بصورة مستفیضة.

ص:20


1- (1) . «قال» من مادة «قَلی» علی وزن «وعی» بمعنی المبغض ویطلق «قال» علی الشخص المبغض لشیء.
2- (2) «سئم» من «السآمة» علی وزن «فلاحة» بمعنی الکسل والضجر ویطلق «سئم» علی من یتصف بهذه الحالة.
3- (3) الکافی، ج 1، ص 459، باب مولد فاطمة الزهراء علیها السلام.

تأمّلات

اشارة

برغم قصر المدّة التی عاشتها فاطمة الزهراء، الصدیقة الطاهرة سیّدة نساء العالمین؛ غیر أنّ سیرتها وفضائلها ومناقبها ومصائبها طویلة للغایة، وقد أشار بعض شرّاح نهج البلاغة إلی جانب من ذلک حین تعرضوا لشرح هذه الخطبة، ومن الضروری أن نشیر بدورنا إلی بعض الأمور:

1. فاطمة الزهراء علیها السلام علی لسان رسول اللّه صلی الله علیه و آله

تتمتع الصدیقة الطاهرة بنت رسول اللّه صلی الله علیه و آله بمنزلة رفیعة، وتتضح عصمتها من الذنوب من خلال ما ورد فیها من أحادیث النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله حیث قال فیها:

«فاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنّی فَمَنْ أَغْضَبَها أَغْضَبَنی»(1).

ومن الواضح أنّ غضب رسول اللّه صلی الله علیه و آله مدعاة لأذاه وقد صرّح القرآن الکریم بشأن مَن یؤذیه قائلاً:

«وَالَّذِینَ یُؤْذُونَ رَسُولَ اللّه لَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ»(2).

ولیت شعری أی دلیل أدل علی فضیلتها وعصمتها من حدیث النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله الذی نص علی أنّ رضاها رضی اللّه وغضبها غضبه سبحانه فقال:

«یا فاطِمَةُ إِنَّ اللّه یَغْضَبُ لِغَضَبِک وَیَرْضی لِرِضاک»(3).

ولتمتعها بهذه المنزلة العظیمة فهی سیّدة نساء العالمین فقال لها النّبی صلی الله علیه و آله:

«یا فاطِمَةُ! أَلا تَرْضینَ أنْ تَکُونی سَیِّدَةَ نِساءِ الْعالَمینَ، وَسَیِّدَةَ نِساءِ هذِهِ الاُمَّةِ وَسَیِّدَةَ نِساءِ الْمُوْمِنینَ»(4).

ص:21


1- (1) فتح الباری فی شرح صحیح البخاری، ج 7، ص 84 وذکر البخاری هذا الحدیث فی قسم دلائل النبوّة، ج 6، ص 491، وأواخر المغازی، ج 8، ص 110.
2- (2) سورة التوبة، الآیة 61.
3- (3) مستدرک الحاکم، ج 3، ص 154؛ مجمع الزوائد، ج 9، ص 203 وذکر الحاکم فی کتاب المستدرک أحادیث جامعة الشرائط التی صرّح بصحتها البخاری ومسلم.
4- (4) مستدرک الحاکم، ج 3، ص 156.

2. حرمة بیت الزهراء علیها السلام فی القرآن والسنّة

قال المحدّثون: لما نزلت الآیة المبارکة: «فِی بُیُوت أَذِنَ اللّه أَنْ تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ»(1). قرأ رسول اللّه هذه الآیة: «فی بُیُوتِ أَذِنَ اللّه أَنْ تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فیها اسْمُهُ» فقام إلَیْهِ رَجُلٌ: فَقالَ: أَیُّ بُیُوت هذِهِ یا رَسُولَ اللّهِ صلی الله علیه و آله؟ قالَ: بُیُوتُ الأنْبِیاءِ.

فَقامَ إِلَیْهِ أَبُوبَکْرٍ، فَقالَ یا رَسُولَ اللّه صلی الله علیه و آله: أَهذَا الْبَیْتُ مِنْها، مُشیراً إلی بَیْتِ عَلِیٍّ وَفاطِمَةَ علیها السلام.

قالَ صلی الله علیه و آله: نَعَمْ، مِنْ أَفاضِلِها(2).

کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یمرّ تسعة أشهر علی بیت فاطمة فیسلم علیها وعلی علی علیه السلام(3) ویقرأ هذه الآیة: «إِنَّمَا یُرِیدُ اللّه لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً»(4).

البیت الذی کان مرکز النور الإلهی وقد أمر اللّه أن یرفع إنّما یتمتع بحرمة عظیمة.

نعم البیت الذی یضم أصحاب الکساء ویثنی اللّه تبارک وتعالی علیه لابدّ أن یحظی باحترام قاطبة المسلمین.

وهنا لابدّ أن نری کیفیة التعامل مع حرمة ذلک البیت عقب وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله؟

وکیف هتکت حرمة ذلک البیت، وقد اعترفوا أنفسهم بذلک صراحة؟

ومن هم أولئک الذین انتهکوا الحرمات، وماذا کان هدفهم؟

3. انتهاک حرمة بیت الزهراء علیها السلام

ص:22


1- (1) . سورة النور، الآیة 36.
2- (2) الدر المنثور، ج 6، ص 203؛ تفسیر سورة النور، روح المعانی، ج 18، ص 174.
3- (3) . الدر المنثور، ج 6، ص 606.
4- (4) سورة الأحزاب، الآیة 33.

للأسف رغم کلّ هذه الوصایا والتأکیدات فإنّ البعض تجاهل هذه الحرمة وانتهکها، وهذه لیست بالمسألة الهینة التی یمکن التغاضی عنها.

وسنذکر هنا نصوصاً من مصادر العامّة لیتضح من خلالها أنّ انتهاک حرمة بیت الزهراء علیها السلام وما تبعه من أحداث، قضیة تاریخیّة ومسلّمة؛ ولیست خرافة! ورغم الضغوط الشدیدة فی عصر الخلفاء إزاء ذکر وتدوین فضائل ومناقب أهل البیت علیهم السلام إلّاأنّ «الشمس لا تحجب بالغربال» فلم تحجب هذه الحقیقة التی بقیت حیّة فی بطون کتب التاریخ والحدیث، وسنراعی الترتیب الزمانی فی عرض الوثائق منذ القرون الأولی حتی العصر الحاضر.

الف) ابن أبی شیبة، المحدّث المعروف لدی العامّة فی کتاب «المصنّف»

قال أبوبکر بن أبی شیبة (159-235) مؤلف کتاب «المصنّف» بسند صحیح:

«إِنَّهُ حینَ بُویِعَ لأبی بَکْر بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ صلی الله علیه و آله کانَ عَلیٌ وَالزُّبَیْرُ یَدْخُلانِ عَلی فاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللّه، فَیُشاوِرونَها وَیَرْتَجِعُونَ فی أَمْرِهِم. فَلَمّا بَلَغَ ذلِک عُمَرَ بنَ الْخَطّابِ خَرَجَ وَدَخَلَ عَلی فاطِمَةَ، فَقالَ: یا بِنْتَ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله وَاللّهِ ما أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَیْنا مِنْ أَبِیک وَما مِنْ أَحَد أَحَبُّ إِلَیْنا بَعْدَ أَبیک مِنْک، وَأیْمُ اللّه ما ذاک بِمانِعی إِنِ اجْتَمَعَ هؤلاءِ النَّفَرُ عِنْدَک أَنْ أَمرْتُهُمْ أَنْ یُحْرَقَ عَلَیْهِمُ الْبَیْتُ.

قالَ: فَلَمّا خَرَجَ عُمَرُ جاؤُوها، فَقالَتْ: تَعْلَمُونَ أنَّ عَمَرَ قَدْ جاءَنی، وَقَدْ حَلَفَ بِاللّه لَئِنْ عُدْتُم لَیَحرِقَنَّ عَلَیْکُمُ الْبَیْتَ، وَأَیْمُ اللّه لَیْمِضَیَنَّ لِما حَلَفَ عَلَیْهِ»(1).

وقد وردت هذه الحادثة بسند صحیح فی کتاب «المصنّف».

ب) البلاذری، المحدّث الکبیر عند العامّة فی کتاب «أنساب الاشراف»

روی أحمد بن یحیی بن جابر البغدادی البلاذری (م 270) صاحب التاریخ المعروف، هذه الحادثة التاریخیّة فی کتابه «أنساب الأشراف» قائلاً:

«إِنَّ أَبابَکر أَرْسَلَ إلی عَلیٍّ یُریدُ الْبَیْعَةَ فَلَمْ یُبایِعْ، فَجاءَ عُمَرُ وَمَعَهُ فَتیلة! فَتَلَقَّتْهُ

ص:23


1- (1) المصنف لأبن أبی شیبة، ج 8، ص 572، کتاب المغازی.

فاطِمَةُ عَلَی الْبابِ.

فَقالَتْ فاطِمَةُ: یَا ابْنَ الْخَطّاب، أَتَراک مُحْرِقاً عَلیَّ بابی؟ قالَ: نَعَمْ، وَذلِک أَقْوی فیما جاءَ بِهِ أَبُوک....»(1).

ج) ابن قتیبة وکتاب «الإمامة والسیاسة»

المؤرّخ الشهیر عبداللّه بن مسلم بن قتیبة الدینوری (212-276) من أساطین الأدب، وکتاب التاریخ الإسلامی ومؤلف کتاب (تأویل مختلف الحدیث)، (أدب الکاتب) و....(2) قال فی کتاب «الإمامة والسیاسة»:

«إنّ أبابَکْر (رض) تَفَقَّدَ قَوْماً تَخَلَّفُوا عَنْ بَیْعَتِهِ عِنْدَ عَلیّ کَرَّمَ اللّه وَجْهَهُ فَبَعَثَ إِلَیْهِمْ عُمَرَ فَجاءَ فَناداهُمْ وَهُمْ فی دارِ عَلیٍّ، فَأَبَوْا أَنْ یَخْرُجُوا فَدَعا بِالْحَطَب وَقالَ:

وَالَّذی نَفْسُ عُمَرَ بِیَدِهِ لَتَخْرُجَنَّ أَوْ لأَحْرَقَنَّها عَلی مَنْ فیها، فَقیلَ لَهُ: یا أبا حَفص إِنَّ فیها فاطِمَةَ. فَقالَ: وَإِنْ!»(3).

وأضاف ابن قتیبة عقب ذکره لهذه الحادثة البشعة والمؤلمة فقال:

«ثُمَّ قامَ عُمَرُ فَمَشی مَعَهُ جَماعَةٌ حَتّی أَتَوْا فاطِمَةَ فَدقُّوا الْبابَ فَلَمّا سَمِعَتْ أصْواتَهُم نادَتْ بِأَعْلی صَوْتِها یا أَبَتاهُ یا رَسُولَ اللّه ماذا لَقینا بَعْدَک مِنْ ابنِ الْخَطّابِ وَابنِ أبی قُحافة فَلَمّا سَمِعَ الْقَوْمُ صَوْتَها وَبُکاءَها انْصَرَفُوا وَبَقِیَ عُمَرُ وَمَعَهُ قَوْمٌ فَأَخْرَجُوا عَلَیّاً فَمَضَوْا بِهِ إلی أبی بَکْر فَقالُوا لَهُ: بایِعْ، فَقالَ: إنْ أَنَا لَمْ أَفْعَلْ فَمَه؟ فَقالُوا: إِذاً وَاللّه الَّذی لا إلهَ إِلّا هُوَ نَضْرِبُ عُنُقَک...!»(4).

طبعاً یصعب جدّاً هضم هذه الحقبة من التاریخ علی بعض الموالین للشیخین، لذلک سعی البعض للتشکیک فی نسب هذا الکتاب لابن قتیبة، فی حین یراه ابن

ص:24


1- (1) أنساب الأشراف، ج 1، ص 586، طبع دار المعارف، القاهرة.
2- (2) الأعلام للزرکلی، ج 4، ص 137.
3- (3) الإمامة والسیاسة لابن قتیبة، ص 12، مطبعة المکتبة التجاریة الکبری، مصر.
4- (4) المصدر السابق، ص 13.

أبی الحدید الأستاذ البارع فی التاریخ، أنّه من کتبه وقد روی منه العدید من المطالب، والمؤسف أنّ هذا الکتاب طالته ید التحریف وحذفت بعض مواضیعه عند الطباعة، بینما وردت نفس تلک المطالب فی «شرح نهج البلاغة» لابن أبی الحدید المعتزلی.

وعدّه الزرکلی فی کتاب «الأعلام»، من آثار ابن قتیبة وقال: هنالک رأی للعلماء فی هذه النسبة؛ أی أنّه ینسب الشک إلی الآخرین ولیس لنفسه، کما یراه إلیاس سرکیس من کتب ابن قتیبة(1).

د) الطبری وتاریخه

ذکر محمد بن جریر الطبری (م 310) فی تاریخه حادثة هتک حرمة بیت الوحی فقال:

«أتی عُمَرُ بنُ الْخَطّابِ مَنْزِلَ عَلیٍّ وَفیهِ طَلْحَةٌ وَالزُّبَیْرُ وَرِجالٌ مِنَ الْمُهاجِرِینَ، فَقالَ: وَاللّه لاََحْرِقَنَّ عَلَیْکُمْ أَوْ لَتَخْرُجَنَّ إلی الْبَیْعَةِ، فَخَرَج عَلَیْهِ الزُّبیرُ مُصْلِتاً بِالسَّیْفِ فَعَثَرَ فَسَقَطَ السَّیْفُ مِنْ یَدِهِ، فَوَثَبُوا عَلَیْهِ فَأَخَذُوهُ»(2).

تفید هذه الحقبة التاریخیّة أنّ أخذ البیعة للخلیفة تمّ فی ظلّ التهدید والوعید وأمّا قیمة مثل هذه البیعة فمتروکة لإنصاف القراء الأعزاء.

ه) ابن عبد ربه وکتاب «العقد الفرید»

أورد شهاب الدین أحمد المعروف ب (ابن عبد ربه الأندلسی) مؤلف کتاب (العقد الفرید) (م 463) بحثا مسهباً فی کتابه بشأن تاریخ السقیفة، فقد قال فی فصل من تخلف عن بیعة أبی بکر:

ص:25


1- (1) معجم المطبوعات العربیة، ج 1، ص 212.
2- (2) تاریخ الطبری، ج 2، ص 443، طبعة بیروت.

«فَأمّا عَلیٌّ وَالْعَبّاسُ وَالزُّبَیرُ فَقَعَدُوا فِی بَیْتِ فاطِمَةَ حَتّی بَعَثَ إِلَیْهِمْ أَبُوبَکْر، عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ لِیُخْرِجَهُمْ مِنْ بَیْتِ فاطِمَةَ وَقالَ لَهُ: إنْ أَبَوْا فَقاتِلْهُمْ، فَأَقْبَلَ بِقَبَس مِنْ نار أَنْ یُضرِمَ عَلَیْهِمُ الدّارَ، فَلَقِیَتْهُ فاطِمَةُ فَقَالَتْ لَهُ: یا ابْنَ الْخَطّابِ أَجِئْتَ لِتُحْرِقَ دارَنا؟! قالَ: نِعَمْ، أوْ تَدْخُلُوا فیما دَخَلَتْ فیهِ الأُمَّةُ!»(1).

تمّ إلی هنا الفصل الذی صرّح فیه بالعزم علی انتهاک الحرمة، ونخوض الآن فی الفصل الثانی الذی یفید التطبیق العملی لنیّة السوء المبیتة، والحذر من الاعتقاد بأنّ نیّة القوم کانت تقتصر علی التهدید والوعید لیجبروا علیّاً علیه السلام وصحبه علی البیعة وأنّهم لم یکونوا یفکرون بتفعیل ذلک التهدید.

وقوع الهجوم

انتهی إلی هنا کلام تلک الطائفة من المؤرّخین الذین اقتصروا علی الإشارة إلی سوء نیّة الخلیفة وبطانته، الطائفة التی لم ترد أو لم تستطع عکس الفصول القادمة لتلک الفاجعة بصورة واضحة، فی حین أشار البعض الآخر إلی أصل الجریمة؛ أی الهجوم علی البیت و... وإلیک الآن وثائق الهجوم وانتهاک حرمة بیت الرسالة والوحی، بیت فاطمة الزهراء علیها السلام: (وسنراعی فی هذا الفصل أیضاً الترتیب الزمانی فی نقل المصادر).

و) أبوعبید وکتاب «الأموال»

قال أبوعبید، قاسم بن سلام (م 224) فی کتابه (الأموال) الموثق عند العامّة:

«قال عبدالرّحمن بن عوف: عدت أبابکر فی مرضه فی بیته، فقال بعد کلام طویل: وددت أنی لم أفعل ثلاثاً کنت فعلتهنّ، کما وددت أنی سألت النّبی عن ثلاث؛ وإحدی الثلاث التی فعلتها ووددت أنّی لم أفعلها: «وَدَدْتُ أنّی لَمْ أکْشِفْ

ص:26


1- (1) العقد الفرید، ج 4، ص 93، طبع مکتبة الهلال.

بَیْتَ فاطِمَةَ وَتَرَکْتُهُ وَإنْ أُغْلِقَ عَلَی الْحَرْبِ»(1).

قال أبوعبید لما بلغ هذا الموضع بدلاً من العبارة: «لم أکشف بیت فاطمة وترکته...»: «کذا وکذا» وقال، لا أود ذکره!

ورغم امتناع أبی عبید، عن ذکر الحقیقة بسبب تعصبه المذهبی أو لعلة أخری؛ غیر أنّ المحقّقین لکتاب الأموال قالوا فی الحاشیة: وردت العبارة المحذوفة فی کتاب میزان الاعتدال، کما ذکر الطبرانی تلک العبارة فی معجمه وابن عبد ربّه فی العقد الفرید، وغیرهم من المؤرخین. (لابدّ من الدقّة!).

ز) الطبرانی و «المعجم الکبیر»

أبو القاسم سلیمان بن أحمد الطبرانی (260-360) الذی عدّه الذهبی فی میزان الاعتدال ثقة(2). حیث تحدّث فی کتاب (المعجم الکبیر) الذی طبع کراراً عن أبی بکر ووفاته:

ود أبوبکر عند وفاته أموراً فقال: وددت أنّی لم أفعل ثلاثاً وفعلت ثلاثاً وسألت رسول اللّه عن ثلاث: «أمّا الثَّلاثُ اللاّئی وَدَدْتُ أنّی لَمْ أَفْعَلْهُنَّ، فَوَدَدْتُ أنّی لَمْ أَکُنْ أکْشِفُ بَیْتَ فاطِمَةَ وَتَرَکْتُهُ...»(3).

تفید هذه العبارات أنّ تهدیدات عمر دخلت حیز التنفیذ وفتح باب الدار بالقوّة (أو بالنار).

ح) أیضاً ابن عبد ربّه و «العقد الفرید»

روی ابن عبد ربّه الأندلسی مؤلف کتاب العقد الفرید (م 463) فی کتابه عن

ص:27


1- (1) الأموال، الحاشیة 4، نشر الکلیات الأزهریة، کذلک ص 144، طبعة بیروت، کما روی ذلک ابن عبد ربّه فی العقد الفرید، ج 4، ص 93 کما سیرد علینا.
2- (2) . میزان الاعتدال، ج 2، ص 195.
3- (3) المعجم الکبیر للطبرانی، ج 1، ص 62، ح 34، تحقیق حمدی عبدالمجید السلفی.

عبدالرحمن بن عوف:

«دَخِلتُ عَلی أبِی بَکرٍ فِی مَرضِهِ فَقَالَ: وَدَدّتُ أنّی لَم أفعَل ثَلاثاً إحدَاها:

وَدَدْتُ أنّی لَمْ أکْشِفْ بَیْتَ فاطِمَةَ عَنْ شیء وَإنْ کانُوا أَغْلَقُوهُ عَلَی الْحَرْبِ»(1).

وسیرد علینا أسماء وعبارات سائر الشخصیات الذین نقلوا هذا القسم من کلام الخلیفة.

ط) کلام النظّام فی کتاب «الوافی بالوفیات»

إبراهیم بن سیار النظّام المعتزلی (160-231) الذی لقب بالنظّام لجمال کلامه فی النظم والنثر، نقل فی عدّة کتب تفاصیل الواقعة بعد الوقوف علی بیت فاطمة الزهراء علیها السلام. فقال:

«إِنَّ عُمَرَ ضَرَبَ بَطْنَ فاطِمَةَ یَوْمَ الْبَیْعَةِ حَتّی ألْقَتِ الْمُحْسِنَ مِنْ بَطْنِها»(2).

ی) المبرّد فی کتاب «الکامل»

کتب ابن أبی الحدید: روی الأدیب المعروف صاحب المؤلفات المشهورة محمد بن یزید بن عبدالأکبر البغدادی (210-285) فی کتاب «الکامل» عن عبدالرحمن بن عوف، قصّة أمانی الخلیفة فقال:

«وَدَدْتُ أنّی لَمْ أکُنْ کَشَفْتُ عَنْ بَیْتِ فاطِمَةَ وَتَرَکْتُهُ وَلَوْ أُغْلِقَ عَلَی الْحَرْبِ»(3).

ک) المسعودی و «مروج الذهب»

کتب المسعودی (م 325) فی «مروج الذهب»: لما حضرت أبابکر الوفاة قال:

ص:28


1- (1) العقد الفرید، ج 4، ص 93، طبع مکتبة الهلال.
2- (2) الوافی بالوفیات، ج 6، ص 17، رقم 2444؛ الملل والنحل للشهرستانی، ج 1، ص 57، طبع دارالمعرفة، بیروت وللوقوف علی ترجمة النظّام راجع کتاب «بحوث فی الملل والنحل»، ج 3، ص 248-255.
3- (3) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 2، ص 46 و 47، طبعة مصر.

فعلت ثلاثاً تمنیت أنّی لم أفعلها:

«فَوَدَدْتُ أنّی لَمْ أَکُنْ فَتَّشْتُ بَیْتَ فاطِمَةَ» وَذَکَرَ فی ذلِک کَلاماً کَثیراً!!!(1).

ورغم اعتقاد المسعودی بأهل البیت؛ لکنه امتنع هنا عن التعرض لکلام الخلیفة ومرّ علیه علی نحو الکنایة، وبالطبع فإنّ اللّه یعلم السبب وعباد اللّه أیضاً یعلمونه إجمالاً!

ل) الذهبی وکتاب «میزان الاعتدال»

روی الذهبی فی کتاب «میزان الاعتدال» عن الحافظ محمّد بن أحمد الکوفی أنّه قرأ هذا الخبر علی أحمد بن محمّد المعروف ب (ابن أبی دارم)، المحدّث الکوفی (م 357):

«إنّ عُمَرَ رَفَسَ فاطِمَةَ حَتّی أسْقَطَتْ بِمُحْسِن!»(2).

م) عبدالفتاح عبدالمقصود وکتاب «الإمام علی»

فقد ذکر الهجوم علی بیت الرسالة فی موضعین من کتابه ونکتفی بنقل أحدهما:

قال عمر: «وَالّذی نَفْسُ عُمَرَ بِیَدِهِ، لَیَخْرُجَنَّ أَوْ لاَحْرِقَنّها عَلی مَنْ فِیها...! قَالتْ لَهُ طَائِفَةٌ خَافتْ اللّهَ وَرَعتْ الرّسُولَ فِی عَقِبهِ: یا أباحَفْص، إِنَّ فِیها فاطِمَةَ...»!

فَصاحَ لایُبالی: وَإن...! وَاقْتَرَبَ وَقَرَعَ الْبابَ، ثُمَّ ضَرَبَهُ وَاقْتَحَمَهُ... وَبَدا لَهُ عَلیّ... وَرَنَّ حینَذاک صَوْتُ الزَّهْراءِ عِنْدَ مَدْخَلِ الدّارِ... فَإنْ هِیَ إلّاطَنینَ اسْتِغاثَة...!»(3).

ونختتم هذا البحث بروایة أخری عن مقاتل بن عطیّة فی کتاب الإمامة والخلافة (وإن کان هنالک الکثیر الذی یقال!).

ص:29


1- (1) مروج الذهب، ج 2، ص 301، مطبعة دار الأندلس، بیروت.
2- (2) میزان الاعتدال، ج 1، ص 139، العدد 552.
3- (3) عبدالفتاح عبدالمقصود، علی بن أبی طالب، ج 4، ص 276 و 277.

حیث ذکر فی هذا الکتاب:

«إنّ أبابکر بَعْدَ ما أَخَذَ الْبَیْعَةَ لِنَفْسِهِ مِنَ النّاسِ بِالإرْهابِ وَالسَّیْفِ وَالْقُوَّةِ أرْسَلَ عُمَرَ وَقُنْفُذاً وَجَماعَةً إلی دارِ عَلیّ وَفاطِمَةً علیهما السلام وَجَمَعَ عُمَرُ الْحَطَبَ عَلی دارِ فاطِمَةَ وَأَحْرَق بابَ الدّارِ!...»(1).

وردت فی ذیل هذه الروایة عبارات یعجز القلم عن بیانها.

النتیجة

بالرغم من کلّ هذه الوثائق الواضحة وأغلبها من مصادر العامّة مازال هناک البعض الذی یستعمل عبارة «اُسطورة الشهادة» ویؤمن بأنّ هذه الحادثة المریرة مصطنعة! ولولا إصرار هذا البعض علی نفی هذه الحقائق لما أسهبنا إلی هذا الحد فی البحث.

4. القبر الطاهر لفاطمة الزهراء علیها السلام

إن إحدی المصائب العظیمة لبضعة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّ قبرها الشریف مازال مجهولاً لحدّ الآن؛ ویری البعض وحسب طائفة من الروایات أنّها دفنت فی البقیع، والبعض الآخر أنّها دفنت فی بیتها إلی جانب مسجد النّبی، وآخرون أنّها دفنت فی الروضة (المسافة الواقعة بین قبر النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله ومنبره الشریف).

وهذا المطلب یحمل کلّ محقق علی التفکیر، تری، ما العاصفة التی اعترت الاُمّة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله لیخفی القبر الطاهر لبضعة النّبی الوحیدة؟ وإن دلّت أغلب القرائن علی دفنها فی بیتها، فالدفن فی الروضة لم یکن هیناً آنذاک ومن المستبعد أن یرضی علی علیه السلام بهذا العمل، کما لا ینسجم دفنها فی البقیع وما ورد فی هذه الخطبة، لأن

ص:30


1- (1) الإمامة والخلافة، ص 160 و 161، تألیف مقاتل بن عطیة مع مقدمة الدکتور حامد داود، استاذ جامعة عین شمس، الذی طبع بالقاهرة (مطبعة بیروت، مؤسّسة البلاغ).

العبارة: «النّازِلَةِ فِی جَوارِکَ» تشیر إلی أنّ قبرها علیها السلام کان جوار قبر النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله.

روی المرحوم العلاّمة المجلسی عن إبراهیم بن محمّد الهمدانی أنّه قال: کتبت للإمام الهادی (علی بن محمّد النقی علیهما السلام) أخبرنی عن قبر فاطمة علیها السلام! فکتب إلیَّ:

«هِیَ مَعَ جَدّی صَلَواتُ اللّه عَلَیْهِ وَآلِهِ»(1).

قال المرحوم الصدوق: الصحیح عندی أنّها دفنت فی بیتها وحین زاد بنو امیة فی المسجد أصبحت جزءً منه(2).

ورغم أنّ قبر النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وسائر القبور هی داخل المسجد؛ ولکنه عزل عن المسجد بواسطة الجدران والشبابیک.

روی فی کتاب «عیون أخبار الرضا علیه السلام» عن البزنطی قال: «سألت الرضا عن قبر فاطمة؛ قال:

«دُفِنَتْ فی بَیْتِها فَلَمّا زادَتْ بَنُو امَیَّةَ فی الْمَسْجِدِ صارَتْ فِی الْمَسْجِدِ»(3).

وعلیه فکلّ من یقف عند قبر النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی الروضة المقدّسة ویزور فاطمة الزهراء علیها السلام فإنّه ینال إن شاء اللّه فضیلة زیارتها عن قرب، کما یمکن زیارتها فی البقیع برجاء المطلوبیة.

5. زمان شهادة بضعة النّبی

لم یقتصر الخلاف علی موضع دفن بضعة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فحسب، بل هنالک خلاف حتی فی تاریخ وفاتها.

ففی الروایة المعروفة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

ص:31


1- (1) بحارالأنوار، ج 97، ص 198، ح 18.
2- (2) من لایحضره الفقیه، ج 2، ص 572.
3- (3) عیون أخبارالرضا علیه السلام، ج 2، ص 278، ح 76.

«إِنَّ فاطِمَةَ علیها السلام مَکَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ صلی الله علیه و آله خَمْسَةً وَسَبْعینَ یَوْماً».

وورد فی ذیل هذه الروایة:

«کَانَ سَبَبُ فَوْتِها أَنَّ قُنْفُذَ مَوْلی عُمَرَ لَکَزَها بِنَعْلِ السَّیْفِ بِأَمْرِهِ فَأَسْقَطَتْ مُحْسِناً وَمَرِضَتْ مِنْ ذلِک مَرَضاً شَدیداً»(1).

وبالنظر إلی أن وفاة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله کانت فی 28 صفر فإنّ شهادتها لابدّ أن تکون فی أحد هذه الأیّام الثلاثة؛ الثالث عشر أو الرابع عشر أو الخامس عشر من جمادی الأولی (مع الأخذ بنظر الاعتبار احتمال تمامیة أو نقصان الأشهر الوسط).

وورد فی روایة أخری أنّ الصدیقة الطاهرة فاطمة علیها السلام توفیت یوم الثلاثاء الثالث من جمادی الآخرة السنة الحادیة عشرة للهجرة(2) وتنسجم هذه الروایة مع الرأی القائل أنّ فاطمة الزهراء علیها السلام عاشت بعد أبیها 95 یوماً.

وعدّ المرحوم العلّامة المجلسی فی «زاد المعاد» هذا القول بشأن زمان وفاة الزهراء علیها السلام، معتبراً وقال: وهذا مقبول الشیخ الطوسی والسیّد ابن طاووس وآخرین، ورغم منافاة هذه الروایة مع روایة ال 75 یوماً؛ ولکن حیث تعززها روایة مشهورة ومعتبرة، فلابدّ من إقامة مراسم العزاء علی الصدیقة الطاهرة فی الیوم الثالث من جمادی الثانیة(3).

کما ورد فی روایة غیر مشهورة أنّها عاشت بعد وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله 40 یوماً(4).

***

ص:32


1- (1) دلائل الإمامة، ص 134، ح 43؛ بحارالأنوار، ج 43، ص 170، ح 11. کتب المرحوم العلاّمة المجلسی فی الشرح فی الصفحة 215 بعد الحدیث 47: «فی الْخَبَرِ الصَّحیحِ أنَّها عاشَتْ بَعْدَ أَبیها خَمْسَة وَسَبْعینَ یَوْماً».
2- (2) . بحار الأنوار، ج 43، ص 170، ح 11.
3- (3) زاد المعاد، ص 456.
4- (4) کشف الغمّة، ج 2، ص 77؛ بحارالأنوار، ج 43، ص 7، ح 8.

الخطبة 203

اشارة

فِی التَّزْهیدِ مِنَ الدُّنْیا وَالتَّرْغیبِ فِی الآخِرَةِ(1)

نظرة إلی الخطبة

أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة القصیرة والعمیقة المعانی إلی بضعة أمور:

1. أنّ الدنیا دار ممر لیس أکثر وأنّ الآخرة هی مقرّ الإنسان الأبدی ولابدّ من التزود من الممر لدار المقرّ.

2. ینبغی للإنسان أن یحلق بروحه خارج الدنیا قبل أن یزول جسده.

3. الدنیا دار امتحان ومسرح ابتلاء.

4. إنّ الناس ینظرون إلی أموال الإنسان التی یخلفها حین یغادر الدنیا بینما تنظر الملائکة إلی أعماله.

***

ص:33


1- (1) سند الخطبة: ذکر بعض العلماء قبل وبعد السیّد الرضی، هذه الخطبة فی کتبهم؛ فقد رواها قبل السیّد الرضی، المرحوم الصدوق، فی «الأمالی» و «عیون أخبار الرضا علیه السلام»، والمرحوم الشیخ المفید فی کتاب «الإرشاد» (الأمالی للصدوق، ص 172، ح 174؛ عیون أخبارالرضا علیه السلام، ج 2، ص 267، ح 56؛ الإرشاد، ج 1، ص 296) ورواها من بعد السیّد الرضی (بدون الاستناد لنهج البلاغة) المرحوم الطبرسی فی «مشکاة الأنوار» وورّام بن أبی فراس فی «مجموعة ورّام» (مشکاة الأنوار، ص 467؛ مجموعة ورام، ج 2، ص 165). (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 98).

ص:34

أَیُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا الدُّنْیَا دَارُ مَجَاز، وَالاْخِرَةُ دَارُ قَرَار، فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّکُمْ لِمَقَرِّکُمْ، وَلاَ تَهْتِکُوا أَسْتَارَکُمْ عِنْدَ مَنْ یَعْلَمُ أَسْرَارَکُمْ، وَأَخْرِجُوا مِنَ الدُّنْیَا قُلُوبَکُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُکُمْ، فَفِیهَا اخْتُبِرْتُمْ، وَلِغَیْرِهَا خُلِقْتُمْ. إِنَّ الْمَرْءَ إِذَا هَلَک قَالَ النَّاسُ: مَا تَرَک؟ وَقَالَتِ الْمَلاَئِکَةُ: مَا قَدَّمَ؟ للّه آبَاؤُکُمْ! فَقَدِّمُوا بَعْضاً یَکُنْ لَکُمْ قَرْضاً، وَلاَ تُخْلِفُوا کُلاًّ فَیَکُونَ فَرْضاً عَلَیْکُمْ.

الشرح والتفسیر الدنیا ممرّ

أشار الإمام علیه السلام فی بدایة هذه الخطبة إلی مسألة مهمّة بشأن حقیقة الدنیا والآخرة حیث تعدّ الغفلة عنها مصدر شقاء الإنسان وتعاساته، فقال: «أَیُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا الدُّنْیَا دَارُ مَجَاز(1) ، وَالأخِرَةُ دَارُ قَرَار، فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّکُمْ لِمَقَرِّکُمْ».

إنّ أغلب المشاکل تنبع من کون الإنسان یری الدنیا دار بقاء، ومن هنا ینهمک بجمع المال والثروة عن أی طریق ومهما کلّف الأمر، ویبخل بها إزاء صرفها فی الأمور الخیریة، ولذلک یرتکب العدید من الأفعال السیئة ویسوّف التوبة، وقد وردت هذه الحقیقة بعدّة تعبیرات فی الروایات لتعتبر الدنیا أحیاناً:

«الدنیا قنطرة»(2)، وأخری: «مَتْجَرُ أوْلِیاءِ اللّه»(3)، وتارة «الدُّنْیا مَزْرَعَةُ

ص:35


1- (1) «مَجاز» من مادة «جواز» بمعنی العبور وأرید بها هنا الممر والعبور (وإن کان لها معنی مصدری). ومن هنا یطلق المجاز فی الکلام کون المتکلم یتجاوز المعنی الحقیقی ویظفر بمعنی آخر یناسبه.
2- (2) . بحار الأنوار، ج 14، ص 319، ح 21.
3- (3) نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 131.

الآخِرَةِ»(1) والتی تفید جمیعاً ذات المعنی.

ثم أشار فی هذا السیاق إلی أمر آخر فقال: «وَ لاَ تَهْتِکُوا أَسْتَارَکُمْ عِنْدَ مَنْ یَعْلَمُ أَسْرَارَکُمْ».

یری أغلب الشرّاح أنّ هذه العبارة تشیر إلی عدم التجاهر بالمعصیة، لأنّ المعصیة الخفیة فی الواقع معصیة واحدة، بینما تعتبر المعصیة العلنیة مضاعفة کونها انتهاک للستار وتلویث للبیئة الاجتماعیة؛ إلّاأنّ بعض الشرّاح اعتبرها إشارة إلی أعمال الخیر فإنّها أفضل أن یؤتی بها فی الخفاء، والحال العبارة (وَلا تَهْتِکُوا) لا تتناسب مع هذا المعنی.

علی کلّ حال فإنّ اللّه ستّار العیوب وغفّار الذنوب؛ فمادام العبد لا یهتک الستر فإنّ اللّه یستر العیب والذنب.

فقد ورد فی الحدیث عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام: «ما مِنْ عَبْد إلّاوَعَلَیْهِ أرْبَعُونَ جُنّة حَتّی یَعْمَلَ أرْبَعینَ کَبیرَة فَإذا عَمِلَ أرْبَعینَ کَبیرَة انْکَشَفَتْ عَنْهُ الجُنَنْ». ثم قال الإمام علیه السلام مواصلاً کلامه: «فَیِوحِی اللّهُ إلَیهَم أنْ استُروا عَلی عَبدِی بِأجْنِحَتِکُم فَتَستُرُهُ المَلائِکةُ بِأجنِحَتِها، قَالَ: فَما یَدع شَیئاً مِنَ القَبِیحِ إلّاقَارَفَهُ حَتّی یَمتَدِحَ إلی النّاسَ بِفِعْلِهِ القَبیحَ، فَیقَولُ المَلائکةُ: یاربّ هَذا عَبدُکَ ما یَدعُ شَیئاً إلّارَکِبَهُ، وَإنّا لَنَستَحی مِمّا یَصنَعُ، فَیُوحِی اللّهُ عزّ وجلّ إلَیهِم أنْ ارفَعُوا أَجْنِحَتَکُم عَنهُ فَإذا فَعَلَ ذَلکَ أَخَذ فِی بُغضِنا أهلَ البَیتِ فَعندَ ذَلِکَ یَنهَتُکُ سِتْرَهُ فِی السَّماءِ وَسِتْرَهِ فِی الأرضِ، فَیقَولُ المَلائکةُ: یاربّ هَذا عَبدُکَ قَد بَقی مَهتُوکَ السِّترِ، فَیُوحِی اللّهُ عزّوجلّ إلَیهِم: لَو کَانتْ للّهِ فِیهِ حَاجةً مَا أَمرَکُم أنْ تَرفَعُوا أَجنِحَتَکُم عَنهُ»(2).

ولعل إرتباط هذه العبارة بالعبارات السابقة أنّ من أسوأ الذنوب التی تخرب الدار الآخرة للإنسان یکمن فی التجاهر بالمعصیة.

ص:36


1- (1) روی هذا الحدیث فی عوالی اللئالی، ج 1، ص 267، ح 66 عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله.
2- (2) الکافی، ج 2، ص 279، ح 9.

ثم واصل الإمام علیه السلام حدیثه عن الزهد فی الدنیا مشیراً إلی نقطة ثالثة فقال:

«وَأَخْرِجُوا مِنَ الدُّنْیَا قُلُوبَکُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُکُمْ».

إخراج القلوب، کنایة لطیفة عن ترک التعلّقات الدنیویة والتهافت علی متاعها وحطامها، والتعبیر «مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ...» تحذیر من تقلب هذا العالم بمعنی أفیقوا فإنّ هذه الأجساد ستصبح تراباً فاسعوا لإخراج قلوبکم من هذه الدنیا قبل الأوان فحبّ الدنیا رأس کلّ خطیئة.

طبعاً لا یعنی هذا أن لا یتمتع المسلمون بحوائج الحیاة أو أن تتخلف المجتمعات الإسلامیّة عن التقدم الاقتصادی ویحتاجون إلی غیرهم، بل المراد التبعیة الشدیدة التی تضطر الإنسان لخرق القانون ومن هنا عدّ الشرّاح هذه العبارة إشارة لترک الأموال الحرام.

ثم قال فی رابع نقطة واکمال ما سبق فقال: «فَفِیهَا اخْتُبِرْتُمْ، وَلِغَیْرِهَا خُلِقْتُمْ».

فهاتان العبارتان الموجزتان توضحان کلّ شی ویشیر الالتفات إلیهما إلی المسار السعید لحیاة الإنسان، نعم فالدنیا دار امتحان والآخرة دار الخلود، قال تعالی:

«أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ یُتْرَکُوا أَنْ یَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ یُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ»(1)، فالامتحان الإلهی کوسیلة لتکامل الإنسان وتهذیبه أمر قطعی لا مفرّ منه وبعبارة أخری من أهداف خلق الإنسان الذی لا استثناء فیه ولابدّ من التعرض لها فی اللیل والنهار والسر والعلانیة والکهولة والشباب.

ثم أشار إلی ثلاثة أمور مهمّة أخری وقال؛ «إِنَّ الْمَرْءَ إِذَا هَلَک قَالَ النَّاسُ: مَا تَرَک؟ وَقَالَتِ الْمَلاَئِکَةُ: مَا قَدَّمَ؟».

المراد من الناس هنا المتعلقین بالدنیا الذین غالباً ما یسألون عن أموال وثروات من یموت، والحال انقطعوا نهائیاً عن تلک الأموال وعلیهم أن یجیبوا عن طرق تحصیل هذه الأموال یوم القیامة والطریف أنّه جعل مقابلهم الملائکة الذین یقتصر

ص:37


1- (1) . سورة العنکبوت، الآیتان 2 و 3.

ترکیزهم علی الأمور والمسائل المعنویة.

ثم قال فی الأخیر: «للّه آبَاؤُکُمْ! فَقَدِّمُوا بَعْضاً یَکُنْ لَکُمْ قَرْضاً، وَلاَ تُخْلِفُوا کُلاًّ فَیَکُونَ فَرْضاً عَلَیْکُمْ».

الجملة «للّه آبَاؤُکُمْ!» تذکر عادة للتعجب المقرون بالاحترام(1) والمراد من الجملة «فَقَدِّمُوا بَعْضاً...» أنّ الإنسان مادام حیّاً ینفق من أمواله فی سبیل اللّه علی الفقراء أو الأمور الخیریة بمقتضی «وَمَا عِنْدَ اللّه بَاق»(2) و «مَّنْ ذَا الَّذِی یُقْرِضُ اللّه قَرْضاً حَسَناً»(3) والتعبیر ب «بعض» حتی لا ینبغی للإنسان أن یحرم ورثته المحتاجین غالباً فذلک بعید عن الانصاف، وقد ورد الذم فی الروایات علی من ینفق أمواله فی حیاته ولا یترک شیئاً للورثة.

قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی أحد الأنصار الذی أنفق جمیع أمواله قبل موته ولم یبق شیئاً لأولاده: «لَوْ أعْلَمْتُمُونی أمْرَهُ ما تَرَکْتُکُمْ تَدْفُنُوهُ مَعَ الْمُسْلِمینَ یَتْرُک صِبیتَهُ صِغاراً یَتَکَفَّفُونَ النّاسَ»(4). طبعاً هذا النهی فی من له ورثة محتاجون.

من جانب آخر ورد الذم بشدّة لمن لا ینفق شیئاً من أمواله فی سبیل اللّه ویبقیه جمیعاً للورثة.

قال الإمام الصادق علیه السلام فی تفسیر الآیة «کَذَلِک یُرِیهِمُ اللّه أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَیْهِمْ»(5): «هُوَ الرَّجُلُ یَدَعُ مالَهُ لا یَنْفِقُهُ فی طاعَةِ اللّه بُخلاً ثُمَّ یَمُوتُ فَیَدَعَهُ لِمَنْ یَعْمَلُ فیهِ بِطاعَةِ اللّه أوْ فی مَعْصِیَةِ اللّه فإنْ عَمِلَ بِهِ فی طاعَةِ اللّه رَآهُ فی میزانِ غَیْرِهِ فَرآهُ حَسْرَةً وَقَدْ کانَ الْمالُ لَهُ وَإِنْ کانَ عَمِلَ بِهِ فی مَعْصِیَةِ اللّه قَوّاهُ بِذلِک الْمالِ حَتّی عَمِلَ بِهِ فی مَعْصِیَةِ اللّه عَزَّوَجَلَّ»(6).

ص:38


1- (1) . ظاهر هذه الجملة بصیغة مبتدأ وخبر، أی أنّ آباءَکم لله ویلزم من ذلک رحمة اللّه علیهما.
2- (2) . سورة النحل، الآیة 96.
3- (3) . سورة البقرة، الآیة 245.
4- (4) الکافی، ج 5، ص 67، ح 1.
5- (5) . سورة البقرة، الآیة 167.
6- (6) الکافی، ج 4، ص 42.

الجملة «فَرْضاً عَلَیْکُمْ» إشارة إلی أنّه إن خلّف کلّ أمواله للورثة فحسابها علیه فی القیامة ومنافعها للاخرین.

وهنا لطیفة أدبیة أنّ الإمام علی علیه السلام استفاد فی هاتین العبارتین من أربعة أشیاء، «قدّموا» فی مقابل «لا تخلفوا» و «بعض» إزاء «کلّ» و «قرض» مقابل «فرض» و «لکم» فی مقابل «علیکم» وهی دلالة علی فصاحة وبلاغة کلام الإمام علیه السلام.

تأمّل: الإکثار من هذه العبارة

الأجدر بکلّ إنسان أن یتلو کلّ صباح هذه العبارة، فالغفلة والإنهماک طبیعة الدنیا؛ الغفلة التی غالباً ما تؤدی إلی المعصیة التی تبعد العبد عن اللّه.

فالعبارة المذکورة وضحت موضع الدنیا وتضمنت وصایا بشأن الاستعداد والتاهب لذلک السفر المصیری.

طبعاً کلمات الإمام علیه السلام لا تعنی أن یکفّ الإنسان عن السعی من أجل الحیاة المادیة، فذلک مدعاة للفقر والعوز، فالفقر هو الأساس لأنواع المعاصی والتغرب عن الإسلام وهی التبعیة التی تقضی علی عزّة الإسلام وتکسر شوکته؛ بل المراد تغییر النظرة إلی الدنیا؛ التمتع بجمیع النعم ولکن شریطة الاستفادة من الأموال فی سبیل قضاء الحوائج واستثمارها من أجل نیل السعادة فی الدار الآخرة وتسکین أنین المحرومین، والابتعاد عن کنز الأموال والثروة وإنفاق قسمٍ من الأموال حال الحیاة وآدخارها للمعاد.

***

ص:39

ص:40

الخطبة 204

اشارة

کانَ کَثیراً ما یُنادی بِهِ أصْحابه(1)

نظرة إلی الخطبة

یستفاد من العنوان الذی اختاره السید الرضی للخطبة أنّ الإمام علیه السلام خاطب صحبه کراراً وکثیراً ما کرر هذا الکلام، کما یفهم من روایة وردت فی «مصادر نهج البلاغة» أنّه علیه السلام نادی الناس ثلاثاً بعد صلاة العشاء لیسمع الجمیع ویطرق سمعهم هذا الکلام، والخطبة فی الواقع موعظة لجمیع الناس أنّ الحیاة الدنیا قصیرة ولابدّ من الاستعداد للمنازل المرعبة بعدها کالقبر والبرزخ والقیامة، تحذیر بقطع التعلق العمیق بالدنیا وأنّ عمرها قصیر ونهایتها وشیکة، تحذیر بغیة التزود لذلک السفر الطویل والخطیر.

ص:41


1- (1) سند الخطبة: ذکر هذه الخطبة عدد من الضالعین فی العلوم الإسلامیّة ممن عاش قبل السید الرضی وبعده، ومنهم المرحوم الصدوق فی کتابه «الأمالی»، المجلس الخامس والسبعین (أمالی الصدوق، ص 588، ح 810). کما رواها الشیخ المفید فی «المجالس» مرفوعة للإمام الباقر علیه السلام (أمالی المفید، ص 199، ح 32) وببعض الإضافات فی کتاب «الإرشاد» (الإرشاد، ج 1، ص 234)، ورواها المرحوم الطبرسی فی «المشکاة» (مشکاة الأنوار، ص 524) وبالنظر لبعض الاختلافات مع ما نقله الرضی یتضح أنّها اقتبست من طرق أخری. (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 99).

ص:42

تَجَهَّزُوا، رَحِمَکُمُ اللّه، فَقَدْ نُودِیَ فِیکُمْ بِالرَّحِیلِ، وَأَقِلُّوا الْعُرْجَةَ عَلَی الدُّنْیَا، وَانْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِکُمْ مِنَ الزَّادِ، فَإِنَّ أَمَامَکُمْ عَقَبَةً کَؤُوداً، وَمَنَازِلَ مَخُوفَةً مَهُولَةً، لاَبُدَّ مِنَ الْوُرُودِ عَلَیْهَا، وَالْوُقُوفِ عِنْدَهَا. وَاعْلَمُوا أَنَّ مَلاَحِظَ الْمَنِیَّةِ نَحْوَکُمْ دَانِیَةٌ، وَکَأَنَّکُمْ بِمَخَالِبِهَا وَقَدْ نَشِبَتْ فِیکُمْ، وَقَدْ دَهَمَتْکُمْ فِیهَا مُفْظِعَاتُ الاُْمُورِ، وَمُعْضِلاَتُ الَْمحْذُورِ. فَقَطِّعُوا عَلاَئِقَ الدُّنْیَا وَاسْتَظْهِرُوا بِزَادِ التَّقْوَی.

الشرح والتفسیر: الابتعاد عن طلّاب الدنیا

تشبه هذه الخطبة الخطبة السابقة وتدور فی فلکها، فهی تحذیر لأهل الدنیا بأن لا ینسوا مکانهم منها وأن یلتفتوا لما ینتظرهم من أیّام ویستعدوا لها، فیقول:

«تَجَهَّزُوا، رَحِمَکُمُ اللّه، فَقَدْ نُودِیَ فِیکُمْ بِالرَّحِیلِ، وَأَقِلُّوا الْعُرْجَةَ عَلَی الدُّنْیَا».

فقد شبه الإمام علیه السلام المجتمع البشری بقافلة ینتظرها مقصد عظیم، وبصفته زعیم القافلة ینادی الجمیع بالتأهب للحرکة.

و «الرحیل» بمعنی السفر وقد ورد لها معنیان لدی الشراح، الحرکة نحو الآخرة والسیر والسلوک إلی اللّه، ولا مانع من مناداة الناس بالتأهب والحرکة باتجاه القیامة ودعوة الخواص إلی السیر والسلوک إلی اللّه.

ورد فی بعض الروایات الاستعداد للموت بدل التجهز لسفر الآخرة، فقد سئل أمیرالمؤمنین علیه السلام: «مَا الاسْتِعْدادُ لِلْمَوْتِ؟» قال علیه السلام: «أداءُ الْفَرائِضِ وَاجْتِنابُ

ص:43

الْمَحارِمِ وَالاشْتِمالُ عَلَی الْمَکارِمِ ثُمَّ لایُبالی أوَقَعَ عَلَی الْمَوْتِ أَمْ وَقَعَ الْمَوْتُ عَلَیْهِ»(1).

وقد وردت عدّة احتمالات بشأن المنادی، فقیل: ملک من الملائکة کما ورد فی إحدی الکلمات القصار لنهج البلاغة(2) کما نظمه البعض بصیغة شعریة:

لَهُ مَلَکٌ یُنادی کُلَّ یَوْمٍلِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرابِ

أو أنّ المنادی هو الحوادث والبلایا کالعواصف التی تجتاح حیاة الناس کلّ یوم، أو إشارة إلی آثار الشیخوخة التی تتبلور فی ذبول الجسد ومشیب الشعر وانحناء القامة والتی تنادی بالرحیل بلسان الحال، وإن اعتبرنا الرحیل بمعنی السیر والسلوک إلی اللّه وتهذیب النفس، فالمنادی هو اللّه فی القرآن، وأئمّة العصمة فی الروایات، الذین یهتفون بنداء الموت ومغادرة الدنیا.

ومفهوم العرجة علی ضوء معنی الإقامة، هو الحدّ من التعلق بالإقامة فی الدنیا وعدم عدّها خالدة، کحال المتهافتین علیها.

ثم بیّن أسلوب الاستعداد لسفر الآخرة فقال: «وَانْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِکُمْ (3)مِنَ الزَّادِ».

«انقلبوا» عبارة، لطیفة تشیر إلی التحول الباطنی، أی حولوا انتباهکم عن الانغماس فی الدنیا إلی إعداد الزاد والمتاع الأخروی.

«بحضرتکم» إشارة لما یتمتع به الإنسان من قدرات وفرص.

ثم خاض الإمام علیه السلام فی الدلیل علی لزوم تحصیل الزاد والمتاع فقال: «فَإِنَّ أَمَامَکُمْ عَقَبَةً کَؤُوداً(4) ، وَمَنَازِلَ مَخُوفَةً مَهُولَةً(5) ، لاَبُدَّ مِنَ الْوُرُودِ عَلَیْهَا، وَالْوُقُوفِ عِنْدَهَا».

ص:44


1- (1) بحار الأنوار، ج 74، ص 382، ح 7.
2- (2) نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 132.
3- (3) . «حضرت» بمعنی «الحضور» وهی هنا إشارة إلی الفرص التی تنتظر الإنسان. واستعمال هذه المفردة بشأن العظام کونه لا یرید خطابهم، بل یلتفت إلی حضورهم.
4- (4) «کؤود» من مادة «کأد» بمعنی الشدّة والصعوبة وعقبة «کؤود» صعبة العبور.
5- (5) «مهولة» من مادة «هول» بمعنی الخوف و «مهول» اسم مفعول؛ یعنی مخیف.

وقد ورد فی الخبر المروی عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «إِنَّ فی الْقِیامَةِ خَمْسینَ مَوْقِفاً کُلُّ مَوْقِف کألْفِ سَنَة مِمّا تَعُدُّونَ»(1).

وروی ما یشبه هذا المعنی بصورة أسهب عن الإمام علیه السلام(2) ویحتمل أنّ هناک أحد الأعمال الواجبة فی کلّ موقف من المواقف کالصلاة والصوم والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر أو السؤال عن الکبائر والتی یتطلب من أصحابها إجابة فی ظلّ الظروف الصعبة والمخیفة فإنّ عبروها بسلام کانوا موضع رحمة اللّه والجنّة وإلّا عرضوا للبلاء.

وبعبارة أخری کما قال المرحوم الشیخ المفید: إنّ المراد من هذه العقبات، الأعمال الواجبة التی تشبه کلّ منها بالعقبة، وکما یصعب عبور هذه العقبات تصعب الاجابة عن هذه الأعمال.

قال تعالی فی سورة البلد: «فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاک مَا الْعَقَبَةُ * فَکُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِی یَوْمٍ ذِی مَسْغَبَةٍ * یَتِیماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْکِیناً ذَا مَتْرَبَةٍ».(3)

طبعاً لا فرق بهذا الشأن بین الدنیا والآخرة فی ما المراد من هذه العقبات؟ سیما ورد بشأن القیامة: «وَیَسْأَلُونَک عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ یَنسِفُهَا رَبِّی نَسْفاً * فَیَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَی فِیهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً»(4).

وعلیه لا یبدو وارداً اعتراض المرحوم العلّامة المجلسی علی الشیخ المفید فی ضرورة عدم حمل الألفاظ علی معانیها المجازیة دون الأصلیة(5) ، فهذا الإشکال

ص:45


1- (1) بحار الأنوار، ج 7، ص 126، ح 3.
2- (2) . المصدر السابق، ص 111، ح 42.
3- (3) سورة البلد، الآیات 11-16.
4- (4) سورة طه، الآیات 105-107.
5- (5) . للوقوف علی کلام المرحوم الشیخ المفید والعلّامة المجلسی راجع کتاب بحار الأنوار، ج 7، ص 129.

یرد حین لا تکون هناک قرائن ویکفی فی هول القیامة قوله تعالی: «یَا أَیُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّکُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَیْءٌ عَظِیمٌ * یَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ کُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ کُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَی النَّاسَ سُکَارَی وَمَا هُمْ بِسُکَارَی وَلَکِنَّ عَذَابَ اللّه شَدِیدٌ»(1).

ثم تعمق الإمام علیه السلام فی شرح هذا الأمر فوعظ الجمیع قائلاً: «وَاعْلَمُوا أَنَّ مَلاَحِظَ(2) الْمَنِیَّةِ(3) نَحْوَکُمْ دَانِیَةٌ(4) ، وَکَأَنَّکُمْ بِمَخَالِبِهَا(5) وَقَدْ نَشِبَتْ(6) فِیکُمْ، وَقَدْ دَهَمَتْکُمْ(7) فِیهَا مُفْظِعَاتُ(8) الاُْمُورِ، وَمُعْضِلاَتُ(9) الْمَحْذُورِ».

ویشیر هذا الکلام إلی عدم وجود مسافة بین الإنسان والموت مهما کان عمره، ففی کلّ آن یمکن وقوع حادثة مفاجئة ویصیبه مرض فی کلّ حین أو یباغته عدو فی الهجوم، ولعل حیاة الإنسان تزول إذا غص بلقمة، أو یلاقی حتفه إذا انسدت شرایین قلبه أو اصیب بسکتة دماغیة أو أن یقطع نخاعه أثر ضربة مفاجئة فیعیش طریح الفراش طیلة حیاته.

واختتم الإمام علیه السلام الخطبة باستنتاج بیّن وبلیغ فقال: «فَقَطِّعُوا عَلاَئِقَ الدُّنْیَا وَاسْتَظْهِرُوا(10) بِزَادِ التَّقْوَی».

والمراد من علائق الدنیا هو التعلق المفرط بالمال والجاه والزوج والولد، بالشکل الذی یغفل الإنسان عن اللّه ویسهل علیه مقارفة المعصیة لنیل الدنیا ویزین له مفاتنها

ص:46


1- (1) سورة الحج، الآیتان 1 و 2.
2- (2) . «ملاحظ» جمع «ملحظ» مصدر میمی، بمعنی النظر أو النظر بطرف العین.
3- (3) «منیّة» من مادة «منی» علی وزن «سعی» بمعنی التقدیر وتطلق هذه المفردة علی الموت کونه مقدراً علی مصیر الإنسان.
4- (4) «دانیة» بمعنی قریبة من مادة «دنوّ» علی وزن «علوّ».
5- (5) «مخالب» جمع «مخلب» أظافر الحیوانات أو الطیور.
6- (6) «نشبت» من مادة «نشب» علی وزن «غصب» بمعنی الانغماس.
7- (7) «دهمت» من مادة «دهم» بمعنی باغتت.
8- (8) «مفظعات» جمع «مفظعة» بمعنی الحادثة الشدیدة أکثر من اللازم.
9- (9) «معضلات» جمع «معضلة»؛ یعنی الشیء الذی یجعل الإنسان فی غایة الضیق کما یقال المعضلة للطریق الضیق.
10- (10) «استظهروا» من «الاستظهار» بمعنی الاستعانة بالشخص أو الشیء، ومادته الأصلیة «ظهر».

وعبارة الاستظهار بزاد التقوی إشارة إلی أنّ آخرة الإنسان تتطلب فی هذا السفر الخطیر والمخیف نقاط ارتکاز تسهل علیه اجتیاز الطریق ولیس هنالک من مرتکز أفضل من زاد الورع والتقوی.

وحین بلغ المرحوم السیّد الرضی هذا الموضع قال: «وَقَدْ مَضی شَیٌ مِنْ هذا الْکَلامِ فیما تَقَدَّمَ بِخِلافِ هذِهِ الرِّوایَةِ».

والظاهر أنّ مراده، الخطبة 85 التی تشترک ببعض العبارات مع الکلام المذکور.

***

ص:47

ص:48

الخطبة 205

اشارة

کَلَّمَ بِهِ طَلْحَةَ وَالزُّبَیْرَ بَعْدَ بَیْعَتِهِ بِالْخِلافَةَ وَقَدْ عَتَبا عَلَیْهِ مِنْ تَرْک مَشْوِرَتِهِما، وَالاسْتِعانَةِ فی الأُمُورِ بِهِما(1)

نظرة إلی الخطبة

کما ورد فی عنوان الخطبة فإنّ هذا الکلام ردّ علی بعض إشکالات طلحة والزبیر اللذین کانا یتوقعان أن یجعل لهما الإمام علیه السلام نصیب کبیر من الحکومة واستشارتهما فی جمیع الأمور، فذکر لهما الإمام علیه السلام بعض الأمور التی تبیّن بوضوح مسیرة حکومته وتضع حدّاً لتوقعاتهما الخاطئة:

الأوّل: إنّ هؤلاء یعتبون من هذا الباب، لم کلّ هذا الغضب علی شیء یبدو بسیطاً وقد نسیت العدید من المحاسن.

ثم بین فی جانب آخر أن لیست هنالک من مشکلة مستجدة بشأن الحکومة

ص:49


1- (1) سند الخطبة: المصدر الوحید الذی ذکر هذه الخطبة قبل السیّد الرضی کما ورد فی «مصادر نهج البلاغة»، کتاب «نقض العثمانیة» لأبی جعفر الاسکافی (م 240) ویفهم من کلامه أنّه لم یشاهد بنفسه هذا الکتاب؛ بل استفاده من کلام ابن أبی الحدید فی «شرح نهج البلاغة»، ج 7، ص 36-41. (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 102) کما رواها المرحوم العلاّمة المجلسی فی بحار الأنوار، ج 32، ص 21 عن «شرح نهج البلاغة» لابن أبی الحدید.

لیستشیرهما بخصوصها؛ بل سیقود الدولة علی هدی الکتاب والسنّة، وبالطبع لو استجد أمر یدعو إلی المشورة فإنّه لن یمتنع عنها قط.

وأجاب فی القسم الثالث عن الإشکال الذی یرد علیه علی التسویة فی العطاء من بیت المال والذی یستند أیضاً إلی السنّة النبویة.

وخاض فی ختام الخطبة فی دعاء عظیم المعنی سائلاً اللّه الرحمة لکل من رأی حقّاً وأعان علیه ووقف بوجه الباطل.

***

ص:50

القسم الأوّل

لَقَدَ نَقَمْتُمَا یَسِیراً، وَأَرْجَأْتُمَا کَثِیراً. أَلا تُخْبِرَانِی، أَیُّ شَیْء کَانَ لَکُمَا فِیهِ حَقٌّ دَفَعْتُکُمَا عَنْهُ؟ أَمْ أَیُّ قَسْم اسْتَأْثَرْتُ عَلَیْکُمَا بِهِ؟ أَمْ أَیُّ حَقٍّ رَفَعَهُ إِلَیَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِینَ ضَعُفْتُ عَنْهُ، أَمْ جَهِلْتُهُ، أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ!

وَاللّه مَا کانَتْ لِی فِی الْخِلاَفَةِ رَغْبَةٌ، وَلاَ فِی الْوِلاَیَةِ إِرْبَةٌ، وَلَکِنَّکُمْ دَعَوْتُمُونِی إِلَیْهَا، وَحَمَلْتُمُونِی عَلَیْهَا، فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَیَّ نَظَرْتُ إلَی کِتَابِ اللّه وَمَا وَضَعَ لَنَا، وَأَمَرَنَا بِالْحُکْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ، وَمَا اسْتَنَّ النَّبِیُّ (صلی اللّه علیه وآله)، فَاقْتَدَیْتُهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ فِی ذلِک إِلَی رَأْیِکُمَا، وَلاَ رَأْیِ غَیْرِکُمَا، وَلاَ وَقَعَ حُکْمٌ جَهِلْتُهُ؛ فأَسْتَشِیرَکُمَا وَإِخْوَانِی مِنَ الْمُسْلِمِینَ؛ وَلَوْ کَانَ ذلِک لَمْ أَرْغَبْ عَنْکُمَا، وَلاَ عَنْ غَیْرِکُمَا.

الشرح والتفسیر: حجج طلحة والزبیر

لما تفاقمت الأوضاع ومشاکل المسلمین علی عهد عثمان وقام الناس علیه ناقمین علی اغداقه المناصب علی بطانته وقرابته وتوزیع أموال بیت مال المسلمین علیهم وتجاهله للمحرومین والمحتاجین، هب عدد من الصحابة لنصرتهم وکان قی مقدمتهم طلحة والزبیر، وهما اللذان أصرا علی الإمام بقبول الحکومة، فکانا من السباقین لبیعة الإمام علیه السلام؛ إلّاأنّهما علی غرار أولئک الذین یفکرون بطریقة سیاسیة ولیست ربانیّة ورحمانیّة، فهم یتوقعون علی الدوام نیل المناصب الحکومیة؛ ویوردون ذلک صراحة تارة وأخری عن طریق بعض الذرائع لیبینوا هدفهم من

ص:51

خلال الکنایة.

وهذا ما کان یتوقعه طلحة والزبیر من الإمام علیه السلام؛ فکان طلحة یطمح فی حکومة البصرة، والزبیر فی حکومة الکوفة، وقال البعض: إنّ طلحة کان یرید حکومة الیمن، والزبیر حکومة العراق، ولما کانت مثل هذه الرشاوی السیاسیة تقود عادة إلی تجزئة الدولة بغض النظر عن مخالفتها لروح العدالة، ناهیک عن کون ذلک هو السبب الذی أدی إلی قیام المسلمین علی عثمان فإنّ الإمام لم یستجب لتلک الطموحات.

وحین یئس طلحة والزبیر من تحقیق غرضهما أخذا بالنقد والإشکال علی الإمام أوّلاً، ثم أشعلا نار الجمل؛ النار التی احترقا فی أتونها فقال علیه السلام: «لَقَدْ نَقَمْتُمَا (1)یَسِیراً، وَأَرْجَأْتُما(2) کَثِیراً».

والمراد من الیسیر ترک مشورتهما، والمراد من الکثیر مصالح المسلمین، فطلحة والزبیر استعانا بذرائع واهیة بغیة تحقیق أهدافهما وأدارا ظهریهما لمصالح المسلمین التی تفرزها وحدة الصف والوقوف خلف الإمام علیه السلام، وهذا هو أسلوب الباحثین عن العیوب ضیقی الاُفق الذین یضحون بمصالح الاُمّة من أجل تحقیق أطماعهم.

ثم قال الإمام علیه السلام: «أَلاَ تُخْبِرَانِی، أَیُّ شَیْء کَانَ لَکُمَا فِیهِ حَقٌّ دَفَعْتُکُمَا عَنْهُ؟ أَمْ أَیُّ قَسْم اسْتَأْثَرْتُ(3) عَلَیْکُمَا بِهِ؟ أَمْ أَیُّ حَقٍّ رَفَعَهُ إِلَیَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِینَ ضَعُفْتُ عَنْهُ، أَمْ جَهِلْتُهُ، أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ!».

الواقع أنّ الإمام علیه السلام أراد بهذه العبارة أن یغلق جمیع أبواب النقد والإشکال التی یمکن أن یلجها طلحة والزبیر، فالانتقاد إمّا یرتبط بحقهما الشخصی أو بسائر المسلمین، ومطالباتهما الشخصیة إمّا تتعلق بضیاع حقهما أو التصرف فیه، وما یتعلق بسائر

ص:52


1- (1) . «نقمتما» من مادة «نقم» علی وزن «قلم» تعنی فی الأصل الإنکار علی الشخص أو الشیء؛ سواء باللسان أوبالعمل عن طریق العقاب ومنه الانتقام ووردت هنا بمعنی الإنکار اللفظی.
2- (2) «أرجأتما» من «الإرجاء» بمعنی التأخیر ومادتها الأصلیة «رجاء» بمعنی الأمل وقد استعملت بهذا المعنی کون الإنسان یؤخر العمل فی أغلب المواقع بغیة تحقیق الهدف.
3- (3) . «استأثرت» من «الاستئثار» یعنی خص النفس بالشیء الحسن. وفسّرت أحیاناً بالاستبداد والاحتکار ومادتهاالأصلیة «اثر» بمعنی العلامة.

المسلمین إمّا یکون تقصیر فی إحقاق الحقوق أو الجهل بحق أو الخطأ فی التنفیذ.

والإمام علیه السلام یقول لهما: إن کان لدیکما إشکال علی أیٍّ من هذه الأمور قولا لی صراحة، وحیث لم یستطیعا الإشارة إلی قضیة عجزا عن الإتیان بإجابة، وهذا دیدن جمیع المخطئین الانتهازیین الذین یرسلون الکلام علی عواهنه ویثیرون الضجیج دون الإشارة إلی نقطة معینة.

ثم قدم الإمام علیه السلام جواباً واضحاً لإشکالهما بخصوص ترک المشورة فقال: «وَاللّه مَا کانَتْ لِی فِی الْخِلاَفَةِ رَغْبَةٌ، وَلاَ فِی الْوِلاَیَةِ إِرْبَةٌ(1) ، وَلَکِنَّکُمْ دَعَوْتُمُونِی إِلَیْهَا، وَحَمَلْتُمُونِی عَلَیْهَا، فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَیَّ نَظَرْتُ إلَی کِتَابِ اللّه وَمَا وَضَعَ لَنَا، وَأَمَرَنَا بِالْحُکْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ، وَمَا اسْتَنَّ النَّبِیُّ صلی الله علیه و آله، فَاقْتَدَیْتُهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ فِی ذلِک إِلَی رَأْیِکُمَا، وَلاَ رَأْیِ غَیْرِکُمَا، وَلاَ وَقَعَ حُکْمٌ جَهِلْتُهُ؛ فأَسْتَشِیرَکُمَا وَإِخْوَانِی مِنَ الْمُسْلِمِینَ؛ وَلَوْ کَانَ ذلِک لَمْ أَرْغَبْ عَنْکُمَا، وَلاَ عَنْ غَیْرِکُمَا».

أشار الإمام علیه السلام فی الواقع بهذه العبارة إلی أمرین؛ الأوّل: إنّه لم یتخذ عضداً فی قبول الخلافة الظاهریة وقد تمّت الحجّة علیه بقبولها بفعل إصرار المسلمین ولاسیما بعضهم کطلحة والزبیر، وعلیه فلیس هنالک من توقع من الإمام سوی رعایة حقوق الناس.

طبعاً أصحاب الدنیا الذین ینشدون المناصب یدعون هذا وذاک لدعمهم ویعدونهم ببعض المناصب قبل بلوغها إن وصلوا لسدّة الحکم، لکن لا معنی لمثل هذا التوقع بالنسبة لأولیاء اللّه الذین لا یرغبون فی هذه المناصب سوی استجابة لرغبة الناس.

الثانی: إنّ مسألة المشورة صحیحة؛ ولکن «لکل مقام مقال ولکل حادثة حدیث» حقاً لیس هنالک من مجال للمشورة فی الأمور الإسلامیّة القطعیّة وأوامر اللّه والنّبی صلی الله علیه و آله، بینما تبدو المشورة مفتوحة فی الأمور التنفیذیة التی تتنوع أسالیبها.

ص:53


1- (1) . «إربة» من مادة «أرب» علی وزن «عرب» تعنی فی الأصل شدّة الحاجة التی یجهد الإنسان من أجل قضائها.

فالإمام علیه السلام یقول: لا تتوقعوا أن أستشیرکما فی القضایا المهمّة کالعدل وإعادة الأموال المغصوبة علی عهد عثمان إلی بیت المال والتسویة فی العطاء، وسوف لن اتردد فی هذه المشورة إن کان إلیها من سبیل.

***

ص:54

القسم الثانی

وَأَمَّا مَا ذَکَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الاُْسْوَةِ، فَإِنَّ ذلِک أَمْرٌ لَمْ أَحْکُمْ أَنَا فِیهِ بِرَأْیِی، وَلاَ وَلِیتُهُ هَوًی مِنِّی، بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَأَنْتُمَا مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللّه صلی الله علیه و آله قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَیْکُمَا فِیَما قَدْ فَرَغَ اللّه مِنْ قَسْمِهِ، وَأَمْضَی فِیهِ حُکْمَهُ، فَلَیْسَ لَکُمَا، وَاللّه، عِنْدِی وَلاَ لِغَیْرِکُمَا فِی هذَا عُتْبَی. أَخَذَ اللّه بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِکُمْ إِلَی الْحَقِّ، وَأَلْهَمَنَا وَإِیَّاکُمُ الصَّبْرَ.

ثم قال علیه السلام: رَحِمَ اللّه رَجُلاً رَأَی حَقًّا فَأَعَانَ عَلَیْهِ، أَوْ رَأَی جَوْراً فَرَدَّهُ، وَکَانَ عَوْناً بِالْحَقِّ عَلَی صَاحِبه.

الشرح والتفسیر: حکم اللّه

رکّز الإمام علیه السلام هنا علی أحد الإشکالات الرئیسیّة لطلحة والزبیر وأمثالهما علی الإمام فی التسویة فی العطاء من بیت المال فقال: «وَأَمَّا مَا ذَکَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الاُْسْوَةِ، فَإِنَّ ذلِک أَمْرٌ لَمْ أَحْکُمْ أَنَا فِیهِ بِرَأْیِی، وَلاَ وَلِیتُهُ هَوًی مِنِّی، بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَأَنْتُمَا مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللّه صلی الله علیه و آله قَدْ فُرِغَ مِنْهُ».

المفردة «اُسوة» وإن استعملت غالباً بمعنی الإقتداء والاتباع ولم تذکر لها المصادر اللغویة معنی آخر غیر هذا المعنی(1) ؛ إلّاأنّ بعض اللغویین صرحوا بأنّ

ص:55


1- (1) . راجع کتاب «العین» و «لسان العرب» و «مجمع البحرین» ماده «أسوة». قال المرحوم الطبرسی فی «مجمع البیان» فی ذیل الآیة 21 من سورة الأحزاب: «لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»: «أی قدوة صالحة یقال: لی فی فلان أُسوة. أی لی به إقتداء... اسم وضع موضع المصدر» وطبق هذا البیان «اُسوة» بمعنی الإقتداء وله وضع الاسم المصدری، ویشهد علی ذلک تعبیر القرآن: «فِی رَسُولِ اللّه أُسْوَةٌ» ولم یقل: «رسول اللّه اسوة»، وکأن الاقتداء بشخص یوجد نوعاً من المساواة به فقد وردت اسوة بمعنی المساواة وهذا المراد بها فی هذه العبارة. ومن هنا قال الإمام إنّما اقتدیت برسول اللّه صلی الله علیه و آله وعملت بسیرته.

أحد معانیها، المساواة، ومن هنا یقال لمن افلس: «المال أُسوة بین الغرماء».

فإن اعتبرنا معنی «أسوة» حسب المتعارف (الإقتداء) فسیکون مفهوم العبارة أنّ طلحة والزبیر وأمثالهما اعترضوا علی الإمام علیه السلام: لم لم تقتد بسیرة عمر وعثمان؟ فأولئک کانوا یراعون شأن الشخص واسمه وعنوانه فی العطاء ولم یسوّوا فی العطاء بین المسلمین قط.

ثم قال: «فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَیْکُمَا فِیَما قَدْ فَرَغَ اللّه مِنْ قَسْمِهِ، وَأَمْضَی فِیهِ حُکْمَهُ، فَلَیْسَ لَکُمَا، وَاللّه، عِنْدِی وَلاَ لِغَیْرِکُمَا فِی هذَا عُتْبَی(1)».

واختتم الإمام علیه السلام کلامه بالدعاء له ولهم موصیاً إیّاهم بالثبات علی الحقّ والصبر علیه فتضرع قائلاً: «أَخَذَ اللّه بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِکُمْ إِلَی الْحَقِّ، وَأَلْهَمَنَا وَإِیَّاکُمُ الصَّبْرَ».

من الواضح أنّ الحقّ مریر فی أغلب المواقع ویصعب تحمله، وهذا ما یجعل الإنسان أحیاناً لا یری الحقّ ولو رآه لایحتمله، لذلک یطلب الإمام علیه السلام من اللّه شیئین؛ الأوّل أن یریه والآخرین الحقّ کما هو، ومن ثم یتلطف علیه بتحمل مرارته.

ورد فی إحدی قصار کلمات «نهج البلاغة» أنّه علیه السلام قال: «إنَّ الْحَقَّ ثَقیلٌ مَریءٌ وَإنَّ الْباطِلَ خَفیفٌ وَبیءٌ»(2). ثم قال علیه السلام: «رَحِمَ اللّه رَجُلاً رَأَی حَقًّا فَأَعَانَ عَلَیْهِ، أَوْ رَأَی جَوْراً فَرَدَّهُ، وَکَانَ عَوْناً بِالْحَقِّ عَلَی صَاحِبِهِ».

ص:56


1- (1) «عتبی» من مادة «عتب» علی وزن «خطب» تعنی فی الأصل الانزعاج الباطنی وإذا وردت فی باب الأفعال عنت إزالة هذا الإنزعاج وبما أنّ عتاب الطرف المقابل أحد أسباب إطفاء غضبه، فإنّ العتبی ترد بمعنی العتاب وهذا هو المعنی المراد بها فی العبارة. والإمام علیه السلام یقول لطلحة والزبیر لیس لکما حق عتابی والإنکار علی.
2- (2) . نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 376.

تأمّلات

1. علّة التسویة فی العطاء

لو ولی أمیرالمؤمنین علی علیه السلام الخلافة الظاهریة عقب رسول اللّه صلی الله علیه و آله لَما کانت هنالک من مشکلة، لأنّه کان سیواصل سیرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله؛ إلّاأنّ الطامة الکبری أنّ الإمام تولّاها حین اعتاد المسلمون أنواع التمییز علی عهد الخلیفة الثانی وأعظم منها علی عهد عثمان وکان من الصعب علیهم للغایة تغییر ما اعتادوا علیه وکانت جلّ جهود الإمام تترکز علی القضاء علی تلک السیاسات العنصریة، والسبب الرئیسی للحروب کالجمل وصفین إنّما یقف وراءَها أنصار التمییز العنصری.

لا شک أنّ طلحة والزبیر کانا من السابقین إلی الإسلام وکان لهما دور مهم فی نصرة الدین، کما کانت لهما مواقفهما المعروفة فی الدفاع عن النّبی فی أغلب الغزوات الإسلامیّة؛ إلّاأنّ الانحراف عن المنهج النبوی الذی شهده عهد الخلیفة الثانی والثالث وما رصدا من امتیازات خاصة لهذین وأمثالهما من بیت المال جعلهما یعتادان الابتزاز، ومن هنا تعالت أصواتهما منذ البدایة حین وقف الإمام علیه السلام بحزم بوجه تلک الامتیازات، وعلی غرار الدهشة التی أصابت الناس فی العصر الجاهلی حین تبدلت الهتهم المتعددة إلی الإله الواحد القهار فقد اصیب هؤلاء بالذهول لتغیر ذلک المنهج فاعترضا علی الإمام، لم لم یستشرهما، ولم یتوقعا هذه المشورة فی تقسیم أموال بیت المال، بل توقعاها فی توزیع المناصب والمقامات الحساسة، وبالتالی کانا یطمعان بحصّة ولم یصدّقا أنّ الإمام بهذا الحزم سیعید الاُمّة إلی منهج النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله 0

ولما طاشت احلامهما استعرت نیران الحقد فی قلبیهما واستحوذت علیهما الأفکار الشیطانیّة فأجّجا نیران الحروب التی احترقا بلهیبها.

جدیر بالذکر أنّ أموال بیت المال علی نوعین؛ قسم منه کالزکاة الذی له عدّة مصارف ویمکن ترجیح البعض علی البعض الآخر (بما یناسب جهودهم)؛ مثلا

ص:57

«الُمؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ» و «العامِلینَ عَلَیْها» أو القضاة وأمثالهم کان کلّ یتسلم سهماً من الزکاة بما یتناسب وموقعه وجهده، کما کان النّبی صلی الله علیه و آله یمیز بین المشاة والفرسان فی الغنائم؛ إلّاأنّ قسماً مهماً من الدخل کالخراج الذی یؤخذ من الأراضی الخراجیّة(1) والتی تشکل مبالغ طائلة فلابدّ من توزیعها بالسویة علی المسلمین.

بالضبط کالشی الموقوف علی الأولاد والذین ینبغی أن یأخذوا منه بالتساوی کیفما کانوا وکالدعم الذی یدفع فی عصرنا من بیت المال الذی یتساوی فیه رئیس الجمهوریة والإنسان العادی، وأدنی امتیاز لشخصٍ دون شخصٍ مرفوض.

وقد شهد عصر الخلیفة الأوّل، المنهج النبوی ومساواة الجمیع؛ إلّاأنّ التمییز بدأ منذ عهد عمر بشهادة التواریخ المعتبرة وبلغ ذروته علی عهد عثمان واستمر ذلک 22 سنة حتی أصبح هذا الفعل الشنیع بالتدریج سُنّة.

ولنترک الکلام هنا لابن أبی الحدید الذی بین خفایا مهمّة بالاستناد إلی التواریخ والروایات فکشف النقاب عن أغلب أسرار عصر الخلفاء وحکومة أمیرالمؤمنین علی علیه السلام، فقد أورد شرحاً مسهباً هذه خلاصته:

«ثم بویع - الإمام علی علیه السلام - وصعد المنبر فی الیوم الثانی من یوم البیعة، وهو یوم السبت، لإحدی عشرة لیلة بقینَ من ذی الحجّة، فحمد اللّه وأثنی علیه، وذکر محمّد صلّی علیه، ثم ذکر نعمة اللّه علی أهل الإسلام، ثم ذکر الدنیا، فزهّدهم فیها، وذکر الآخرة فرغّبهم إلیها، ثم قال:

أما بعد، فإنّه قبض رسول صلّی اللّه علیه... ثم إلتفت علیه السلام یمیناً وشمالاً، فقال: ألا یقولنّ رجال منکم غداً قد غرتهم الدنیا فاتخذوا العَقار، وفجّروا الأنهار، ورکبوا الخیول الفارهة، واتخذوا الوصائف الرّوقة، فصار ذلک علیهم عاراً وشناراً، إذا ما منعتُهم ما کانوا یخوضون فیه، وأصرتهم إلی حقوقهم التی یعلمون، فیقیمون ذلک،

ص:58


1- (1) . «الأراضی الخراجیة» الأراضی التی تقع بید المسلمین فی الفتوحات الإسلامیّة وتوضع تحت تصرف المزارعین ویؤخذ منهم بالمقابل ضرائب تدعی «الخراج» والذی یبدو کثیراً بالنظر لسعة تلک الأراضی.

ویستنکرون یقولون: حَرمَنا ابن أبی طالب حقوقنا! ألا وأیّما رجل من المهاجرین والأنصار من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه یری أن الفضل له علی مَنْ سواه لصحبته، فإنّ الفضل النیر غداً عند اللّه، وثوابه وأجره علی اللّه، وأیّما رجل استجاب للّه وللرسول، فصدق ملّتنا، ودخل فی دیننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد اللّه، والمال مال اللّه، یقسّم بینکم بالسویّة، لا فضل فیه لأحد علی أحدٍ، وللمتقین عند اللّه أحسن الجزاء، وأفضل الثواب، لم یجعل اللّه الدنیا للمتقین أجراً ولا ثواباً، وما عند اللّه خیر للأبرار، وإذا کان غداً إن شاء اللّه فاغدوا علینا، فإنّ عندنا مالاً نقسّمه فیکم، ولا یتخلّفن أحد منکم، عربی ولا عجمی، کان من أهل العطاء أو لم یکن، إلّاحضر، إذا کان مسلماً حرّاً، أقول قولی هذا وأستغفر اللّه لی ولکم، ثم نزل.

فلما کان من الغد، غدا الناس لقبض المال، فقال لعبید اللّه بن أبی رافع کاتبه: إبدأ بالمهاجرین فنادهم، وأعط کلّ رجل ممن حضر ثلاثة دنانیر، ثم ثنّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلک، ومن یحضر من الناس کلّهم الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلک.

فقال سهل بن حنیف: یا أمیرالمؤمنین، هذا غلامی بالأمس، وقد أعتقته الیوم، فقال: نعطیه کما نعطیک، فأعطی کلّ واحد منهما ثلاثة دنانیر، ولم یفضّل أحد علی أحد، وتخلّف عن هذا القسم یومئذٍ طلحة والزبیر، وعبداللّه بن عمر، وسعید بن العاص، ومروان بن الحکم، ورجال من قریش وغیرها.

قال: وسمع عبید اللّه بن أبی رافع عبداللّه بن الزبیر یقول لأبیه وطلحة ومروان وسعید: ما خفی علینا أمس کلام علیّ، ما یرید؟ فقال سعید بن العاص - والتفت إلی زید بن ثابت: إیّاک أعنی وأسمعی یا جارة، فقال عبید اللّه بن أبی رافع لسعید وعبداللّه بن الزبیر: إنّ اللّه یقول فی کتابه: «ولکنّ أکثرَهُم لِلحقِّ کَارِهُون»(1).

ثم إنّ عبید اللّه بن أبی رافع أخبر علیّاً علیه السلام بذلک، فقال: «وَاللّهِ إن بَقیتُ وَسلمتُ

ص:59


1- (1) سورة الزخرف، الآیة 43.

لَهُم لأُقیمَنّهم عَلی المحجّة البَیضاءِ، وَالطّریقُ الواضحٌ، قَاتَل اللّهُ ابن العاص! لَقَد عَرفَ مِن کَلامی وَنظری إلیهِ أمس أنّی أُریدهُ وَأصحابَهُ مِمَن هَلکَ فِیمَن هَلکَ.

فقال، فبینا الناس فی المسجد بعد الصبح إذ طلع الزبیر وطلحة، فجلسا ناحیة عن علی علیه السلام، ثم طلع مروان وسعید وعبداللّه بن الزبیر، فجلسوا إلیهما، ثم جاء قوم من قریش فانضموا إلیهم، فتحدّثوا نجیّاً ساعة! ثم قام الولید بن عقبة بن أبی معیط، فجاء إلی علی علیه السلام، فقال: یا أباالحسن، إنّک قد وترتنا جمیعاً، أمّا أنا فقتلت أبی یوم بدر صبراً، وخذلت أخی یوم الدار بالأمس، وأمّا سعید فقتلت أباه یوم بدر فی الحرب - وکان ثور قریش - وأمّا مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمّه إلیه، ونحن إخوتک ونظراؤک من بنی عبدمناف، ونحن نبایعک الیوم علی أن تضع عنّا ما أصبناه من المال فی أیّام عثمان، وأن تقتل قتلته، وإنا إن خفناک ترکناک، فالتحقنا بالشام.

فقال: أمّا ما ذَکرتُم مِن وَتری إیّاکَم فَالحقُّ وَترَکُم، وأمّا وَضعی عَنکُم ما أصبتُم فَلیس لِی أن أضعَ حقّ اللّهَ عَنکُم وَلا عَن غَیرکُم، أمّا قَتلی قتلة عُثمان فَلو لَزمَنی قَتلَهم الیوم لَقتَلتُهم أمس، وَلکن لکُم علیّ إن خِفتُمونِی أن أؤمّنکُم وإن خِفتُکُم أن أُسیّرکم.

فقام الولید إلی أصحابه فحدّثهم، فافترقوا علی إظهار العداوة وإشاعة الخلاف، فلما ظهر ذلک من أمرهم، قال عمار بن یاسر لأصحابه، قوموا بنا إلی هؤلاء النفر من إخوانکم فإنّه قد بلغنا عنهم ورأینا منهم ما نکره من الخلاف والطعن علی إمامهم، وقد دخل أهل الجفاء بینهم وبین الزبیر والأعسر العاق - یعنی طلحة.

فقام أبوالهیثم وعمّار وأیوب وسهل بن حنیف وجماعة منهم، فدخلوا علی علیّ علیه السلام، فقالوا: یاأمیرالمؤمنین، انظر فی أمرک وعاتب قومک، هذا الحیّ من قریش، فإنّهم قد نقضوا عهدک، وأخلفوا وعدک، وقد دعونا فی السر إلی رفضک، وهداک اللّه لرشدک! وذاک لأنّهم کرهوا الاُسوة، وفقدوا الأثرة، ولما آسیت بینهم وبین الأعاجم

ص:60

أنکروا واستشارک عدوک وعظّموا الطلب بدم عثمان فرقة للجماعة، وتألفاً لأهل الضلالة، فرأیک.

فخرج علی علیه السلام فدخل المسجد، وصعد المنبر مرتدیاً بطاق، مؤتزراً ببرد قطری، متقلّداً سیفاً، متوکئاً علی قوس، فقال:

أما بعد، فإنا نَحمدُ اللّهَ رَبّنا وإِلهنا وَوَلیّنا، وَولی النّعم عَلینا، الّذی أَصبحتْ نُعمهُ عَلینا ظاهرةً وباطنةً، امتناناً مِنهُ بِغیر حَولٍ منّا وَلا قُوّةٍ، لَیبلُونا أَنشکُر أو نَکُفر، فمَن شَکرَ زادَهُ وَمَن کَفرَ عذّبهُ، فَأفضلُ النّاسِ عِندَ اللّهِ مَنزلةً، وَأَقرَبهِم مِن اللّهَ وَسِیلةً أَطوَعهِم لأمَرهِ وَأعمَلهِم لطَاعتهِ، وَأَتبَعهِم لِسُنّة رَسُولهِ، وَأحیاهُم لِکتابِهِ، لَیس لأحدٍ عِندنا فَضل إلّابِطاعةِ اللّهِ وَطاعةِ الرّسولِ، هَذا کَتابُ اللّهِ بَینَ أَظهرنا، وَعهدُ رِسولِ اللّهِ وَسِیرَتهِ فِینا، لا یَجهل ذَلکَ إلّاجاهِل عاندَ عَن الحقّ، مُنکر، قال اللّه تعالی: «یا أیُّها الناس إنّا خَلَقناکُم مِنْ ذَکَرٍ وأنثَی وَجَعَلناکُم شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتعارفُوا إِنّ أَکرَمَکُم عِندَ اللّهِ أَتقَاکُم»(1).

ثَمّ صَاحَ بِأعَلی صَوتِهِ، أَطیعُوا اللّهَ وَأطیعُوا الرّسولَ فإن تَولّیتُم فإنّ اللّهَ لا یُجبُّ الکَافرِینَ.

ثم قال: یا مَعشرَ المُهاجرینَ والأنصار، أَتَمنُونَ عَلی اللّهِ وَرَسُولهِ بإسلامِکُم، بَل اللّهُ یَمنّ عَلیکُم أن هَداکُم للإیمانِ إن کُنتُم صادِقِینَ.

ثمّ قال: أنا أبوالحَسن - کان یقولها إذا غضب - ثم قال: أَلا إنّ هَذِه الدّنیا الّتی أَصبَحتُم تَمنّونَها وَتَرغبونَ فِیها، وَأصبحَتْ تُغضبکُم وَترضیکُم، لَیستْ بِدارکُم وَلا مَنزلکُم الّذی خُلقتُم لَه، فَلا تَغرنّکُم فَقد حَذرتُموها، واستَتموا نِعم اللّهِ عَلیکُم بِالصبّرِ لأنفُسکُم عَلی طَاعةِ اللّهِ، وَالذُّل لِحُکمهِ، جَلّ ثناؤه، فأمّا هَذا الفی، فَلیس لأحدٍ عَلی أحدٍ فِیهِ أثرة، وَقد فَرغَ اللّهُ من قِسمتهِ، فَهو مالُ اللّهِ، وَأنتُم عِبادُ اللّهِ المُسلمونَ، وَهَذا کِتابُ اللّهِ بهِ أَقررَنا وَلهُ أَسلَمنا، عَهد نبیّنا بَین أَظهُرنا فمَن لَم یَرضَ بِه فَلیَتولَ کَیفَ

ص:61


1- (1) سورة الحجرات، الآیة 13.

شاءَ فإنّ العامِل بِطاعةِ اللّهِ وَالحاکِم بِحُکم اللّهِ لا وَحشةَ عَلیهِ.

ثم نزل عن المنبر، فصلّی رکعتین، ثم بعث بعمار بن یاسر، وعبدالرحمن بن حسل القرشی إلی طلحة والزبیر، وهما فی ناحیة المسجد، فأتیاهما فدعواهما، فقاما حتی جلسا إلیه علیه السلام، فقال لهما: نَشدتُکُما اللّهِ، هَل جُئتُمانِی طَائِعینِ للبَیعةِ، وَدعَوتُمانِی إلیها، وَأنا کَاره لَها!

قالا: نعم.

فقال علیه السلام: غَیرَ مُجبرین وَلا مقسورین، فأسلمتُما لِی بَیعتُکُما وَأعَطیتُمانی عَهدکُما!

قالا: نعم.

قال: فَما دَعاکُما بَعد إلی ما أری.

قالا: أعطیناک بیعتنا علی ألا تقضی الأمور ولا تقطعها دوننا، أن تستشیرنا فی کلّ أمر ولا تستبد بذلک علینا، ولنا من الفضل علی غیرنا ما قد علمت، فأنت تقسم القسم وتقطع الأمر، وتمضی الحکم بغیر مشاورتنا ولا علمنا.

فقال: لَقَد نَقَمتُما یَسیراً! وأرجأتُما کَثیراً! فاستَغفِرا اللّهَ یَغفِر لَکُما، ألا تُخبرانِی أَدفَعتُکما عَن حقٍّ وَجبَ لَکُما فَظلمتُکُما إیّاه؟

قالا: معاذ اللّه!

قال: فَهل استَأثرتُ مِن هَذا المالِ لِنفسِی بشیء؟

قالا: معاذ اللّه!

قال: أَفَوقعَ حُکم أو حقّ لأحدٍ مِنَ المُسلمینَ فَجَهلتُه أو ضَعفتُ عَنه؟

قالا: معاذ اللّه!

قال: فَما الّذی کَرِهتُما مِن أمرِی حَتّی رَأیتُما خِلافی؟

قالا: خلافک عمر بن الخطاب فی القسم، أنّک جعلت حقّنا فی القسم کحق غیرنا، وسویّت بیننا وبین من لا یماثلنا فیما أفاء اللّه تعالی علینا بأسیافنا ورماحنا

ص:62

وأوجفنا علیه بخیلنا ورجلنا، وظهرت علیه دعوتنا، أخذناه قسراً قهراً، ممن لا یری الإسلام إلّاکرهاً.

فقال: فأمّا ما ذَکرتُماهُ مِنَ الاستشارة لَکُما فَواللّهِ ما کَانتْ لِی فِی الولایة رَغبةً، وَلکِنکُم دَعوتُمونِی إلیها، وَجعلتُمونِی عَلیها، فَخِفتُ أن أردّکُم فَتختَلفُ الاُمّة، فَلمّا أَفضتْ إلیّ نَظرتُ فِی کِتابِ اللّهِ وَسنّةِ رَسولهِ فَأمضیتُ مادلّانِی عَلیهِ وَأتّبعتُه، وَلَم أَحتَج إلی آرائِکُما فِیهِ، وَلا رأی غَیرکُما، وَلو وَقعَ حُکم لَیس فِی کِتابِ اللّهِ بَیانُه وَلا فِی السنّة بُرهانُهُ، واحتِیج إلی المَشاورةِ فِیهِ لَشاورتُکُما فِیهِ، وَأمّا القِسم والأسوة، فإنّ ذَلکَ أَمرٌ لَم أَحکُم فِیهِ بادیء بِدء! قَد وَجدتُ أَنا وأنتُما رَسُول اللّهِ صلّی اللّه علیه وآله یَحکُم بِذلکَ، وَکتابُ اللّهِ ناطقٌ بهِ، وَهو الکَتاب الّذی لا یَأتیهِ الباطلٌ مِن بَین یَدیِه وَلا مِن خَلفهِ تَنزیلٌ مِن حَکیمٍ حَمیدٍ، وَأمّا قَولُکُما: جَعلتَ فَیئنا وَما أَفاءتهُ سُیوفنا ورِماحُنا سَواء بَیننا وبَین غَیرنا، فَقَدیماً سَبق الإسلام قَوم ونَصرُوه بِسیوفِهم وَرِماحهِم فَلم یُفضّلُهم رَسُولُ اللّهِ صلی اللّه علیه وآله فِی القسم، وَلا آثرهم بِالسّبق، واللّهُ سبحانه مُوفٍ السّابقَ وَالمُجاهدَ یَومَ القِیامةِ أَعمالَهُم، وَلَیس لَکُما وَاللّهِ عِندی وَلا لِغَیرکُما إلّاهَذا، أَخذ اللّهُ بِقُلوبِنا وَقُلوبِکُم إلی الحقّ، وَأَلهَمنا وَإیّاکُم الصّبر، ثم قال: رَحم اللّهُ امرأً رَأی حَقّاً فَأعانَ عَلیهِ، وَرأی جَوراً فَردّه، وَکانَ عَوناً للحقّ عَلی مَن خَالفَهُ.

ثم قال ابن أبی الحدید:

فإن قلت: فإنّ أبابکر قسّم السواء، کما قسمه أمیرالمؤمنین علیه السلام ولم ینکروا ذلک، کما أنکروا أیّام أمیرالمؤمنین علیه السلام، فما الفرق بین الحالتین؟

قلت: إنّ أبابکر قسم محتذیاً لقسم رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله، فلما ولی عمر الخلافة وفضّل قوماً علی قوم ألفوا ذلک، ونسُوا تلک القسمة الاُولی، وطالت أیّام عمر، وأشربت قلوبهم حبّ المال... ولما ولی عثمان أجری الأمر علی ما کان عمر یجریه، فازداد وثوق القوم بذلک، ومن ألف أمراً شقّ علیه فراقه، وتغییر العادة فیه،

ص:63

فلما ولی أمیرالمؤمنین علیه السلام أراد أن یردّ الأمر إلی ما کان فی أیّام رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله وأبی بکر، وقد نسی ذلک ورفض، تخلّل بین الزمانین اثنتان وعشرون سنة، فشقّ علیهم وأنکروه وأکبروه، حتی حدث ما حدث من نقض البیعة، ومفارقة الطاعة وللّه أمر هو بالغه»(1).

2. مکانة المشورة

لا شک فی أنّ المشورة من الأصول الإسلامیّة المسلمة ولدی عقلاء العالم والتی تشرک إلی العقل سائر العقول کما ورد فی الخبر «مَنْ شاوَرَ الرِّجالَ شارَکَهُمْ فی عُقُولِهِمْ»(2) إلّاأنّ لها بعض الشروط والأرکان إن لم تراع فهی لا تفقد جدواها فحسب؛ بل تعطی أحیاناً نتائج معکوسة، ومن ذلک أنّ المشورة لابدّ أن تکون فی الأمور التی تخضع للتردد والنفی والإثبات ولو أراد الناس التشاور فی الأمور المسلّمة والأحکام فلربّما أدّی ذلک إلی الریبة فی أصل الأحکام الشرعیّة والوظائف العقلیة المسلمة.

مثلاً لو أراد شخص المشورة فی الحج أو الحجاب أو عرضها علی الرأی العام فلربّما انبری من یقول: ما الضرورة لأن یرصد الناس فی هذا العصر هذه الأموال الطائلة من أجل الذهاب إلی الحج أو إنّ الحجاب فی المجتمع المعاصر قید مضروب علی المرأة!

ولکن إن سلّمنا أنّ الحج أو الحجاب أمر شرعی مقبول لدی جمیع المسلمین بل ضرورة دینیة، یمکننا الجلوس فی شوری کیف یمکن أن یقام الحج وکیف یکون ارتداء الحجاب أفضل؟ ولابدّ من الإذعان إلی أنّ بعض المشاکل التی أصابت المسلمین بسبب کونهم نسوا المکانة الحقیقیة للمشورة.

ص:64


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 7، ص 38-43.
2- (2) . نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 161.

وما أورده الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة نموذج واضح لهذا المطلب، وما کان ینشده طلحة والزبیر انحراف عن هذا الأمر؛ فقد أرادا المشورة فی سنّة النّبی فی التسویة بأموال الخراج فرفض الإمام علیه السلام ذلک.

3. طلحة وحلم الخلافة

یستفاد من مختلف المصادر التاریخیّة أن طلحة والزبیر کانا یتطلعان إلی الخلافة منذ أمد بعید یعود إلی عهد أبی بکر.

ذکر الطبری المؤرّخ المعروف، طبق نقل ابن أبی الحدید فی تاریخه أنّ طلحة کان یهم بالخلافة حتی علی عهد أبی بکر ویروم أن یجعلها فیه بشبهة أنّه ابن عمه، وسخط خلافة عمر فقال لأبی بکر: ولیت علینا فظاً غلیظاً، وکان له فی أیّام عمر قوم یجلسون إلیه ویحادثونه سرّاً فی معنی الخلافة ویقولون له: لو مات عمر لبایعناک بغتة، فبلغ ذلک عمرفخطب وهددهم بالقتل.

وذکر ابن أبی الحدید فی موضع آخر: إنّ طلحة والزبیر أشادا بعمر الذی میّز المهاجرین والأنصار علی سائر المسلمین (وأعطاهم سهماً أکثر من بیت المال).

وکان عمر قد حجر علی أعلام قریش من المهاجرین، الخروج فی البلدان لأنّه یری أنّهم إن خرجوا التفّ حولهم الناس وحصلوا علی الأموال وفیهم من یضمر الفرقة ویروم خلع الربقة، قال الطبری طبق نقل ابن أبی الحدید: فملته قریش ذلک حتی أنّه لم یأذن لهم بالمعارک وقال لهم کفاکم ما أبلیتم فی الغزوات مع رسول اللّه، فلمّا ولی عثمان أجازهم، فخرجوا إلی البلاد وجمعوا الأموال، فکان ذلک أول وهن علی الإسلام وأول فتنة کانت علی العامّة.

وقال ابن ابی الحدید: وکان عمر نقض هذا الرأی السدید بما فعله بعد طعن أبی لؤلؤة له من أمر الشوری، فإنّ ذلک کان سبب کلّ فتنة وقعت وتقع إلی أن تنقضی الدنیا(1).

ص:65


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 11، ص 11-13.

ویتضح من هذه السابقة التاریخیّة لماذا انزعج طلحة والزبیر من خلافة علی علیه السلام فی حین بذلا قصاری جهدهما من أجل تألیب الناس علی قتل عثمان، علی أمل أن یأتی الدور لطلحة، ولما منعهما علی علیه السلام المنصب والمقام (لأنّه یعلم أنّ ذلک مقدمة لتقسیم البلد الإسلامی) بل قطع امتیازاتهما من بیت المال وساوی بین المسلمین حذو النهج النبوی، تمردا علیه وتواطئا مع عائشة ضدّ أمیرالمؤمنین علیه السلام، فی اشعال فتیل حرب الجمل، وبعد تلک الهزیمة ومقتلهما أثار أتباعهما معرکة صفّین لتسلّم بنی أمیة بالتالی مقالید العالم الإسلامی، ثم خلفهم بنو مروان الذین أثاروا ذلک الفساد العظیم.

ومن هنا یتضح أنّ مشکلة طلحة والزبیر لم تکن المشورة بل حتی التسویة فی العطاء کانت قضیة فرعیة؛ کانت مشکلتهما الطمع فی الخلافة، وماسبق لم یکن سوی حجج وذرائع.

***

ص:66

الخطبة 206

اشارة

وَقَدْ سَمِعَ قَوْماً مِنْ أَصْحابِهِ یَسُبُّونَ أهْلَ الشّامِ

أیّامَ حَرْبِهِمْ بِصِفّینَ (1)

نظرة إلی الخطبة

ورد فی کتاب «مصادر نهج البلاغة» أنّ حجر بن عدی وعمرو بن الحمق وهما من أصحاب علی علیه السلام المعروفین کانا یسبّان أهل الشام (فی أیّام صفین) فدعاهما الإمام ونهاهما، فقالا: یا أمیرالمؤمنین، ألسنا علی الحق؟ قال: بلی! قالا: ألیسوا علی الباطل؟ قال: بلی! قالا: فلم تنهانا عن سبهم؟ قال: إنّی أکره لکما أن تکونا سبّابین، وواصل کلامه فأراهم السبیل الفصل بالدعاء لهم إلی الهدی ووحدة المسلمین واطفاء نار الحرب، ویشیر هذا الکلام إلی أنّ الإمام علیه السلام فی الوقت الذی کان فیه حازماً إزاء العدو کان ینهی عن العنف الطائش الذی یعکس ضعف الشخصیّة.

***

ص:67


1- (1) سند الخطبة: رواه عدد من المحدّثین والمؤرخین قبل السیّد الرضی وبعده؛ مثل أبوحنیفة الدینوری فی کتاب «الاخبارالطوال» (ص 165) ونصر بن مزاحم فی کتاب «صفّین» (ص 103) وسبط بن الجوزی فی «تذکرة الخواصّ» (ص 142) وغیرهم. (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 103).

ص:68

انِّی أَکْرَهُ لَکُمْ أَنْ تَکُونُوا سَبَّابِینَ، وَلَکِنَّکُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَذَکَرْتُمْ حَالَهُمْ، کانَ أَصْوَبَ فِی الْقَوْلِ، وَأَبْلَغَ فِی الْعُذْرِ، وَقُلْتُمْ مَکَانَ سَبِّکُمْ إِیَّاهُمْ:

اللهمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَیْنِنَا وَبَیْنِهِمْ، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ، حَتَّی یَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ، وَیَرْعَوِیَ عَنِ الْغَیِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ.

الشرح والتفسیر: الدعاء بدل السبّ!

ما ورد فی هذا الکلام درس أخلاقی واجتماعی عظیم یختزن آثاراً کثیرة وهو النهی عن سبّ العدو ولعنه الذی من شأنه إثارة غضبه وتعمیق الکراهیة.

وکما ذکر فإنّ الإمام قال ذلک لما سمع بعض أصحابه یسبّ أهل الشام أیّام صفین فقال: «إِنِّی أَکْرَهُ لَکُمْ أَنْ تَکُونُوا سَبَّابِینَ، وَلَکِنَّکُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَذَکَرْتُمْ حَالَهُمْ، کانَ أَصْوَبَ فِی الْقَوْلِ، وَأَبْلَغَ فِی الْعُذْرِ».

«سبّاب» تطلق علی من یکثر السباب، وحقیقة «السبّ» تتضمن الإساءة للطرف المقابل؛ من قبیل مخاطبة المقابل بکلمة أحمق، رذل وأمثال ذلک.

واللعن أحد مصادیق «السبّ» و «القذف» من مراحل «السبّ» الشدیدة وعلیه الحد فی أغلب الموارد، قطعاً لیس مراد الإمام فی هذا الکلام هذا النوع من السبّ، لأنّ القذف حرام ومن الکبائر ولیس من المکروهات.

والإمام علیه السلام ینهی أصحابه فی هذه الخطبة عن هذا الفعل وإن کان لهم الحق فی

ص:69

مخاطبة العدو بهذا الخطاب ویأمرهم بدلاً من ذلک بنقد أعمالهم القبیحة وصفاتهم الذمیمة وإتمام الحجّة علیهم ولتکون أبلغ فی التأثیر کما تسلب العدو ذریعة المعاملة بالمثل، ولدینا الکثیر بخصوص السبّ واللعن نترکه لمبحث التأملات.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه من خلال بیان المصداق الواضح لیعلمهم کیفیة التعامل مع العدو فی مثل هذه الحالات فقال: «وَقُلْتُمْ مَکَانَ سَبِّکُمْ إِیَّاهُمْ: اللهمَّ احْقِنْ (1)دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَیْنِنَا وَبَیْنِهِمْ، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ، حَتَّی یَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ، وَیَرْعَوِیَ(2) عَنِ الْغَیِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ(3) بِهِ».

فالإمام علیه السلام أورد بهذه العبارة العمیقة ثلاثة أدعیة أو بعبارة أخری کانت له ثلاث طلبات:

الاُولی: إطفاء نار الحرب وحقن دماء الطرفین.

الثانی: إشاعة الصلح والسلام بالإضافة إلی وقف الحرب وأن یتحد المسلمون.

الثالثة: یبعد عنهم الضلال الذی أصابهم وحال دون بلوغهم الحق؛ فیتعرّف الجهلة علی الحقّ ویکفّ أهل الحق عن مناهضته.

وتکشف هذه الأدعیة بجلاء عن مدی سعة صدر الإمام علیه السلام ورأفته ورحمته حتی بأعدائه، ورغم کلّ تلک الجنایات التی إرتکبوها بحقّ الإمام وأصحابه فلا ینطق بأدنی ما یکشف عن غضبه وانتقامه، وینهی حتی صحبه عن سبّ العدو والتعرض له.

ص:70


1- (1) . «احقن» من «الحقن» علی وزن «الحمد» تعنی فی الأصل حفظ الشیء وإذا استعملت بشأن الدماء عنت منع إراقة الدماء.
2- (2) «یرعوی» من «رعو» علی وزن «رعد» بمعنی الامتناع والعودة عن الفعل. جدیر ذکره أنّ المفردة «رعو» تستعمل أحیاناً بصیغة الرباعی (رعوی علی وزن دعوی) وتفید نفس المعنی السابق وقال بعض أرباب اللغة المفردة: «ارعوی» من المفردات النادرة ولم یشاهد مثلها فی صیغ الأفعال المعتلة. للمزید راجع «لسان العرب» مادة «رعو».
3- (3) «لهج» من مادة «لهج» علی وزن «هرج» بمعنی التعلق والولع بالشیء والحرص علیه.

تأمّل: السبّ واللعن

صرح أغلب أرباب اللغة بأنّ «السبّ» هو الشتم، واعتبر البعض، اللعن من مصادیقه(1).

طبعاً لا ینبغی سبّ أیّ مؤمن أو لعنه، والأولی ترکه حتی بالنسبة للکفّار والمخالفین، ذلک لأنّه ینطوی علی أمرین سلبیین: الأوّل: إنّ الطرف المقابل یعمد إلی المعاملة بالمثل فیسیء إلی المقدّسات، لذلک ورد فی الآیة 108 من سورة الأنعام: «وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه فَیَسُبُّوا اللّه عَدْواً بِغَیْرِ عِلْم».

الآخر: أنّ هذا السبّ ربّما یثیر المقابل فیصرّ علی کفره وضلاله ویزداد کفراً وضلالاً.

ولکن لهذه القاعدة کما لغیرها من القواعد الکلیة استثناءات، ومن هنا ورد بعض السبّ للمخالفین، فی «نهج البلاغة» أو عبارات سائر المعصومین علیهم السلام کما لُعنَ البعض فی القرآن الکریم.

مضی فی الخطبة 19 من نهج البلاغة أنّ الإمام علیه السلام قال للأشعث بن قیس المنافق الذی کلّم الإمام بکلمات خارجة عن الأدب: «عَلَیْک لَعْنَةُ اللّه وَلَعْنَةُ اللاّعِنینَ حائِک ابْنُ حائِک مُنافِقٌ بْنُ کافِر».

کذلک حین أسر مروان فی المعرکة وجیء به إلی الإمام علیه السلام شفع له الإمام الحسن علیه السلام والإمام الحسین علیه السلام عند أبیهما فأطلقه الإمام علیه السلام، فقال الإمام الحسن علیه السلام والإمام الحسین علیه السلام: یاأمیرمؤمنین! یبایعک مروان؟ قال الإمام علیه السلام: ألم یبایعنی بعد قتل عثمان لا حاجة لی ببیعته «إِنَّها کَفٌّ یَهُودِیَّةٌ»(2).

ولکن سبّ المؤمن التقیّ یعدّ من الکبائر؛ قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «سِبابُ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ وَقِتالُهُ کُفْرٌ وَأکْلُ لَحْمِهِ مَعْصِیَةٌ وَحُرْمَةُ مالِهِ کَحُرْمَةِ دَمِهِ»(3).

ص:71


1- (1) راجع «المصباح المنیر» و «لسان العرب». وروی هذا المعنی المرحوم المحقق الخوئی فی شرحه لنهج البلاغة.
2- (2) للوقوف علی المزید راجع الجزء الثالث من هذا الشرح.
3- (3) الکافی، ج 2، ص 360، باب السباب، ح 2 و 3.

وورد فی حدیث آخر أنّ رجلاً قال للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله: أوصنی! فکان ممّا أوصاه النّبی أن قال: «لا تَسُبُّوا النّاسَ فَتَکْسِبواُ العَداوَةَ بَیْنَهُمْ»(1).

جدیر ذکره أنّ أصحاب معاویة وإن کانوا من المنافقین والظلمة والمفسدین فإنّ الإمام علیه السلام نهی أصحابه عن سبّهم أیّام صفّین، فالسبّ فی تلک الظروف العصیبة ربّما کان یوسع دائرة الحرب.

أمّا بشأن اللعن فالذی یستفاد من آیات القرآن أنّ اللّه لعن البعض وأذن بلعنهم ولعنَ الشیطان فقال: «وَإِنَّ عَلَیْک لَعْنَتِی إِلَی یَوْمِ الدِّینِ»(2).

وقال فی المرتدّین: «أُوْلَئِک جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَیْهِمْ لَعْنَةَ اللّه وَالْمَلاَئِکَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِینَ»(3).

وقال فی الظلمة: «أَلاَ لَعْنَةُ اللّه عَلَی الظَّالِمِینَ»(4).

وفی الناکثین وقاطعی الرحم والمفسدین فی الأرض: «أُوْلَئِک لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»(5).

وفی الذین یکتمون الحق: «أُوْلَئِک یَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَیَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ»(6).

لا شک فی أنّ اللعن فی اللغة بمعنی الطرد والإبعاد الذی یتمّ أحیاناً بصیغة عملیة وأخری لفظیة أو دعاء؛ کأن یقال مثلاً: «لعنة اللّه علیک».

من المسلّم به أنّه لا یمکن لعن أیّ مؤمن؛ أمّا الکفّار والمنافقون والذین یرتکبون الکبائر کالظلم والجور والفساد فی الأرض وأمثال ذلک إنّما یستحقون اللعن، وعلیه فلا یختص اللعن بالکفّار والمنافقین.

***

ص:72


1- (1) الکافی، ج 2، ص 360، باب السباب، ح 2 و 3.
2- (2) سورة ص، الآیة 78.
3- (3) سورة آل عمران، الآیة 87.
4- (4) سورة هود، الآیة 18.
5- (5) سورة الرعد، الآیة 25.
6- (6) سورة البقرة، الآیة 159.

الخطبة 207

اشارة

فی بَعْضِ أیّامِ صِفّینَ وَقَدْ رَأَی الْحَسَنَ ابْنَهُ علیه السلام

یَتَسَرَّعُ إلَی الْحَرب(1)

نظرة إلی الخطبة

یختص هذا الکلام القصیر لأمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام بحفظ الإمام الحسن والإمام الحسین من الأخطار لیدوم بهما نسل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقد تحقق هذا المعنی فیتصل الیوم نسب الملایین بواسطة الإمام الحسن أو الإمام الحسین علیهما السلام بالنبی الأکرم صلی الله علیه و آله وأنّ هذه الجذور المبارکة لتتعمق فی العالم کلّ یوم.

***

ص:73


1- (1) سند الخطبة: نقل الطبری فی تاریخه فی حوادث سنة 37 للهجرة عبارة عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام تشبه عبارة بعض هذا الکلام؛ لکن لیس فی یوم صفین بل فی موضع آخر ویتضح من ذلک أنّ الإمام علیه السلام بین هذه العبارات فی عدّة مواضع. (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 103).

ص:74

أَمْلِکُوا عَنّی هذَا الْغُلاَمَ لاَ یَهُدَّنِی، فَإِنَّنِی أَنْفَسُ بِهذَیْنِ (یَعْنی الْحَسَنَ وَالْحُسَیْنَ علیهما السلام) عَلَی الْمَوْتِ لِئَلاَّ یَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله.

الشرح والتفسیر: حفظ نسل النّبی صلی الله علیه و آله

أوصی الإمام علیه السلام صحبه بالإمام الحسن والإمام الحسین علیهما السلام یوم صفین بغیة الحفاظ علی هدف مهم فقال: «أَمْلِکُوا عَنّی هذَا الْغُلاَمَ لاَ یَهُدَّنِی(1) ، فَإِنَّنِی أَنْفَسُ (2)بِهذَیْنِ (یَعْنی الْحَسَنَ وَالْحُسَیْنَ علیهما السلام) عَلَی الْمَوْتِ لِئَلاَّ یَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله».

التعبیر «أملکوا» من مادة «ملک» تأکید للحیلولة عن مسارعة الإمام الحسن علیه السلام لمیدان القتال، لأنّ الإنسان إن ملک شیئاً صار تماماً تحت تصرفه وهذا أعظم تأکید یمکن استعماله بشأن صدّ الشخص عن أمر، ومن هنا قال المرحوم السیّد الرضی رحمه الله فی ختام هذا الکلام: «هذا من أعلی الکلام وأفصحه».

العبارة «لا یَهُدَّنی» تأکید آخر لهذا المعنی، کأنّه علیه السلام یرید القول: لو قتل الحسن والحسین سیفنی وجودی.

وکی لا یتصور أنّ هذه التأکیدات من جانب الإمام علیه السلام تستند لمجرّد عاطفة

ص:75


1- (1) . «لا یهدّنی» من مادة «هدّ» علی وزن «سدّ» تعنی فی الأصل الإنهدام والإنهیار المقرون بصوت شدید. ثم استعمل فی الأمور المعنویة فاطلق علی الحزن الذی یعکر روح الإنسان من قبیل ما ورد فی العبارة المذکورة.
2- (2) «أنفس» من مادة «نفس» علی وزن «قفس» بمعنی الشح وحفظ الشیء وعدم فقدان الأشیاء النفیسة التی لا یرید الإنسان فقدانها بسهولة.

الأبوة فقد بیّن علیه السلام: إنّی أنشد هدفاً عظیماً فی أن یبقی نسل النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی العالم عن طریقهما، وهذا بحدّ ذاته أحد أسباب دیمومة الإسلام.

***

قالَ السیِّدُ الشَّریفُ: وَقَوْلُهُ علیه السلام: «أَمْلِکُوا عَنّی هذَا الْغُلاَمَ» مِنْ أعلَی الْکَلامِ وَأَفْصَحِهِ.

مراد السیّد الرضی رحمه الله أنّ العبارة «أَمْلِکُوا عَنّی» تأکید بلیغ ولطیف لهذا المعنی أن سارعوا واجتهدوا واحفظوا هذا الفتی، لأنّ الإنسان یبذل قصاری جهده للمحافظة علی أملاکه، وهذه أبلغ عبارة فی الحفظ والاستعادة.

تأمّل: شبهات وردود

1. لا شک فی أنّ عمر الإمام الحسن المجتبی علیه السلام آنذاک کان أکثر من ثلاثین سنة، حیث ولد فی السنة الثالثة للهجرة وحادثة صفین کانت سنة 37 الهجرة، فلم التعبیر عنه بالغلام؟

لابدّ من الالتفات إلی هذه النقطة فی الجواب أنّ هذه المفردة وإن اطلقت علی الحدّ الفاصل بین الطفل والشابّ؛ لکنّها تطلق کما صرّح بعض أرباب اللغة(1) علی الکبار أیضاً. أضف إلی ذلک فإنّ الآباء یستعملون هذه المفردة علی الأبناء فی مختلف أعمارهم، کما تطلق العرب هذه المفردة علی الخدم فی مختلف سنیّ أعمارهم.

علی کلّ حال فإنّ اطلاق کلمة الغلام من قِبل الإمام علیه السلام علی ولده الإمام الحسن علیه السلام مطلب لیس بمستبعد.

2. کان للإمام الحسن وکذلک الإمام الحسین علیهما السلام حسبما ذکر آنفاً أکثر من

ص:76


1- (1) . لسان العرب، مادة «غلم».

ثلاثین سنة (فالفارق بینهم کان سنة أو أقل) وقطعاً کان لهما زوج وأولاد، فکیف یخشی الإمام انقطاع نسل النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله؟

نقول فی الجواب: کان المراد لیبقیا ولیبق أکثر عدد ممکن من نسل النّبی، ذلک لأنّ نسل رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان یتعرض إلی مخاطر جدیّة من عدّة جوانب.

3. کیف ذهب الإمام علیه السلام إلی بقاء نسل النّبی من خلال هذین الإمامین وذریّتهما فی حین تنسب العرب نسلها إلی ولدها ولیس عن طریق البنت؟ وکلنا نعلم أنّ الحسن والحسین کانا إبنی بنت النّبی!

للإجابة عن هذا السؤال لابدّ من القول إنّ هذا التفکیر یعود إلی الجاهلیة الذین لم یروا أی شأن للنساء ولا یعتبرون أبناء بناتهم أبناءهم فأنشدوا فی ذلک:

بَنُونا بَنُو أبْنائِنا وَبَناتُنابَنُوهُنَّ أبناءُ الرِّجالِ الأَباعِدِ

لذلک حین نزلت آیة المباهلة: «فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ»(1) أجمع المفسّرون علی أنّ المفردة «أبناءنا» فی هذه الآیة الشریفة إشارة إلی الإمام الحسن والإمام الحسین علیهما السلام و «نساءنا» فاطمة علیها السلام، ومااکثر الخطاب «یا ابن رسول اللّه» لأئمّة أهل البیت علیهم السلام فی الروایات.

وقد عدّت الآیة الشریفة 85 من سورة الأنعام: «وَمِنْ ذُرِّیَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَیْمَانَ وَ...

عِیسی» المسیح من ذریّة إبراهیم علیه السلام، فی حین ینتسب إلیه من جانب امّه (مریم).

***

ص:77


1- (1) . سورة آل عمران، الآیة 61.

ص:78

الخطبة 208

اشارة

قالَهُ لَمّا اضْطَرَبَ عَلَیْهِ أَصْحابُهُ فی أمْرِ الْحُکُومَةِ (1)

نظرة إلی الخطبة

جاء فی کتاب «مصادر نهج البلاغة» فی مناسبة هذا الکلام: لما رفع عمرو بن العاص ورهطه المصاحف علی أسنّة الرماح یوم صفین لخداع جیش علی علیه السلام، وبدت أعلام النصر والفتح ولم یبق علی تحقیق النصرالکامل سوی بضع خطوات، انقسم أصحاب الإمام عدّة فئات؛ فئة اعتقدت بأنّ أهل الشام لم یفعلوا ذلک خدعة؛ بل یریدون حقّاً الإحتکام إلی القرآن، وفئة عظیمة أخری سئمت القتال ولا یرون فی أنفسهم القدرة علی مواصلته، وکان هذا الموضوع ذریعة لاعتزال القتال والخلود إلی الدعة، وفئة ثالثة کانت من المنافقین التی تکنّ البغض والعداء للإمام علیه السلام وکانت تنتظرالفرصة، فلما رأت المصاحف علی الرماح حدّثوا أنفسهم بأنّ الفرصة قد سنحت للتخلی عن نصرة علی علیه السلام فارتفعت أصواتهم مطالبین بوقف القتال وفئة

ص:79


1- (1) سند الخطبة: کان ممن رواها قبل المرحوم السیّد الرضی، نصر بن مزاحم فی کتاب «صفین» (وقعة صفین، ص 484) وابن قتیبة الدینوری فی «الامامة والسیاسة» (ص 104) والمسعودی فی «مروج الذهب» (ج 2، ص 400). (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 107).

قلیلة هی التی أصرّت علی مواصلة القتال وکان فی مقدمتهم مالک الأشتر الذی صرخ بهم، الویل لکم أتعتزلون القتال وأوشکنا علی النصر؟ أیّها الجهّال!... ولکن الفئة التی اعتزلت القتال شتمته وهددته وصرخت «المَصاحِفُ المَصاحِفُ وَالرُّجُوعُ إلیْها لا نَری غَیْرَ ذلِک» وأجبرت الإمام علیه السلام علی قبول التحکیم.

وهنا أورد الإمام علیه السلام هذا الکلام فقال ما ملخصه: کنتم تتبعوننی وکنت أمیرکم، أمّا الآن تریدون أن تکونوا أنتم الاُمراء وأنا المأمور، إنّکم تریدون الحیاة مهما کلّف الأمر فکیف یسعنی صدکم عن ذلک؟!

***

ص:80

أَیُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ یَزَلْ أَمْرِی مَعَکُمْ عَلَی مَا أُحِبُّ، حَتَّی نَهِکَتْکُمُ الْحَرْبُ، وَقَدْ، وَاللّه، أَخَذَتْ مِنْکُمْ وَتَرَکَتْ، وَهِیَ لِعَدُوِّکُمْ أَنْهَک.

لَقَدْ کُنْتُ أَمْسِ أَمِیراً، فَأَصْبَحْتُ الْیَوْمَ مَأْمُوراً، وَکُنْتُ أَمْسِ نَاهِیاً، فَأَصْبَحْتُ الْیَوْمَ مَنْهِیّاً، وَقَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ، وَلَیْسَ لِی أَنْ أَحْمِلَکُمْ عَلَی مَا تَکْرَهُونَ.

الشرح والتفسیر: رفاق السلاح الجهّال

أورد الإمام علیه السلام هذا الکلام حین أصرّ علیه أغلب جیشه وخلافاً لرغبته لعدّة أسباب علی إیقاف القتال والتسلیم للتحکیم، حیث یجیب فی الواقع عن هذا السؤال: لماذا استسلمتم لمؤامرة عمرو بن العاص فی رفع المصاحف علی الرماح وقبلتم بالتحکیم، حیث قال: «أَیُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ یَزَلْ أَمْرِی مَعَکُمْ عَلَی مَا أُحِبُّ، حَتَّی نَهِکَتْکُمُ(1) الْحَرْبُ، وَقَدْ، وَاللّه، أَخَذَتْ مِنْکُمْ وَتَرَکَتْ، وَهِیَ لِعَدُوِّکُمْ أَنْهَک».

هذا الکلام فی الواقع إجابة للصامدین فی القتال الذین یرون عاقبته النصر، إلّا أنّهم کانوا للأسف أقلیة، فقد أشار الإمام علیه السلام بهذه الکلمات إلی عذره فی قبول مقترح وقف القتال والتحکیم إزاء تلک الأقلیة من جانب، ومن جانب آخر إلی یقینه بضرورة مواصلة القتال حتی النصر إزاء تلک الأکثریّة التی أتعبها القتال وأنّ کثرة

ص:81


1- (1) «نهکتکم» من مادة «نهک» علی وزن «سفک» تعنی فی الأصل التآکل والقدم وتستعمل فی الموارد التی یتعب فیها الإنسان ویرهق.

القتلی لا تبرر الاستسلام لمطالب العدو اللامشروعة.

ثم أوضح ذلک بالقول: «لَقَدْ کُنْتُ أَمْسِ أَمِیراً، فَأَصْبَحْتُ الْیَوْمَ مَأْمُوراً، وَکُنْتُ أَمْسِ نَاهِیاً، فَأَصْبَحْتُ الْیَوْمَ مَنْهِیّاً، وَقَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ، وَلَیْسَ لِی أَنْ أَحْمِلَکُمْ عَلَی مَا تَکْرَهُونَ!».

وهذا أیضاً جواب لفئتین: الأقلیّة المطالبة بمواصلة القتال حتی النصر والمعترضة علی قبول التحکیم وإیقاف القتال الذی أوشک علی تحقیق النصر، فقال: ما عسانی أفعل وقد سلبت المبادرة وتعثرت الإمرة وعصیتم وتمردتم، والأکثریة التی استجابت لطلب العدو فخاطبها أنّها لم تستجب لذلک الطلب حرمة للقرآن، بل بسبب حبّ البقاء والتنصل من التضحیة فی سبیل اللّه (فتأمّل).

تأمّل: التضحیة بالفرصة الکبری

رقة کلمات أمیر المؤمنین علیه السلام إزاء معارضی مواصلة القتال تفید مدی مرونته، والتی ربّما تثیر هذا السؤال: لماذا لم یدع الإمام مالک الأشتر لیواصل المعرکة التی أشرفت علی تحقیق النصر وإنقاذ المسلمین من شرّ بنی أمیة وأتباعهم؟

والجواب عن هذا السؤال یکمن فی تاریخ صفین.

فقد أشرنا فی الأبحاث السابقة إلی أنّ معارضی القتال لم یقتصروا علی أولئک الذین خدعوا بحیلة عمرو بن العاص فی تعلیق المصاحف علی أسنّة الرماح، بل هناک الفئة الخاویة الإرادة التی لم تکن مستعدة لمواصلة القتال، بالإضافة إلی المنافقین ومبغضی الإمام الذین رأوا الفرصة مؤاتیة للاصطیاد فی الماء العکر، فاتحدوا جمیعاً وأصروا علی الإمام بإیقاف القتال.

قال ابن أبی الحدید: فأرسل إلی الأشتر یأمره بالرجوع وترک الحرب، فأبی علیه فقال: کیف أرجع وقد لاحت إمارات الظفر! فقولوا له: «لیمهلنی ساعة واحدة»، ولم

ص:82

یکن علم صورة الحال کیف قد وقعت، فلما عاد إلیه الرسول بذلک، غضبوا ونفروا وشغبوا، وقالوا: أنفذت إلی الأشتر سرّاً وباطناً، تأمره بالتصمیم، وتنهاه عن الکفّ، وإن لم تعده الساعة، قتلناک کما قتلنا عثمان، فرجعت الرسل إلی الأشتر فقالوا له:

أتحبّ أن تظفر بمکانک وأمیر المؤمنین قد سُلّ علیه خمسون ألف سیف! فقال: ما الخبر؟ قالوا: إن الجیش بأسره قد أحدق به، وهو قاعد بینهم علی الأرض، تحته نطع، وهو مطرق، والبارقة تلمع علی رأسه، یقولون: لئن لم تعد الأشتر قتلناک! قال:

ویحکم! فما سبب ذلک؟ قالوا: رفع المصاحف، قال: واللّه لقد ظننت حین رأیتها رفعت أنّها ستوقع فرقة وفتنة.

ثم کرّ راجعاً علی عقبیه، فوجد أمیرالمؤمنین علیه السلام تحت الخطر، قد جعله أصحابه بین أمرین: إمّا أن یسلموه إلی معاویة، أو یقتلوه، ولا ناصر له منهم إلّاولداه وابن عمه ونفر قلیل لا یبلغون عشرة، فلما رآهم الأشتر سبّهم وشتمهم، وقال: ویحکم! أبعد الظفر والنصر صبّ علیکم الخذلان والفرقة! یا ضعاف الأحلام! یا أشباه النساء! یا سفهاء العقول! فشتموه وسبّوه، وقهروه.

وقالوا: المصاحف المصاحف! والرجوع إلیها، لا نری غیر ذلک! فأجاب أمیرالمؤمنین علیه السلام إلی التحکیم، دفعاً للمحذور الأعظم بارتکاب المحظور الأضعف، فلذلک قال: «کُنْتُ أَمْسِ أَمِیراً، فَأَصْبَحْتُ الْیَوْمَ مَأْمُوراً...»(1).

تفید بعض القرائن والشواهد أنّ رفع المصاحف علی الرماح کانت من صنع المنافقین وبعض الأفراد فی جیش أمیرالمؤمنین علی علیه السلام وطائفة من أهل الشام بقیادة عمرو بن العاص والأشعث بن قیس، الذین لایبغون انتصار الإمام علیه السلام(2).

أوردنا بحثاً مطولاً بشأن التحکیم والذی یعتبر مکملاً لهذا البحث فمن أراد المزید فلیراجع ذیل الخطبة 35، الجزء الثانی، الصفحة 364.

ص:83


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 11، ص 30 و 31.
2- (2) انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 2، ص 214.

ص:84

الخطبة 209

اشارة

بِالْبَصْرَةِ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَی الْعَلاءِ بنِ زِیادِ الْحارِثی - وَهُوَ مِنْ أَصْحابِهِ - یَعُودُهُ، فَلَمّا رَأی سَعَةَ دارِه قالَ: (1)

نظرة إلی الخطبة

هذا الکلام کما ورد أعلاه إشارة لقصة عیادة علی علیه السلام لأحد أصحابه فی البصرة وهو علاء بن زیاد الحارثی (رغم ما ذهب إلیه أغلب شرّاح نهج البلاغة من أنّه کان الربیع بن زیاد ولیس العلاء بن زیاد) فقال علیه السلام ذلک لما رأی سعة داره فوعظه وسائر الناس ممن علی غراره بموعظة بلیغة ویتضمن هذا الکلام ثلاثة أقسام:

الأوّل: أنّها موعظة حیّة للعلاء بن زیاد.

الثانی: وعظ ونصح عمیق لأخیه، أی عاصم بن زیاد الذی عاش حیاة علی العکس تماماً من أخیه وکان یعیش حیاة متقشفة.

الثالث: اجابة عن أسئلة عاصم بن زیاد بشأن معیشة الإمام.

ص:85


1- (1) سند الخطبة: وردت عدّة مصادر ذکرت هذا الکلام ومنها الجزء الأوّل من أصول الکافی والجزء الأوّل من العقد الفرید والجزء الرابع من ربیع الأبرار واختصاص الشیخ المفید وتلبیس إبلیس لابن الجوزی وقوت القلوب لأبی طالب المکی (ورد جانب من هذه الخطبة فی بعض هذه الکتب). وقد التفت لهذه الخطبة العدید من العلماء وذکروها فی کتبهم لما تضمنته من جوانب تاریخیّة وأخلاقیّة وتربویّة. (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 108).

ص:86

القسم الأوّل

اشارة

مَا کُنْتَ تَصْنَعُ بِسَعَةِ هذِهِ الدَّارِ فِی الدُّنْیَا، وَأَنْتَ إِلَیْهَا فِی الآخِرَةِ کُنْتَ أَحْوَجَ؟ وَبَلَی إنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ: تَقْرِی فِیهَا الضَّیْفَ، وَتَصِلُ فِیهَا الرَّحِمَ، وَتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ.

الشرح والتفسیر: الدار الواسعة

رغم أنّ هذا الکلام ورد فی قضیة شخصیة بشأن اثنین من أصحاب الإمام علیه السلام لکنه فی الواقع مبدأ کلی وخطة عامة فی ضرورة الاعتدال فی الاستعانة بالوسائل المعاشیة، والأمّة الإسلامیّة طیلة التاریخ مشمولة بهذا الخطاب، فالإمام لما شاهد دار العلاء بن زیاد الواسعة الفارهة والمؤثثة بالتأکید وبّخه بادئ الأمر ثم نصحه مشفقاً فقال: «مَا کُنْتَ(1) تَصْنَعُ بِسَعَةِ هذِهِ الدَّارِ فِی الدُّنْیَا، وَأَنْتَ إِلَیْهَا فِی الآخِرَةِ کُنْتَ أَحْوَجَ؟».

اعتاد الناس حین یعودون مریضاً علی قول ما من شأنه إراحته والتخفیف عنه، إلّا أنّ معلماً ربانیاً کعلی علیه السلام حین یری صاحبه طریح الفراش الذی ربّما لا یعاود النهوض منه لابدّ أن یوقظه ویشدّه إلی مصیره ویریه سبیل السعادة ویجرعه مرارة النصح المصحوب بالعتاب، عله یتماثل للشفاء الحقیقی، ثم أراه اسلوب استغلال تلک الثروة الهائلة لنیل سعادة الآخرة فقال: «وَبَلَی إنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ:

ص:87


1- (1) . قال بعض شرّاح نهج البلاغة، إنّ الجملة «کنت» زائدة هنا، والحال لیس الأمر کذلک، بل مراد الإمام علیه السلام منهابیان الاستمرار، لأنّ مفهوم العبارة ما الذی استفدته من هذه الدار وکانت لک لحد الآن.

تَقْرِی(1) فِیهَا الضَّیْفَ، وَتَصِلُ فِیهَا الرَّحِمَ، وَتُطْلِعُ(2) مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ».

فقد أشار علیه السلام إلی حقیقة هی أنّ المال والثروة لیست مذمومة أو تتعارض مع القیم، بل المهم کیفیة إنفاقها، فهی مذمومة إن أدّت إلی الفخر والتکاثر والاحتکار.

لکنّها تعتبر رصید الآخرة إن وضع قسم منها تحت تصرف المعوزین والقرابة والأصحاب، ومن هنا ذکر المال بصفة «خیر» فی القرآن: «إِنْ تَرَک خَیْراً الْوَصِیَّةُ لِلْوَالِدَیْنِ»(3).

جاء فی الخبر أنّ شخصاً ذم الأغنیاء عند الإمام الصادق علیه السلام وأساء لهم فقال علیه السلام:

«أُسْکُتْ فَإِنَّ الْغَنیَّ إذا کانَ وَصُولاً لِرَحِمِهِ، بارّاً بِإخْوانِهِ أضْعَفَ اللّه تَعالی لَهُ الأَجْرَ ضِعْفَیْنِ لأَنَّ اللّه تَعالی یَقُولُ: وَما أَمْوالُکُمْ وَلا أوْلادُکُمْ بِالّتی تُقَرِّبُکُمْ عِنْدَنا زُلْفی إلّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِک لَهُمْ جَزاءَ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِی الْغُرُفاتِ امِنُونَ»(4).

وعلیه فإنّ المال من شأنه أن یکون أفضل وسیلة للسعادة إن استغل بصورة صحیحة، کما یمکن أن یکون وسیلة للبؤس والشقاء إن اقترن بالبخل والإسراف والإحتکار.

تأمّل: الدار الواسعة فی الروایات

یستفاد من عدّة روایات أنّ إحدی علامات سعادة الإنسان، الدار الواسعة «مِنْ سَعادَةِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ، المَسْکَنُ الْواسِعُ»(5).

ووردت فی ذلک الباب من «الکافی» سبع روایات بهذا المضمون أو ما یقرب منه

ص:88


1- (1) . «تقری» من «قراء» علی وزن «عباء» خدمة الضیف.
2- (2) «تطلع» من «الطلوع» بمعنی الظهور والبروز وتعنی الاظهار من باب الإفعال.
3- (3) سورة البقرة، الآیة 180.
4- (4) تفسیر القمی، ج 2، ص 203؛ وسائل الشیعة، ج 9، ص 476، ح 12533.
5- (5) الکافی، ج 6، ص 526، ح 7 (باب سعة المنزل).

عن المعصومین علیهم السلام، وأورد المرحوم العلّامة المجلسی فی الجزء 73 من «بحارالأنوار» عدّة روایات بهذا الخصوص منها ما روی عن الإمام الرضا علیه السلام أنّه اشتری داراً لأحد أصحابه وأشار علیه بالانتقال إلیه کون داره صغیرة، فقال: إنّ والده اشتری تلک الدار (وأنا اتبعه) فقال علیه السلام: «إنّ أباکَ کَانَ جَاهلاً فَهلْ تَکونَ کأبِیکَ»(1).

طبعاً هذه الروایات لا تعنی أن یتجاوز الإنسان حالة الاعتدال ویقبل علی الإسراف، بل تشیر إلی ضرورة عدم قناعة الإنسان بالدار الضیقة والصغیرة ذریعة لترک صلة الرحم وعدم استقبال الضیوف. یقال: إن قصدنا دار الأرحام فسیأتون إلی دارنا وهی صغیرة، ومن هنا یتحفظون عن استقبال الضیف أساس الخیر والبرکة، وإنّ أحد أسباب شیوع ثقافة الدور الصغیرة فی عصرنا بغض النظر عن المشاکل المالیّة یتمثل فی هیمنة الثقافة الغربیة الخالیة من العواطف الإنسانیّة والتی لا تقیم وزنا لصلة الرحم ولا إقراء الضیف.

***

ص:89


1- (1) بحارالأنوار، ج 73، ص 153، ح 30.

ص:90

القسم الثانی

اشارة

فقال له العلاء: یا أَمیرالمؤمنین، أشکو إِلیک أَخی عاصمَ بنَ زیاد. قال:

وَمَا لَهُ؟ قال: لبِس الْعَباءَةَ وتَخَلَّی عن الدُّنیا. قال: عَلیَّ بِهِ. فَلَما جَاءَ قال:

یَا عُدَیَّ نَفْسِهِ! لَقَدِ اسْتَهَامَ بِک الْخَبِیثُ! أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَک ووَلَدَک! أَتَرَی اللّه أَحَلَّ لَک الطَّیِّبَاتِ، وَهُوَ یَکْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا! أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَی اللّه مِنْ ذلِک!

قال: یا أَمیرالمؤمنین، هذا أَنْتَ فی خُشُونَةِ مَلْبَسِک وجُشُوبَةِ مأکَلِک!

قال: وَیْحَک، إِنِّی لَسْتُ کَأَنْتَ، إِنَّ اللّه تَعَالَی فَرَضَ عَلَی أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ یُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ، کَیْلاَ یَتَبَیَّغَ بِالْفَقِیرِ فَقْرُهُ!

الشرح والتفسیر: ذم الهروب من الدنیا

لما وعظ الإمام علیه السلام العلاء بن زیاد، عرض العلاء قضیة أخیه الذی اختار طریقاً مغایراً له، «فقال له العلاء: یا أَمیرالمؤمنین، أشکو إِلیک أَخی عاصمَ بنَ زیاد. قال:

وما له؟ قال: لبِس الْعَبَاءَةَ وتَخَلَّی عن الدُّنیا. قال: عَلَیَّ بِهِ». «فَلَمَّا جَاءَ قال: یَا عُدَیَّ نَفْسِهِ! لَقَدِ اسْتَهَامَ(1) بِک الْخَبِیثُ! أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَک وَوَلَدَک!».

«عدیّ» تصغیر «عدوّ» وأراد الإمام علیه السلام بهذه الوسیلة أن یحفزه لخروجه من مسار الاعتدال من جهة ویعتبر عمله عدواناً علی نفسه من جهة أخری، ثم یتعرض لهذه القضیة فیبیّن له أن أعمالک إنّما تنطلق من وساوس الشیطان بالاضافة إلی

ص:91


1- (1) «استهام» من مادة «هیم» علی وزن «غیم» الحیرة والاضطراب والسیر نحو العبث و «استهام بک الخبیث» أضلّک الشیطان.

هوی النفس والتی تؤدی إلی نوع من الازدواجیة والارباک فی المعیشة.

ثم ذکره علیه السلام بأنّک تظلم أهل بیتک فضلاً عن نفسک دون حجة أو دلیل، والسبب وراء کلّ هذا التقریع المکرر رفض الإسلام للرهبنة ونسیان الدنیا بهذا الشکل والاقبال علی العبادة ولا یری ذلک سوی انحراف عن جادة الصواب کما سیرد تفصیل ذلک.

ثم قال: «أَتَرَی اللّه أَحَلَّ لَک الطَّیِّبَاتِ، وَهُوَ یَکْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا! أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَی اللّه مِنْ ذلِک!».

هذا الکلام فی الواقع إشارة إلی دلیل لطیف وهو: أنّک اعتمدت طریقة ظاناً استنادها لأمر اللّه، فی حین أحلّ القرآن صراحة الطیبات والثیاب الطاهرة والأطعمة للجمیع «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللّه الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّیِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِیَ لِلَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا خَالِصَةً یَوْمَ الْقِیَامَةِ»(1).

الجملة «أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَی اللّه مِنْ ذلِک!» ربّما إشارة إلی أنّ هؤلاء الأفراد الذین یعیشون حیاة خاصة ویعتزلون المجتمع الإسلامی، یرون أنّهم ممیزون للغایة ویظنون أنّ الاعتزال والإرتیاض یمیزهم عن الآخرین وکأنّ اللّه شرع منهاجاً خاصاً، إنّک أهون علی اللّه.

أراد عاصم أن یبرر وضعه: «قال: یا أَمیرالمؤمنین، هذا أَنْتَ فی خُشُونَةِ مَلْبَسِک وجُشُوبَةِ(2) مأکَلِک!».

فردّ علیه الإمام علیه السلام قائلاً: «وَیْحَک، إِنِّی لَسْتُ کَأَنْتَ، إِنَّ اللّه تَعَالَی فَرَضَ عَلَی أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ یُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ، کَیْلاَ یَتَبَیَّغَ(3) بِالْفَقِیرِ فَقْرُهُ!».

وعلی ضوء هذا المنطق فإنّ عامة الناس أحرار فی التمتع بلذات الحیاة باعتدال

ص:92


1- (1) سورة الأعراف، الآیة 32.
2- (2) «جشوبة» الخشونة من مادة «جشب» علی وزن «جسب» ویقال للخبز دون غیره «جشب».
3- (3) «یتبیّغ» من مادة «بیغ» علی وزن «بیع» یهیج، ویأتی أحیاناً بمعنی الکثرة والمعنی الأوّل هو المراد فی العبارة.

وبعیداً عن الإسراف والتبذیر، أمّا أئمّة الدین فلابدّ أن یقنعوا بالحیاة المتواضعة علی غرار ضعفاء المجتمع لیواسوا الطبقات الفقیرة والمحرومة کیلا یشعروا بالهم والأسی.

قال ابن أبی الحدید: فما قام علی علیه السلام حتی نزع عاصم العباءة، ولبس ملاءة.

وأکد ابن أبی الحدید أنّ موضوع البحث الأصلی لم یکن العلاء بن زیاد، بل شخص معروف هو الربیع بن زیاد، والربیع بن زیاد هو الذی افتتح بعض خراسان، وفیه قال عمر: دلونی علی رجل إذا کان فی القوم أمیراً فکأنّه لیس بأمیر، واذا کان فی القوم لیس بأمیر فکأنه الأمیر بعینه! وکان خیِّراً متواضعاً، وهو صاحب الوقعة مع عمر لما أحضر العمال فتوحش له الربیع، وتقشف وأکل معه الجشب من الطعام، فأقره علی عمله، وصرف الباقین، وقد ذکرنا هذه الحکایة فیما تقدم.

وکتب زیاد بن أبیه إلی الربیع بن زیاد، وهو علی قطعة من خراسان: أنّ أمیر المؤمنین معاویة کتب إلیَّ یأمرک أن تحرز الصفراء والبیضاء وتقسم الخرثی وما أشبهه علی أهل الحرب.

فقال له الربیع: إنّی وجدت کتاب اللّه قبل کتاب أمیر المؤمنین (یعنی لابدّ من تقسیم الغنائم مثل رسول اللّه وعلی)، ثم نادی فی الناس: أن اغدوا علی غنائمکم، فأخذ الخمس وقسم الباقی علی المسلمین، ثم دعا اللّه أن یمیته، فما جمع حتی مات یوم الجمعة(1).

تأمّلات

1. ذم عموم الافراط والتفریط

الاُمّة الإسلامیّة أمّة معتدلة والمسلمون أتباع الإسلام والقرآن بعیدون عن مطلق الافراط والتفریط: «وَکَذلِک جَعَلْنَاکُمْ أُمَّةً وَسَطاً»(2).

ص:93


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 11، ص 36 و 37.
2- (2) سورة البقرة، الآیة 143.

لکن المؤسف أنّ بعض الجهّال أو المغرضین والمعارضین للإسلام یعتمدون الافراط والتفریط ویسعون أحیاناً لمنحه صیغة إسلامیة.

والبعض وعلی ضوء أن الإسلام أباح الطیبات، فقد أقبل علی الکمالیات، ویستدل أحیاناً بحیاة سلیمان وفخامة ملکه التی تحدث عنها القرآن.

والبعض الآخر سلک سبیل التفریط فأغلق الأبواب بوجهه وآثر العزلة والتقوقع وحرم علی نفسه الطیبات المحللة، وقد ابتعد الفریقان عن الصراط المستقیم حیث صرح القرآن بأن علماء بنی اسرائیل قالوا لقارون: «وَابْتَغِ فِیمَآ آتَاک اللّه الدَّارَ الاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِیبَک مِنَ الدُّنْیَا وَأَحْسِنْ کَمَآ أَحْسَنَ اللّهُ إِلَیْک وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِی الأَرْضِ»(1).

والحق لو إمتثل قارون وأمثاله هذه المواعظ الاربع ولم ینس نصیبه من الدنیا وجعل رصیده المادی وسیلة لنیل سعادة الآخرة وهب لمعونة المستضعفین بدل الافساد فی الأرض، لما طاله قط الغضب الربانی.

وفی حدیث معروف عن الباقر علیه السلام قال: «لَیْسَ مِنّا مَنْ تَرَک دُنْیاهُ لاِخِرَتِهِ وَلا آخِرَتَهُ لِدُنْیاهُ»(2).

2. التصوف ونتائجه

اعتقد بأنّ بعض الأفراد فی الیونان والهند منذ آلاف السنین أنّه بإمکانهم الإتیان بالخوارق أو نیل المراتب المعنویة من خلال الإرتیاض والتشدد علی النفس فی الملذات والأطعمة والأشربة والملبس، کونهم یعتقدون أنّ ترک اللذة سبب قوّة النفس وقدرتها.

وحین انتشر الإسلام تسللت إلیه هذه الأفکار من سائر البلدان فخلطه البعض بالزهد وبعض التعالیم الإسلامیّة فحمّلوا الدین أفکاراً منحرفة وشاذة کانت نتیجتها

ص:94


1- (1) سورة القصص، الآیة 77.
2- (2) وسائل الشیعة، ج 17، ص 76، کتاب التجارة، ابواب مقدّماتها، باب 28، ح 1.

«التصوف» ولعل الاسم یعود إلی أنّهم لبسوا فی البدایة الثیاب الصوفیة الخشنة، رغم ما یزعمه بعض المتصوفة من أنّ مادة هذه المفردة هی الصفاء «صفاء النفس» والحال لیس هنالک أدنی صلة بین هذین اللفظین، فأحدهما أجوف واوی والآخر ناقص واوی، کما وقع فی هذا الخطأ من ذهب إلی أنّها مشتقة من مفردة «أصحاب الصفة» فصفة من مادة صفف «یعنی مضاعف» وصوفی من مادة «صوف» وعلیه فهذه المفردة لا تعنی سوی لبس الصوف قطعاً.

علی کلّ حال، لهذه الفرقة زعامات یطلق علیهم القطب والشیخ والمرشد وأمثال ذلک ویدّعون أنّ لهم کرامات، وقد انقسموا فئات لکل فئة طریقتها واُسلوبها علی أثر الاختلافات الداخلیّة وأهواء الأقطاب، فهذه الفرقة تنظر إلی الأحکام الدینیة التی تصطلح علیها بالشریفة أنّها قابلة للتوجیه والتغییر، والمحور هو السیر الباطنی الذی یسمونه (الطریقة)، ومن هنا فهی ترتکب العدید من الذنوب وتفسح المجال لاتباعها لانتهاک الأحکام الشرعیّة، بعبارة أخری، تؤمن بأنّ الشریعة قشر والطریقة لب، والحقیقة «لب اللب».

وعلی هذا الأساس فهی تستقطب الفاسدین والمفسدین والمتهتکین من الأفراد وتعقد حفلات الرقص وتناول المخدرات، وتصر من الناحیة العقائدیة علی «وحدة الوجود» بمعنی «وحدة الموجود» فیدعی أغلب زعمائها بین الفینة والأخری اتحاده الوجودی باللّه، ویصطلحون علی هذا الکلام الهجین بالشطحیات، یبدو أنّ هذه الفرقة ظهرت بالتدریج بین المسلمین منذ القرن الهجری الثانی فأنکر علیها ذلک بشدّة أئمّة أهل البیت علیهم السلام وحذروا المسلمین منهم وربّما شدّة تقریع الإمام علیه السلام لعمل عاصم بن زیاد رؤیته علیه السلام أنّ ذلک مقدمة لظهور تلک الفئة فی المستقبل.

ورد أن أحد أصحاب الإمام الصادق علیه السلام سأله: ما تقول فی الصوفیة التی ظهرت فی زماننا، قال:

«إنّهُم أعداؤنا فَمَنْ مالَ إلَیهِم فَهُو مِنْهُم وَیُحشرُ مَعَهُم وَسَیکُونُ أَقوامٌ یَدّعُونَ

ص:95

حُبّنا وَیَمیلُونَ إِلَیهِم، ویَتَشَبَّهُونَ بِهِم وَیُلقِّبُونَ أَنْفُسَهُم بِلَقَبِهِم، ویَأوِّلُونَ أَقوالَهُم ألا فَمَن مالَ إِلِیهِم فَلَیسَ مِنّا وإنّا مِنهُ بَراءُ ومَنْ أَنکَرَهُم وَرَدَّ عَلَیهِم کَانَ کَمَن جاهَدَ الکُفّارَ بَینَ یَدی رَسُولِ اللّهِ صلی الله علیه و آله»(1).

وروی البزنطی وإسماعیل عن الإمام الرضا علیه السلام أنّه قال: «مَنْ ذَکَرَ عِنْدَهُ الصُّوفِیَّةُ وَلَمْ یُنْکِرْهُمْ بِلِسانِهِ وَقَلْبِهِ فَلَیْسَ مِنّا وَمَنْ أَنْکَرَهُمْ فَکَأَنَّما جاهَدَ الْکُفّارَ بَیْنَ یَدَی رَسُولِ اللّه»(2).

تنطوی جمیع الفرق الصوفیة علی انحرافات فی القضایا العقائدیّة والفقهیّة والأخلاقیّة نوجز بعضها:

1. حیث یرون أنّهم أهل الطریقة یعتقدون بأنّ الطریقة الکامنة فی مسار الحقیقة وأحکام الشریعة مقدمة فی الوصول إلی الطریقة والحقیقة، ولا یولون أهمیّة للمسائل الشرعیّة ویتخلون عن أکثرها من خلال بعض الحجج والاعذار الواهیّة.

2. الوقوع غالباً فی مطب التفسیر بالرأی للکتاب والسنّة فیحمّلون الکتاب والسنّة آراءهم ویجیزون لأتباعهم مقارفة بعض الذنوب.

3. یؤمنون بلزوم طاعة القطب والمرشد وینسبون لأقطابهم العدید من الکرامات الموضوعة التی تفوق أحیاناً معاجز الأنبیاء والأئمّة علیهم السلام، ومن هنا ینتهی بعض اتباعهم إلی الشرک فیری القطب والمرشد کالمعبود فیعبده.

4. ابتدعوا الکثیر فی الدین ولکل فرقة بدعتها من قبیل کیفیة مجالس الأذکار والأوراد وسائر المجالس ومن هنا قلّما یحضرون المساجد، فقد أقاموا لهم مراکز عبادیة لیکونوا أحراراً فی الإتیان بأعمالهم.

5. یؤمن أغلبهم بالتعددیة وکل دین سبیل إلی اللّه ولا یرون کساد متاع الکفر والدین.

ص:96


1- (1) مستدرک الوسائل، ج 12، ص 323، ح 14205.
2- (2) سفینة البحار، مادة «صوف».

6. من أهم انحرافاتهم، الإیمان بوحدة الوجود بمعنی وحدة الموجود، حیث یرون مجموعة موجودات العالم شیئاً واللّه عین ذلک الشیء ومن هنا یرون عبادة الأصنام نوعاً من عبادة اللّه شریطة عدم تحدید اللّه فی ذلک الصنم.

وقد ألّفت عدّة کتب من قِبل الأعلام والمحققین بشأن انحرافاتهم، وما ورد آنفاً مجرّد إشارة(1).

القضیة الأخری الجدیرة بالذکر أنّ التصوف باهت فی وسط اتباع أهل البیت علیهم السلام وواسع للغایة فی وسط أبناء العامّة وینشط العدید من فئات هذه الفرقة وبعقائد مختلفة فی البلدان الإسلامیّة.

والعنصر الرئیسی فی هذا الفارق، الإیمان بولایة أهل البیت علیهم السلام ولاسیما الإیمان بوجود المهدی علیه السلام.

وهنالک جذور تاریخیّة واجتماعیة مختلفة للتصوف واعتناقه ومنها:

1. هوّل خلفاء بنی العباس قضیة التصوف بهدف صرف الأنظار عن أهل البیت علیهم السلام الذین یرونهم منافسیهم الحقیقیین للتقلیل من أهمّیة زهد أهل البیت علیهم السلام وکراماتهم من خلال أدعیاء الصوفیة وحیث إنّ الصوفیة تؤمن بالسیر الباطنی فهی لا تهدد دنیا المتهافتین علیها، کما حظیت بدعم السیاسات المستبدة فی عصرنا، کونها تمنع اتباعها من التدخل فی السیاسة وتعبد الطریق للاستعمار والاستبداد.

2. الوصول إلی المقامات العرفانیة الصوفیة - علی العکس من بلوغ المقامات العلمیة والفقهیة کما یعتقدون بأنّ من ارتاض أربعین یوماً وداوم علی قراءة بعض الأوراد وإن کان امیّاً ربّما یتحوّل إلی ولی من أولیاء اللّه وینال مقامات رفیعة، بینما لا تکفی أحیاناً أربعین سنة من الجهد لبلوغ المقامات العلمیة الرفیعة.

ص:97


1- (1) انظر کتاب: «تجلی الحق» للمؤلّف وکتاب «ما یقول العارف والصوفی» لآیة اللّه المیرزا جواد الطهرانی رحمه الله وکتاب «التعلیم والتربیة فی الإسلام» للشهید العلّامة مرتضی المطهری رحمه الله وشرح نهج البلاغة للعلّامة الخوئی رحمه الله «منهاج البراعة» ج 13 (ذیل هذه الخطبة) من ص 132.

3. بما أنّهم ینظرون إلی الشریعة کوسیلة بسیطة ویفسحون المجال عملیاً لأتباعهم لمخالفة بعض الأحکام الشرعیّة فإنّ أغلب الآثمین والمذنبین والساسة المحترفین الظلمة یتعاطفون معهم بغیر حساب، أی أنّهم یواصلون ظلمهم وإثمهم، کما یشبعون بصورة کاذبة حسهم الدینی، بعبارة أخری أنّ تساهلهم فی أمور الدین وترکهم أی حزم یؤدی إلی التحاق الأفراد بهم.

قال أحد الفضلاء: لما القی القبض علیَّ فی عهد النظام المباد وحملت إلی رئیس جهاز السافاک فی طهران قال لی: سمعت أنّک رجل متدین وعالم، لکن قطعاً لست أقل منک تدیناً فأنا درویش وألهج بذکر علی ویعطینی کلّ ما سألته، مع ذلک لا أطیق تحمل معارضة الشاه ولا أتردد فی قتل ملیون شخص دفاعاً عنه.

ثم قال ذلک الفاضل: أدرکت أنّ التصوف والدروشة تبیح حتی قتل ملیون بریء دفاعاً عن الظالمین.

3. الانتفاع بالطیبات

یعتقد البعض أنّ الزهد یناقض الانتفاع بالنعم الدنیویة وأنّ الإسلام یعتبر التشدد علی النفس والإرتیاض وهجران لذائذ الدنیا حسناً، والحال لیس الأمر کذلک، وکما أشرنا سابقاً فقد قال تعالی فی القرآن: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللّه الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّیِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِیَ لِلَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا خَالِصَةً یَوْمَ الْقِیَامَةِ»(1).

وقال تعالی فی موضع آخر شارحاً أهداف البعثة النبویة وتعالیمها: «الَّذِینَ یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِیَّ الاُْمِّیَّ الَّذِی یَجِدُونَهُ مَکْتُوباً عِنْدَهُمْ فِی التَّوْرَاةِ وَالاِْنجِیلِ یَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنکَرِ وَیُحِلُّ لَهُمُ الطَّیِّبَاتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبَائِثَ وَیَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِی کَانَتْ عَلَیْهِمْ فَالَّذِینَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِی أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِک هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(2).

ص:98


1- (1) سورة الأعراف، الآیة 32.
2- (2) سورة الأعراف، الآیة 157.

وهنالک العدید من الآیات والروایات التی لا یسمح المقام ذکرها، لکن لا بأس بذکر موردین:

أحدهما: ما ورد فی هذه الخطبة من ضرورة عیش أئمّة العدل المعیشة المتواضعة ومواساة الطبقات الاجتماعیة المحرومة بغیة ذکرها والعمل علی إزالة حرمانها إلی جانب کونها تضامن مع هذه الطبقات.

والآخر: ضرورة القناعة بالقلیل وبذل الکثیر لإنقاذ المحرومین حین یتعرضون لبعض الأزمات الاجتماعیة ویعانون من الضغوط.

وزبدة الکلام الذی یفهم من الروایات أنّ الانتفاع بنعم اللّه ضمن الحدود المعقولة والبعیدة عن الإسراف والتبذیر لیس مذموماً وترکها لا یعد فضیلة وإن کان تواضع العیش سیما حین فقر البعض وکذلک بالنسبة لأئمّة العدل وزعماء المسلمین یعتبر فضیلة.

***

ص:99

ص:100

الخطبة 210

اشارة

وَقَدْ سَأَلَهُ سائِلٌ عَنْ أحادیثِ الْبِدَعِ، وَعَمّا فی أیْدِی النّاسِ

مِن اخْتِلافِ الْخَبَرِ، فَقالَ علیه السلام: (1)

نظرة إلی الخطبة

تشتمل هذه الخطبة التی تتحدّث عن أقسام الحدیث والرواة علی ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: خاض فیه الإمام علیه السلام ببیان أقسام الأحادیث التی فی أیدی الناس، وقال بینها حق وباطل وناسخ ومنسوخ و... ثم أشار إلی عقاب وضّاع الأحادیث وبشرهم بنار جهنم علی ضوء الحدیث النبوی الشریف.

وذکر فی القسم الثانی صفات رواة الحدیث فصنفهم أربعة أصناف: المنافقین والخاطئین والجاهلین والحفظة الصادقین.

وخاض فی القسم الثالث والأخیر فی بعض خصائص أحادیث النّبی صلی الله علیه و آله وأشار

ص:101


1- (1) سند الخطبة: ذکر صاحب «مصادر نهج البلاغة» أنّ هذا الکلام ورد بسند تام أو مرسل فی أغلب المصادر قبل «نهج البلاغة» ومنها کتاب «الکافی» و «تحف العقول» و «الخصال» للصدوق و «الغیبة» للنعمانی (الکافی، ج 1، ص 62، ح 1؛ تحف العقول، ص 193؛ الخصال، ص 255، ح 131؛ الغیبة للنعمانی، ص 81، ح 10) وسائر الکتب وبعد السیّد الرضی ونهج البلاغة کالتذکرة لسبط ابن الجوزی و «الاحتجاج» للطبرسی و «أربعین الشیخ البهائی» (تذکرة الخواص، ص 133؛ الاحتجاج، ج 1، ص 293؛ أربعین البهائی، ص 289). (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 115).

إلی کیفیة فهمها، واختتمها بالإشارة إلی وعیه التام لأحادیث النّبی صلی الله علیه و آله، جدیر ذکره أنّه ورد فی «الکافی» بشأن هذه الخطبة:

عن سلیم بن قیس الهلالی قال: قلت لأمیرالمؤمنین علیه السلام: إنی سمعت من سلمان والمقداد وأبی ذر شیئاً من تفسیر القرآن وأحادیث عن نبیّاللّه صلی الله علیه و آله غیرما فی أیدی الناس، ثم سمعت منک تصدیق ما سمعت منهم ورأیت فی أیدی الناس أشیاء کثیرة من تفسیر القرآن ومن الأحادیث عن نبی اللّه صلی الله علیه و آله أنتم تخالفوهم فیها، وتزعمون أنّ ذلک کله باطل، أفتری الناس یکذبون علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله متعمدین ویفسّرون القرآن بآرائهم؟ قال: فأقبل علیَّ وقال: قد سألت فافهم الجواب، وذکر الخطبة عن علیه السلام مع شیء من الإضافات(1).

***

ص:102


1- (1) الکافی، ج 1، ص 62.

القسم الأوّل

اشارة

إِنَّ فِی أَیْدِی النَّاسِ حَقّاً وَبَاطِلاً، وَصِدْقاً وَکَذِباً، ونَاسِخاً وَمَنْسُوخاً، وَعَامّاً وَخَاصّاً، وَمُحْکَماً وَمُتَشَابِهاً، وَحِفْظاً وَوَهْماً، وَلَقَدْ کُذِبَ عَلَی رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله عَلَی عَهْدِهِ، حَتَّی قَامَ خَطِیباً، فَقَالَ: «مَنْ کَذَبَ عَلَیَّ مُتَعَمِّداً فَلْیَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».

الشرح والتفسیر: نقد الروایات

منعت الخلافة عقب وفاة النّبی صلی الله علیه و آله لمدّة طویلة (أکثر من 100 سنة) تدوین السنّة لأسباب سترد فی محلها، مع ذلک کانت الألسن تتناقل أخبار النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فکانت تنسب له صلی الله علیه و آله بعض الأخبار المتناقضة، واستغل المنافقون والأعداء الخفیون والظاهرون تلک الظروف الذهبیة فحاکوا بعض الأکاذیب لصالحهم أو لصالح زعمائهم ونسبوها للنبی صلی الله علیه و آله، وإن قام البعض فی القرون اللاحقة لتهذیب الأخبار ووضع معاییر الصدق والکذب فانتعش تألیف کتب الحدیث والرجال، لکن کما قیل فإنّ منع الکتابة حال دون تدوین الأحادیث.

فقد بیّن علیه السلام بعبارات قصیرة بلیغة وعلی وجه الدقّة منبع اختلاف الأخبار لیوجزه بستة أمور فقال: «إِنَّ فِی أَیْدِی النَّاسِ حَقّاً وَبَاطِلاً، وَصِدْقاً وَکَذِباً، ونَاسِخاً وَمَنْسُوخاً، وَعَامّاً وَخَاصّاً، وَمُحْکَماً وَمُتَشَابِهاً، وَحِفْظاً وَوَهْماً».

فأشار علیه السلام أوّلاً إلی السبب الأصلی المتمثل بوجود الحق والباطل التی ربّما تشیر إلی عقیدة الحق والباطل، فأهل الحق یتابعون أحادیث الحق وأهل الباطل یروِّجون للباطل.

ص:103

والصدق والکذب الذی یمثّل نوعاً آخر للحق والباطل بلباس القول هو عامل آخر.

فالکاذبون وضعوا عمداً بعض الأخبار المختلقة ونسبوها للنبی صلی الله علیه و آله وکانوا یتلقون أحیاناً أموالاً باهضة من الحکام مثل معاویة وهو السبب الثانی، والسبب الثالث الناسخ والمنسوخ، فالبعض سمع حکم المنسوخ فقط ورواه والبعض الآخر سمع الناسخ ورواه.

والسبب الرابع العام والخاص مثلاً سمع البعض أنّ اللّه أحلّ للناس المعاملات لکنه لم یسمع الحکم الخاص، أی بعض الاستثناءات، والبعض الآخر روی الاستثناء والذی یتناقض ظاهریاً مع الخبر العام.

المحکم والمتشابه هو السبب الخامس: فبعض الأخبار مثل بعض آیات القرآن تتحمل عدّة وجوه فی التفسیر ثم ترد لاحقاً بعض الأخبار وتزیل الابهام، وعدم اطلاع الرواة علی الحالتین أدی إلی الاختلاف فی الروایة.

السبب السادس: الحفظ والوهم فبعض الرواة روی حدیث النّبی صلی الله علیه و آله بدقّة تامة، بینما رواها البعض الآخر علی أساس الظن والوهم الذی لا یطابق الواقع، هذه هی الأسباب التی تشابکت مع بعضها وعکرت أجواء الروایات الإسلامیّة، ثم بدأت هذه الأجواء تظهر فی ظل جهود علماء الحدیث والرجال وإن ترسبت بعض الروایات الموضوعة.

ثم خاض علیه السلام فی ذکر دلیل واضح علی کلامه فقال: «وَلَقَدْ کُذِبَ عَلَی رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله عَلَی عَهْدِهِ، حَتَّی قَامَ خَطِیباً، فَقَالَ: «مَنْ کَذَبَ عَلَیَّ مُتَعَمِّداً فَلْیَتَبَوَّأْ(1) مَقْعَدَهُ(2) مِنَ النَّارِ»».

ورد فی حدیث آخر أنّه صلی الله علیه و آله قال: «قَدْ کَثُرَتْ عَلَیّ الْکَذّابَةُ وَسَتَکْثُرُ بَعْدی ألا فَمَنْ

ص:104


1- (1) . «فلیتبوأ» من «بواء» علی وزن «دواء» الرجوع والاطراق ویقال للموضع المستوی والمکان، والمعنی فلیتهیأویسکن.
2- (2) «مقعد» المکان والمحل وموضع الجلوس ویطلق أیضاً علی الوسادة الصغیرة.

کَذَبَ عَلَیّ مُتَعَمِّداً فَلْیَتَبَوّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ»(1).

وقد ورد هذا الحدیث فی مصادر العامّة، ومنها «مستدرک الحاکم» و «سنن ابن ماجة» مع اختلاف طفیف(2).

وأکد أغلب الشرّاح أنّ هذا الحدیث یجعلنا نوقن بالکذب علی النّبی صلی الله علیه و آله لأنّ هذا الحدیث إن صدق فمعناه کثرة الکذب علی النّبی صلی الله علیه و آله حتی خطب المسلمین واعداً الوضاعین بنار جهنم، وإن کان الحدیث کاذباً فعلی الأقل أنّ هذا من الکذب الذی نسب للنبی صلی الله علیه و آله.

علی کلّ حال، ممّا لا شک فیه أنّ بعض المنافقین والأعداء شهدوا عصر النّبی صلی الله علیه و آله وقد أشار إلیهم القرآن فی عدّة سور، وقد اشتد خط النفاق عقب رحیل رسول اللّه صلی الله علیه و آله؛ حیث کان هؤلاء أحد أسباب وضع الأحادیث، وطائفة أخری خاضت فی الوضع لجهلها بالناسخ والمنسوخ وعدم تمیزها بین المحکم والمتشابه والعام والخاص وهذا ما عکر صفو الأحادیث، واضطر علماء الحدیث والرجال لبذل جهودهم لیعیّنوا معاییر الحدیث ویمیزوا الصحیح من السقیم، وهذا ما سنشیر له فی ختام الخطبة.

***

ص:105


1- (1) الاحتجاج، ج 2، ص 246.
2- (2) مستدرک الحاکم، ج 1، ص 111 و 113؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 14.

ص:106

القسم الثانی

اشارة

وَإِنَّما أَتَاک بِالْحَدِیثِ أَرْبَعَةُ رِجَال لَیْسَ لَهُمْ خَامِسٌ:

رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلاِْیمَانِ، مُتَصَنِّعٌ بِالاِْسْلاَمِ، لاَ یَتَأَثَّمُ وَلاَ یَتَحَرَّجُ، یَکْذِبُ عَلَی رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله مُتَعَمِّداً، فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ کاذِبٌ لَمْ یَقْبَلُوا مِنْهُ، وَلَمْ یُصَدِّقُوا قَوْلَهُ، وَلکِنَّهُمْ قَالُوا: صَاحِبُ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله رَآهُ، وَسَمِعَ مِنْهُ، وَلَقِفَ عَنْهُ، فَیَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَک اللّه عَنِ الْمُنَافِقِینَ بِما أَخْبَرَک، وَوَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَک، ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ، فَتَقَرَّبُوا إِلَی أَئِمَّةِ الضَّلاَلَةِ، وَالدُّعَاةِ إِلَی النَّارِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، فَوَلَّوهُمُ الأَعْمَالَ، وَجَعَلُوهُمْ حُکَّاماً عَلَی رِقَابِ النَّاسِ، فَأَکَلُوا بِهِمُ الدُّنْیَا، وَإنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوک وَالدُّنْیَا، إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللّه، فَهذَا أَحَدُ الأَرْبَعَةِ.

الشرح والتفسیر: وضع المنافقین للحدیث

کان ما مضی إشارة إجمالیة عمیقة المعنی لمختلف العناصر التی تقف وراء اختلاف وتعارض أحادیث النّبی صلی الله علیه و آله، وقد خاض الإمام علیه السلام هنا فی شرح ذلک الکلام فقسّم الرواة إلی أربعة أصناف وشخّص موقف کلّ صنف بصورة دقیقة.

والواقع أنّ الإمام علیه السلام اعتمد فی هذه الخطبة أحد فنون الفصاحة والبلاغة الذی یتمثل فی اسلوب الإجمال والتفصیل والذی ورد کراراً فی القرآن لیضع مخاطبیه بدقّة فی واقع الحدث، حیث خاطب علیه السلام السائل الذی استهل به الخطبة - وإن کان الخطاب للجمیع - فقال: «وَإِنَّما أَتَاک بِالْحَدِیثِ أَرْبَعَةُ رِجَال لَیْسَ لَهُمْ خَامِسٌ».

ص:107

ثم تحدث الإمام علیه السلام عن الطائفة الاُولی بصفتها العامل الأصلی للاختلاف فقال:

«رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلاِْیمَانِ، مُتَصَنِّعٌ(1) بِالاِْسْلاَمِ، لاَ یَتَأَثَّمُ وَلاَ یَتَحَرَّجُ(2) ، یَکْذِبُ عَلَی رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله مُتَعَمِّداً».

هبّ الأعداء لمواجهة الإسلام علانیة حین لم یکن یتمتع بالقدرة الکافیة غیر أنّهم هزموا بعد فتح مکة وسیطرة الإسلام، فارتدوا - کسائر المجتمعات البشریّة - ثیاب النفاق فالتحقوا ظاهریاً بصفوف المسلمین وانهمکوا باطنیاً بأعمالهم التخریبیة، وکانت إحدی طرقهم التخریبیة المهمّة أن یکسوا أهدافهم ثیاب أحادیث النّبی صلی الله علیه و آله لیحرفوا المسلمین ویحققوا اغراضهم، وکان المسلمون - الذین یثقون بالمقابل - یسمعون کلامهم کونهم صحابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله فعاش المجتمع الإسلامی مشکلة کبری - ولحسن الحظ فقد أفرط هؤلاء فی وضع الروایات لصالح الحکام الظلمة کمعاویة إلی درجة جعلت أغلب الناس یقفون علی دجلهم وسنتابع فی مبحث التأملات بعض النماذج.

ثم قال علیه السلام: «فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ کَاذِبٌ لَمْ یَقْبَلُوا مِنْهُ، وَلَمْ یُصَدِّقُوا قَوْلَهُ، وَلکِنَّهُمْ قَالُوا: صَاحِبُ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله رَآهُ، وَسَمِعَ مِنْهُ، وَلَقِفَ(3) عَنْهُ، فَیَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ».

یبدو أنّ أحد أسالیب المنافقین أنّهم اسبغوا قدسیة علی الصحابة وأنّهم جمیعاً مؤمنون صلحاء ومقدسون لینفذوا من ذلک لتحقیق مآربهم (وسنتعرض لذلک إن شاءاللّه).

ثم استشهد علیه السلام بالقرآن علی صحة کلامه بحیث لایبقی من مجال للشک فی أذهان مخاطبیه فقال: «وَقَدْ أَخْبَرَک اللّه عَنِ الْمُنَافِقِینَ بِما أَخْبَرَک، وَوَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَک».

ص:108


1- (1) . «مُتصنّع» من مادة «صنع» علی وزن «رُمح» من یحسن ظاهره ویبدی السیی حسناً.
2- (2) «یتحرّج» من مادة «حرج» الخشیة من الوقوع فی الذنب، باب تفعل.
3- (3) . «لقف» من مادة «لقف» علی وزن «وقف» أخذ الشیء بسرعة وتناوله.

وهذا الکلام إشارة إلی آیات کثیرة وردت فی سورة (المنافقون)، التوبة، الأحزاب، النساء، البقرة، وسائر السور القرآنیّة وکشفت النقاب عن وضع المنافقین وفضحت أسالیبهم وذکرت حیلهم ومصائدهم.

ثم قال علیه السلام: «ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ، فَتَقَرَّبُوا إِلَی أَئِمَّةِ الضَّلاَلَةِ، وَالدُّعَاةِ إِلَی النَّارِ بِالزُّورِ (1)وَالْبُهْتَانِ، فَوَلَّوهُمُ الأَعْمَالَ، وَجَعَلُوهُمْ حُکَّاماً عَلَی رِقَابِ النَّاسِ». وکانت النتیجة کما خلص إلیها الإمام علیه السلام «فأکلوا بهم الدنیا». والمراد من أئمّة الضلالة والدعاة إلی النار بالدرجة الاُولی، حکام بنی أمیة الذین استهتروا بجمیع شؤون الإسلام بما فیها أحادیث النّبی صلی الله علیه و آله لیتأمّروا علی الناس، فکانت أفضل وسائلهم تسخیر منافقی عصر النّبی صلی الله علیه و آله واذنابهم لتحقیق أهدافهم، وهکذا تکدرت أجواء الأحادیث.

والمؤسف أنّ أغلب الناس لهثوا خلفهم معصوبی العیون حیث قال علیه السلام: «وَإنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوک وَالدُّنْیَا، إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللّه».

العبارة المعروفة «النّاسُ عَلی دینِ مُلُوکِهِمْ» وإن لم ترد بهذه الصیغة فی الروایات(2) إلّاأنّها حقیقیة ورد مضمونها فی الروایات وکلمات الأعلام حیث إنّ الطبقة الفاسدة المفسدة إذا وردت المیدان بخطة مدروسة ووسائل إعلامیّة ودعائیّة واسعة أمکنها خداع الرأی العام واستقطاب العدید من الناس ولا تقتصر هذه الحقیقة علی التاریخ الماضی وصدر الإسلام بعد النّبی صلی الله علیه و آله بل نلمسها الیوم فی أغلب البلدان المتقدمة، حیث استحوذ الطغاة علی الشعوب وخدعوها وتلاعبوا بأفکارها من خلال الاستعانة بوسائل الاعلام ومعونة المنافقین، ثم اختتم علیه السلام هذا القسم بقوله «فهذا أحد الأربعة».

ص:109


1- (1) . «زور» تعنی فی الأصل المیل عن الوسط إلی الطرف ولذلک یطلق علی الکذب لأنّه انحراف عن الحق.
2- (2) . ذکره والد المرحوم الشیخ البهائی فی کتاب «أصول الأخیار إلی أُصول الأخبار»، ص 30 بعنوان «المثل السائر» والمرحوم الملا صالح المازندرانی فی «شرح أصول الکافی»، ج 12، ص 560؛ ولکن قال فی کتاب «کشف الغمّة»، ج 2، ص 230 بعد ذکر هذه الجملة: «کما ورد فی الحدیث والمثل».

تأمّلات

1. المنافقون علی عهد النّبی صلی الله علیه و آله

یعلم مَن له إلمام بالقرآن أنّ المنافقین ذُمّوا بشدّة فی مختلف السور والآیات لیدل هذا علی أنّ المنافقین لم یکونوا عدّة معدودة، وقد انطلقت خططهم منذ قدم النّبی صلی الله علیه و آله إلی المدینة واستقبل من قبل أکبر قبیلتین هما الأوس والخزرج وشکل الدولة الإسلامیّة، وهی الفئة التی شعرت بخطورة مصالحها إبّان ظهور الإسلام فأعلنت إسلامها فی حین کانت تکن العداء للنبی صلی الله علیه و آله والرسالة.

ورغم سعیها الجاد للتخفی، غیر أنّها کانت تفتضح فی الظروف العصیبة التی تشهد العواصف السیاسیة والاجتماعیة، فتارة من خلال اعتزال القتال وأخری ببناء مسجد ضرار، وأحیاناً من خلال التجسس لصالح المشرکین علی هامش فتح مکة وأخری عن طریق تهویل قضیة الإفک والتی کانت تکشف النقاب عن صورتهم الحقیقیّة.

وقد اتسع نطاق النقاب عقب فتح مکة؛ فأبو سفیان عدو الإسلام الأوّل وأتباعه اعتنقوا الإسلام لإنقاذ حیاتهم، لکنهم کانوا یتحیّنون الفرص للانقضاض علیه.

2. المنافقون بعد النّبی صلی الله علیه و آله

فتح الباب علی مصراعیه عقب وفاة النّبی صلی الله علیه و آله لاتساع أنشطة المنافقین، فلم یکن من یردعهم بعد انقطاع الوحی ووفاة النّبی صلی الله علیه و آله ویحذر الناس منهم ویوجه لهم الضربة القاصمة کما یقول ابن أبی الحدید(1) من جانب آخر فإنّ الفتوحات وکثرة الغنائم شغلت أغلب المسلمین وجعلتهم یغفلون عن مؤامرات المنافقین، سیما أنّ أغلب المنافقین شغلوا مناصب حساسة فی البلاد الإسلامیّة علی عهد الخلفاء، وإحدی مؤامراتهم الخطیرة وضع الروایات بما یناسب رغبة الخلفاء والتی بلغت ذروتها علی عهد معاویة بغیة توجیه الضربة للإسلام من جهة والتقرب إلی الخلفاء

ص:110


1- (1) . شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 11، ص 41.

من جهة أخری.

وقد وردت هذه القضیة فی أغلب المصادر حتی وصل الأمر بمعاویة أن یتواطأ مع بعض الصحابة، فمن وضع الروایة کذا فله کذا.

فعمد المنافقون أحیاناً إلی تحریف الحدیث النبوی، وتغییر مضمونه تماماً، کالحدیث المروی عن النّبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «إذا رَأَیْتُمْ مُعاوِیَةَ یَخْطِبُ عَلی مِنْبَری فَاقْتُلوه»(1).

قال الحسن البصری قال أبوسعید الخدری: «فَلَمْ نَفْعَل وَلَمْ نَفْلَحْ» ولکن المنافقین الوضاعین حرّفوا الحدیث بأنّه قال: «إذا رَأَیْتُمْ مُعاوِیَةَ یَخْطِبُ عَلی مِنْبَری فَاقْبَلُوهُ فَإنَّهُ أمینٌ مَأمُونٌ»(2).

قال ابن أبی الحدید: وکتب معاویة إلی عماله فی جمیع الآفاق: ألّا یجیزوا لأحد من شیعة علی وأهل بیته شهادة، وکتب إلیهم: أن انظروا من قبلکم من شیعة عثمان ومحبیه وأهل ولایته، والذین یروون فضائله ومناقبه، فادنوا مجالسهم وقربوهم وأکرموهم، واکتبوا لی بکلّ ما یروی کلّ رجل منهم، واسمه واسم أبیه وعشیرته، ففعلوا ذلک، حتی أکثروا من فضائل عثمان ومناقبه، لِما کان یبعثه إلیهم معاویة من الصلات والکساء والقطائع، ویفیضه فی العرب منهم والموالی، فکثر ذلک فی کلّ مصر، وتنافسوا فی المنازل والدنیا، فلیس یجیء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاویة، فیروی فی عثمان فضیلة أو منقبه إلّاکتب اسمه وقرّبه وشفّعه، فلبثوا بذلک حیناً، ثم کتب إلی عماله: إنّ الحدیث فی عثمان قد کثر وفشا فی کلّ مصر وفی کلّ وجه وناحیة، فإذا جاءکم کتابی هذا فادعوا الناس إلی الروایة فی فضائل الصحابة والخلفاء الأولین ولا تترکوا خیراً یرویه أحد من المسلمین فی أبی تراب

ص:111


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 15، ص 176.
2- (2) شرح نهج البلاغة للمرحوم التستری، ج 7، ص 212؛ تاریخ بغداد، ج 1، ص 275. وأضاف الخطیب البغدادی بعد نقله لهذا الحدیث: لم أجده إلّابسند واحد وأغلب رجال هذا السند مجهولون.

إلّا وتأتونی بمناقض له فی الصحابة، فإنّ هذا أحبّ إلیَّ وأقرّ لعینی، وأدحض لحجّة أبی تراب وشیعته، وأشدّ علیهم من مناقب عثمان وفضله(1).

إلّا أنّ المحدّثین إنّما یطعنون فیما دون الصحابة ولا یتجاسرون فی الطعن علی أحد من الصحابة لأنّ علیه لفظ الصحبة(2).

3. عدالة الصحابة

هناک رأیان مختلفان بشأن صحابة النّبی صلی الله علیه و آله: الرأی القائل: إنّهم أفراد صالحون وصادقون وعدول جمیعاً ولهم قدسیة خاصة، وعلیه فروایتهم عن النّبی صلی الله علیه و آله مقبولة ولا یرد علیها شیء، وإن بدر منهم خلاف من قبیل التصرفات الخاطئة للخلیفة الثالث فی بیت المال وإثارة طلحة والزبیر لفتنة الجمل وخروج معاویة علی إمام المسلمین علی علیه السلام وأمثال ذلک، فلابدّ أن نبرره فنقول: أقصی ذلک أنّهم کانوا مجتهدین وأخطأوا فی الاجتهاد.

والرأی الآخر: رغم وجود العدول من بین الصحابة والأتقیاء، لکن کان بینهم المنافق والطالح الذی تبرأ منه النّبی صلی الله علیه و آله وذمّه القرآن کراراً حتی لعن البعض منهم، ولا یملک أصحاب نظریة التنزیه المطلق للصحابة من دلیل، وکلماتهم تخالف صریح القرآن والتاریخ الإسلامی.

صحیح أنّ القرآن أشاد فی بعض آیاته بالمهاجرین والأنصار (رضی اللّه عنهم ورضوا عنه) لکننا إن قارنا ذلک بسائر الآیات التی ذمت بعض الصحابة ووصفتهم بأنّهم أداة بید الشیطان (سورة آل عمران، الآیة 155) وعرّف بعضهم بالفسّاق (سورة حجرات، الآیة 6) واعترض بعضهم فی تقسیم النّبی صلی الله علیه و آله للغنائم وأنّه لم یعمل بالعدالة (سورة التوبة، الآیة 58) وفرار البعض الآخر عن الجهاد (سورة الأحزاب،

ص:112


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 11، ص 44-46.
2- (2) المصدر السابق، ص 42.

الآیة 12 و 13) یتضح لنا أنّ نظریة تنزیه جمیع الصحابة لا تعدو کونها خرافة وکان فئة من موالی الخلفاء عزفت علی هذا الوتر بغیة قطع الألسن التی ربّما تنطلق بالاعتراض علی أعمالهم ولاسیما حکام بنی أمیة (معاویة وطائفة من رهطه الذین کانوا ظاهراً من الصحابة) تعصبوا لهذه النظریة أکثر من غیرهم لیبرروا من خلالها عظیم جنایاتهم، ولکن لحسن الحظ فإنّ محققی العامّة أدرکوا الیوم هذه الحقیقة فألّفوا العدید من الکتب فی تفنید نظریة التنزیه(1).

وخطبة الإمام علیه السلام هذه تدل أوّلاً: علی إنّ هذه العقیدة (تنزیه الصحابة) کانت سائدة لدی البعض علی عهده فتزعم أنّ فلاناً صحابی وکلامه حجّة.

وثانیاً: أنّ الإمام علیه السلام رفض تلک النظریة علی أنّ من بین الصحابة منافقین تسللوا إلی الإسلام.

***

ص:113


1- (1) کان ممن انتقد هذه النظریة من علماء العامّة «أحمد حسین یعقوب» فی کتاب نظریة عدالة الصحابة و «الشیخ محمود أبوریّة» فی کتاب شیخ المضیرة، وأبوهریرة.

ص:114

القسم الثالث

اشارة

وَرَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللّه شَیْئاً لَمْ یَحْفَظْهُ عَلَی وَجْهِهِ، فَوَهَمَ فِیهِ، وَلَمْ یَتَعَمَّدْ کَذِباً، فَهُوَ فِی یَدَیْهِ، وَیَرْوِیهِ وَیَعْمَلُ بِهِ، وَیَقُولُ: أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله، فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهَمَ فِیهِ لَمْ یَقْبَلُوهُ مِنْهُ، وَلَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ کَذلِک لَرَفَضَهُ!

وَرَجُلٌ ثَالِثٌ، سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله شَیْئاً یَأْمُرُ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَهَی عَنْهُ، وَهُوَ لاَ یَعْلَمُ، أَوْ سَمِعَهُ یَنْهَی عَنْ شَیْء، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَهُوَ لاَ یَعْلَمُ، فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ، وَلَمْ یَحْفَظِ النَّاسِخَ، فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ، وَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ.

الشرح والتفسیر: أحادیث الناسخ والمنسوخ

أشار الإمام علیه السلام هنا إلی قسمین من أسباب اختلاف الأحادیث وتعارضها فقال:

«وَرَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللّه شَیْئاً لَمْ یَحْفَظْهُ عَلَی وَجْهِهِ، فَوَهَمَ فِیهِ، وَلَمْ یَتَعَمَّدْکَذِباً، فَهُوَ فِی یَدَیْهِ، وَیَرْوِیهِ وَیَعْمَلُ بِهِ، وَیَقُولُ: أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله».

فهذا الخطأ یعود تارة إلی التساهل والتسامح، وأخری إلی الجهل بمفاهیم الألفاظ والعبارات، وأحیاناً کون الإنسان لیس بمعصوم ویجوز علیه الخطأ والسهو والنسیان، ومهما کان السبب فالنتیجة واحدة وهی النقل الخاطئ للآخرین.

مثلاً ورد عن عبداللّه بن عمر أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: «إِنَّ الْمَیِّتَ لِیُعَذَّبُ بِبُکاءِ أَهْلِهِ عَلَیْهِ». فلما بلغ الحدیث ابن عباس قال: أخطأ عبد اللّه فی نقل الحدیث، إنّما مرّ

ص:115

النّبی صلی الله علیه و آله بقبر یهودی فقال «إِنَّ أهْلَهُ لَیَبْکُونَ عَلَیْهِ وَهُوَ یُعَذَّبُ»(1).

ومن هنا اشترط فی علم الدرایة ضبط الراوی فی قبول الحدیث حیث ینبغی أن یکون ملمّاً عالماً بالمطلب فیرویه صحیحاً.

القضیة المهمّة أیضاً أنّ أغلب الأعلام جوّزوا النقل بالمعنی، أی أنّ الراوی لیس ملزماً بروایة ذات ألفاظ، بل له صیاغتها فی قالب آخر ویرویها، ونعلم أنّ هذا العمل لیس هیناً وربّما یخطئ الراوی فی ذلک.

ثم قال علیه السلام: «فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهَمَ فِیهِ لَمْ یَقْبَلُوهُ مِنْهُ، وَلَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ کَذلِک لَرَفَضَهُ!».

وعلیه فلیس للراوی نیّة سیئة فی هذه الموارد وإن أخطأ فی فعله ولعله یضل الآخرین دون قصد، وأغلب هذه الأخطاء کون الراوی لم ینقل صدر الروایة وذیلها فیتغیر مفهومها.

مثلاً قال أحدهم للإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام: إنّ الناس یروون عن النّبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «إِنَّ اللّه خَلَقَ آدَمَ عَلی صُورَتِهِ». فقال علیه السلام: لعنهم اللّه فقد أسقطوا صدر الحدیث، إنّما مرّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله برجلین یسبّ أحدهما الآخر فیقول له: «قَبَّحَ اللّه وَجْهَک وَوَجْهَ مَنْ یُشْبِهُک».

فقال صلی الله علیه و آله: «یا عَبْدَاللّه لا تَقُلْ هذا لأَخیک فَإِنَّ اللّه عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ عَلی صُورَتِهِ»(2)، أی علی صورة أخیک هذا الذی أنت تسبّه الآن.

***

ثم قال الإمام علیه السلام فی الطائفة الثالثة من الرواة: «وَرَجُلٌ ثَالِثٌ، سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله شَیْئاً یَأْمُرُ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَهَی عَنْهُ، وَهُوَ لاَ یَعْلَمُ، أَوْ سَمِعَهُ یَنْهَی عَنْ شَیْء، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَهُوَ لاَ یَعْلَمُ، فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ، وَلَمْ یَحْفَظِ النَّاسِخَ».

ص:116


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 11، ص 47.
2- (2) عیون أخبارالرضا، ج 2، ص 110؛ بحار الأنوار، ج 4، ص 11.

مسألة النسخ من المسائل الإسلامیّة التی حصلت بصیغة محدودة فی أصل نزول القرآن، أی أنّه نزل حکماً لزمان معین ثم أزیل لیحلّ محلّه حکم دائم، مثلاً، أمر المسلمون بادئ الأمر بالتوّجه إلی بیت المقدس فی الصلاة واستمر هذا الأمر مدّة فی مکة ثم المدینة وقد نسخ هذا الحکم لعله ربّما لأنّ الکعبة تحولت آنذاک إلی معبد للأصنام، ولکن حین رسخ النّبی دعائم التوحید أُمر المسلمون فی السنة الثانیة للهجرة بالتوجه إلی الکعبة، وورد هذا المعنی فی الأحادیث النبویة فکان النّبی یبیّن حکماً هو فی الواقع مؤقت ولکن لم یبیّن زمانه ثم ینسخ ذلک الحکم بحکم دائمی، علی سبیل المثال قال النبیّ: «نَهَیْتُکُمْ عَنْ ثَلاث؛ نَهَیْتُکُمْ عَنْ زِیارَةِ الْقُبُورِ، ألا فَزُورُوها، وَنَهَیْتُکُمْ عَنْ إخْراجِ اللُّحُومِ الأضاحی مِنْ مِنی بَعْدَ ثَلاث ألا فَکُلُوا وَادَّخِرُوا، وَنَهَیْتُکُمْ عَنِ النَّبیذِ ألا فَانْبُذُوا وَکُلُّ مُسْکِرٍ حَرام»(1).

وعلیه یسع نقل الأحادیث الصحیحة للنبی لمن له إحاطة تامة بکلّ الأحادیث فیعرف الناسخ والمنسوخ ویضع کلاً فی محله، وموضوع العام والخاص کذلک حیث یقال أحیاناً، حکم عام یشمل جمیع الأفراد، مثلاً، قوله صلی الله علیه و آله: «النّاسُ مُسَلَّطُونَ عَلی أَمْوالِهِمْ»(2).

ثم یقول فی موضع آخر: «لا ضَرَرَ وَلا ضِرارَ فی الاِْسْلامِ»(3).

فمن سمع الحکم العام ولم یعلم الخاص یبلغه الآخرین بما یناقض الحکم الخاص، بینما یعلم بعدم التناقض کلّ من سمعهما معاً، ثم قال علیه السلام: «فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ، وَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ».

ومن هنا فإنّ بعض اختلاف الأحادیث ناشیء من عدم الإحاطة بروایات الناسخ والمنسوخ دون سوء نیّة من الرواة.

ص:117


1- (1) المراد من النبیذ الحلال أنّ المسلمین لما دخلوا المدینة أصیب البعض لبرودة الماء فأمر النّبی أن یلقی فی الظرف تمر لتزول برودة الماء ولم یکن بالمقدار الذی یحیله خمراً ومن هنا قال فی ذیل الروایة: «وکل مسکر حرام».
2- (2) وسائل الشیعة، ج 10، باب 41 من أبواب الذبح، ح 7.
3- (3) بحار الأنوار، ج 2، ص 272، ح 7.

تأمّل: النسخ فی أحکام الشرع

رغم أنّ موارد النسخ فی آیات القرآن وروایات النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله محدودة ومعدودة؛ إلّاأنّ لهذه المسألة أهمّیة خاصة؛ من حیث إرتباطها بالمسائل العقائدیة والمسائل المتعلقة بالنبوّة والأحکام.

یتساءل البعض: کیف یمکن أن یوحی اللّه للنبی حکماً ظاهره أبدیّ ودائمی؛ لکنه ینسخ بعد مدّة ویحلّ محلّه حکم آخر غالباً ما یناقضه، مع أنّ علم اللّه غیر محدود وعلم النّبی أیضاً یستند إلی الوحی؟ والنسخ کثیر فی الأحکام العرفیة والوضعیة ولیس ذلک من العجب، لأنّه یدرس الأمور ویضع الأحکام؛ إلّاأنّ ضعفها وعجزها یتضح عند العمل فینسخها، ولو علم العیوب والمثالب منذ البدایة ربّما لم یضعها؛ إلّاأنّ هذا الأمر لا یصدق علی الأحکام الشرعیّة، فما معنی النسخ فیها؟ یتضح الجواب عن هذا السؤال من الالتفات إلی نقطة وهی: أنّ النسخ فی الأحکام الشرعیّة من حیث تغییر الموضوع؛ بعبارة أخری أنّ عمر ذلک الحکم کان محدوداً منذ البدایة بزمان معین وإن لم یُشر إلی نفاده لبعض المصالح.

مثلاً، حکم التصدق قبل النجوی الواردة فی الآیة 12-13 من سورة المجادلة کان لاختبار أصحاب النّبی صلی الله علیه و آله وتفهیم هذه القضیة أنّ أغلب مناجاة الأفراد للنبی لم تکن ضروریة ولابد من ترکها حتی لا یکون هنالک اساءة ظن، ومن هنا لما أمر بالتصدق قبل النجوی ترکه جمیع الأصحاب سوی علی علیه السلام الذی تصدق وناجی النّبی فی أمر مهم لیفخر بأنّه الوحید الذی عمل بالآیة.

ثم نزلت بعد ذلک آیة نسخت التصدق قبل النجوی وعلم الجمیع أنّ أغلب نجواهم لم تکن ضروریة فامتنعوا عنها، ومن هذا القبیل النسخ سواء فی القرآن أو الحدیث حیث یوضع حکم فی ظروف معینة لمدّة معینة ثم ینسخ بعد تغییر الشرائط.

ص:118

جدیر ذکره أن النسخ حسب ما ورد هنا یقتصر علی زمان النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله حین فتح باب الوحی ولم یقع أی نسخ بعد النّبی(1).

***

ص:119


1- (1) انظر المزید فی النسخ، نفحات الولایة، ج 1، ص 239 و 250 ذیل الخطبة الاُولی وتفسیرالأمثل، ج 1، ذیل الآیة 106 من سورة البقرة، وأسهب من ذلک فی کتاب أنوار الأصول، ج 1، ص 177.

ص:120

القسم الرابع

اشارة

وَآخَرُ رَابِعٌ، لَمْ یَکْذِبْ عَلَی اللّه، وَلاَ عَلَی رَسُولِهِ، مُبْغِضٌ لِلْکَذِبِ خَوْفاً مِنَ اللّه، وَتَعْظِیماً لِرَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله وَلَمْ یَهِمْ، بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَی وَجْهِهِ، فَجَاءَ بِهِ عَلَی مَا سَمِعَهُ، لَمْ یَزِدْ فِیهِ وَلَمْ یَنْقُصْ مِنْهُ، فَهُوَ حَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ، وَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ، وَعَرَفَ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ، وَالْمُحْکَمَ وَالْمُتَشَابِهَ، فَوَضَعَ کُلَّ شَیْء مَوْضِعَهُ.

وَقَدْ کَانَ یَکُونُ مِنْ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله الْکَلاَمُ لَهُ وَجْهَانِ: فَکَلاَمٌ خَاصٌّ، وَکَلامٌ عَامٌّ، فَیَسْمَعُهُ مَنْ لاَ یَعْرِفُ مَا عَنَی اللّه سُبْحَانَهُ، بِهِ، وَلاَ مَا عَنَی رَسُولُ اللّه صلی الله علیه و آله فَیَحْمِلُهُ السَّامِعُ، وَیُوَجِّهُهُ عَلَی غَیْرِ مَعْرِفَة بِمَعْنَاهُ، وَمَا قُصِدَ بِهِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَیْسَ کُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله مَنْ کَانَ یَسْأَلُهُ وَیَسْتَفْهِمُهُ، حَتَّی إِنْ کانُوا لَیُحِبُّونَ أَنْ یَجِیءَ الأَعْرَابِیُّ وَالطَّارِیءُ، فَیَسْأَلَهُ علیه السلام حَتَّی یَسْمَعُوا، وَکَانَ لاَ یَمُرُّ بِی مِنْ ذلِک شَیْءٌ إِلاَّ سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَحَفِظْتُهُ، فَهذِهِ وُجُوهُ مَا عَلَیْهِ النَّاسُ فِی اخْتِلاَفِهِمْ، وَعِلَلهِمْ فِی رِوَایَاتِهِمْ.

الشرح والتفسیر: حفظة الحدیث

تطرق الإمام علیه السلام هنا إلی الصنف الرابع من الرواة السالکین الصراط المستقیم وحملة أحادیث النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام الثقاة والمبینین لأحکام الدین فقال:

«وَآخَرُ رَابِعٌ، لَمْ یَکْذِبْ عَلَی اللّه، وَلاَ عَلَی رَسُولِهِ، مُبْغِضٌ لِلْکَذِبِ خَوْفاً مِنَ اللّه، وَتَعْظِیماً لِرَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله».

ص:121

وعلیه تغیب فیهم أُولی مناشیء تضاد الأخبار: الکذب علی اللّه ورسوله ووضع الأحادیث، حیث إنّ مجانبة الکذب جزء من ذاتهم وخوف اللّه وتعظیم النّبی بغّضَ إلی نفوسهم الکذب.

ثم قال: «وَلَمْ یَهِمْ(1) ، بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَی وَجْهِهِ، فَجَاءَ بِهِ عَلَی مَا سَمِعَهُ، لَمْ یَزِدْ فِیهِ وَلَمْ یَنْقُصْ مِنْهُ».

وهنا زال عنهم المصدر الآخر لاختلاف الأحادیث والذی یتمثل بتساهل الرواة، ثم بیّن علیه السلام صفة أُخری لرواة الصدق العارفین فقال: «فَهُوَ حَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ، وَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ(2) عَنْهُ، وَعَرَفَ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ، وَالْمُحْکَمَ وَالْمُتَشَابِهَ، فَوَضَعَ کُلَّ شَیْء مَوْضِعَهُ».

فهذه العبارة العمیقة المعنی إشارة إلی الرواة الصادقین المحیطین إحاطة تامة بالأخبار المختلفة؛ ویعرفون الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمحکم والمتشابه، فیجعلون کلّاً فی موضعه لیبتعدوا عن التناقض والخطأ.

وکلام الإمام علیه السلام بشأن دراسة أساس اختلاف الأحادیث، لیس خاصاً یتعلق بالحدیث فحسب، بل یعلمنا درساً أهم وأشمل فلابد من التوجه إلی الأسس والتعرف علی العوامل المؤثرة فی السعی لإزالة المعوقات وإلّا فإنّ کلّ إصلاح یبقی سطحیاً وعابراً.

ثم أشار إلی سبب آخر لاختلاف الأحادیث والذی یکمل المباحث السابقة، وهو اختلاف استعداد الأصحاب فی تعلّم الأحادیث وتفسیرها وفهم معناها فقال:

«وَقَدْ کَانَ یَکُونُ مِنْ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله الْکَلاَمُ لَهُ وَجْهَانِ: فَکَلاَمٌ خَاصٌّ، وَکَلاَمٌ عَامٌّ، فَیَسْمَعُهُ مَنْ لاَ یَعْرِفُ مَا عَنَی اللّه، سُبْحَانَهُ، بِهِ، وَلاَ مَا عَنَی رَسُولُ اللّه صلی الله علیه و آله فَیَحْمِلُهُ السَّامِعُ، وَیُوَجِّهُهُ عَلَی غَیْرِ مَعْرِفَة بِمَعْنَاهُ، وَمَا قُصِدَ بِهِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ».

ص:122


1- (1) . «لم یهم» من مادة «وهم» مطلق الخیال والظن وتعنی أحیاناً الظن الباطل والخطأ وهذا هو المعنی المراد.
2- (2) . «جنّب» من باب تفعیل ومادة «جنب تعنی حسب بعض مصادر اللغة، الحفظ والإبعاد بالمعنی اللازم والمتعدی والمعنی الثانی هو المراد.

لیس المراد من الخاص والعام فی هذه العبارة، الخاص والعام الاصطلاحیّان فی علم الفقه والأصول، بل المراد الخاص والعام اللغویان؛ أی الحکم الخاص بمورد معین والحکم العام، مثلاً ورد فی بعض الروایات أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أمر المسلمین فی السنة السابعة للهجرة بعد الحدیبیة حین أتوا إلی مکة لإتیان مناسک الحج، أن یسرعوا فی الطواف حول البیت الحرام (لیشعر المشرکون بالخوف من قوّتهم وسرعة حرکتهم)(1) والحال لم تکن سنة ثابتة ودائمیة، وورد فی الکلمات القصار من «نهج البلاغة» أنّه سئل الإمام علیه السلام عن حدیث النّبی صلی الله علیه و آله حین قال: «غَیِّرُوا الشَّیْبَ وَلا تَشَبَّهُوا بِالْیَهُودِ».

قال علیه السلام: «إنّما قال ذلک (الحکم الخاص) والدین قُلّ، أمّا الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرئ وما اختار»(2).

ثم خاض الإمام علیه السلام فی مشکلة أخری بشأن نقل الأحادیث وهی؛ «وَلَیْسَ کُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله مَنْ کَانَ یَسْأَلُهُ وَیَسْتَفْهِمُهُ، حَتَّی إِنْ کانُوا لَیُحِبُّونَ أَنْ یَجِیءَ الأَعْرَابِیُّ وَالطَّارِیءُ(3) ، فَیَسْأَلَهُ علیه السلام حَتَّی یَسْمَعُوا».

الظاهر أنّ هذه العبارة إشارة إلی الأصحاب الذین لم یکونوا من أهل التحقیق ولا طرح الأسئلة المختلفة فی أصول الدین والفروع ومن هنا لم یقفوا علی ناسخ ومنسوخ وعام وخاص ومحکم ومتشابه ومجمل ومبیّن، فلا یسألون عنها ولا یلمون بالمسائل ولکن إن جاء أحد وسأل وتلقی الجواب المطلوب تفاعلوا معه.

وقد فسّر بعض الشراح، العبارة المذکورة أنّ بعض الصحابة لم یکن یسأل النّبی لهیبته أو أنّ کثرة السؤال تحمل علی إساءة الأدب فیمتنعون عن السؤال(4) ؛ إلّاأنّ هذا

ص:123


1- (1) . شرح نهج البلاغة للتستری، ج 7، ص 280.
2- (2) نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 17.
3- (3) «طارئ» من «طروء» علی وزن «غروب» حادث والخروج المفاجئ ومن هنا یقال للشخص الذی یرد حدیثاً والزائر بغتة.
4- (4) . کانت هنالک عوامل أخری تحول دون السؤال کالاشتغال بالعبادات ظنّاً منهم أنّهم مأمورون بها فقط أوالانهماک فی الدنیا التی تغفل الإنسان عن کلّ شیء.

الاحتمال لا یتناسب والعبارة التی وردت فی کلام الإمام حیث قال علیه السلام مواصلاً کلامه؛ «وَکَانَ لاَ یَمُرُّ بِی مِنْ ذلِک شَیْءٌ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَحَفِظْتُهُ».

وإن رأینا استعداد الإمام للاجابة عن کلّ سؤال وبغض النظر عن الامداد الغیبی والالهام الباطنی والتأهب الذاتی فإنّ ذلک لملازمته الحمیمة للنبی وروح السؤال للإحاطة بکلّ شیء من المسائل الإسلامیّة.

ثم قال فی ختام الخطبة: «فَهذِهِ وُجُوهُ مَا عَلَیْهِ النَّاسُ فِی اخْتِلاَفِهِمْ، وَعللِهِمْ فِی رِوَایَاتِهِمْ». وردت عدّة عبارات فی ذیل هذه الخطبة فی بعض المصادر ومنها «الکافی» حیث قال:

«وَقَدْ کُنْتُ أدْخُلُ عَلی رَسُولِ اللّه کُلَّ یَوْم دَخْلَةً وَکُلَّ لَیْلَةِ دَخْلَةً فَیُخلّینی فیها أدُورُ مَعَهُ حَیْثُ دارَ وَقَدْ عَلِمَ أصْحابُ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله أنَّهُ لَمْ یَصْنَعْ ذلِک بِأَحَد مِنَ النّاسِ غَیْری... فَما نَزَلَتْ عَلی رَسُولِ اللّه آیةٌ مِنَ الْقُرآنِ إلّاأقرأنیها وَأملاها عَلَیّ فَکَتَبتُها بِخَطّی وَعَلَّمنی تَأویلَها وَتَفْسیرَها وَناسِخَها وَمَنْسُوخَها وَمُحْکَمَها وَمُتَشابِهَهَا وَخاصَّها وَعامَّها وَدَعا اللّه أَنْ یُعْطِیَنی فَهْمَها وَحِفْظَها... وَما تَرَک شَیْئاً عَلَّمَهُ اللّه مِنْ حَلالٍ وَلا حَرامٍ وَلا أمْرٍ وَلا نَهْیٍ کانَ أَوْ یَکُونُ وَلا کِتابٍ مُنْزَل عَلی أَحَدٍ قَبْلَهُ مِنْ طاعَةٍ أَوْ مَعْصِیَةٍ إلّاعَلَّمَنیهِ وَحَفِظْتُهُ فَلَمْ أنسَ حَرْفاً واحِداً ثُمَّ وَضَعَ یَدَهُ عَلی صَدْری وَدعا اللّه لِی أنْ یَمْلأَ قَلْبی عِلْماً وَفَهْماً وَحِکْماً وَنُوراً»(1).

***

ص:124


1- (1) الکافی، ج 1، ص 64، ح 1.

الخطبة 211

اشارة

فی عَجیبِ صَنْعَةِ الْکَون (1)

نظرة إلی الخطبة

تتناول الخطبة عجائب خلق السماء والأرض منذ انطلاقة الخلیقة ولحد الآن وتشیر إلی عدّة أمور منها:

1. قدرة اللّه العظیمة فی خلق الکون.

2. بدایة خلق الأرض والسماء وأنّها کانت بادئ الأمر کتلة ضخمة من مادة مذابة کالبحر المتلاطم.

3. تشکیل کتلة جدیدة علی سطح هذا البحر المذاب ثم تکون الکرة الأرضیة وسائر الکرات السماویة.

4. ظهور التشققات الأرضیة وتکوّن الجبال والقمم التی تمتد لعنان السماء.

5. تمجید اللّه وتسبیحه علی هذا الخلق العظیم والاعتبار بهذا الخلق العجیب.

ص:125


1- (1) سند الخطبة: رواها الزمخشری فی «ربیع الأبرار» ورغم اختلافها مع ما ورد فی «نهج البلاغة» فیتضح أنّه استقاها من مصدر آخر. کما ذکرها ابن الأثیر فی کتابه اللغوی «النهایة» فی مادتی (یعجز) و (ازر) ویفید اختلافها مع «نهج البلاغة» أنّه رواها من مصدر آخر (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 117) لابدّ من الالتفات إلی أنّ ابن الأثیر أشار لهذه الخطبة فی مادة (ازر) و (یعجز) لکنه لم یُشر إلیها - حسب المصادر - فی مادة (ازر).

ص:126

القسم الأوّل

اشارة

وَکَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ، وَبَدِیعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ، أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ الْمُتَرَاکِمِ الْمُتَقَاصِفِ، یَبَساً جَامِداً، ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً، فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَماوَات بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا، فَاسْتَمْسَکَتْ بِأَمْرِهِ، وَقَامَتْ عَلی حَدِّهِ. وَأَرْسَی أَرْضاً یَحْمِلُهَا الأَخْضَرُ الْمُثْعَنْجِرُ، وَالْقَمْقَامُ الْمُسَخَّرُ، قَدْ ذَلَّ لاَِمْرِهِ، وَأَذْعَنَ لِهَیْبَتِهِ، وَوَقَفَ الْجَارِی مِنْهُ لِخَشْیَتِهِ.

الشرح والتفسیر: بدایة خلق الکون

حمل الإمام علیه السلام مخاطبیه إلی بدایة خلق الکون لیریهم عظمة الخلق وعجائبه فقال: «وَکَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ، وَبَدِیعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ، أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ(1) الْمُتَرَاکِمِ الْمُتَقَاصِفِ(2) ، یَبَساً جَامِداً».

(اقتدار) من مادة قدرة وجبروت صیغة مبالغة تفید السلطة التامة، وعلیه فانطلاقة الخلق العظیم للسماء والأرض هی قدرة الخالق العظیم من جهة وابداعه اللطیف والظریف من جهة أخری، فالفرد ربّما یفقد الدقّة والظرافة فی فعل عظیم أو یتعذر علیه التوسع فی هذا الفعل؛ إلّاأنّ القادر المتعال مزج ذلک فی خلق الأرض والسماء، فهناک العظمة فی فعله والدقّة واللطف.

ص:127


1- (1) «زاخر» من «زخور» المملوء و «بحر زاخر» البحر الممتلیء.
2- (2) «متقاصف» الجماعة التی یدفع بعضها الآخر من مادة «قصف» علی وزن «عصف» بالکسر وفی العبارة إشارة إلی الأمواج المتلاطمة التی یضرب بعضها البعض.

فقد ذکر الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة علی غرار الخطبة الاُولی والخطبة 91 من «نهج البلاغة» أنّ بدایة الخلق کانت من المیاه، وقطعاً لیس المراد المیاه الطبیعیة الیوم، بل الکتل العظیمة المذابة والمتلاطمة التی صنعها اللّه بقدرته، وقد تحولت هذه المادة المذابة بمرور الزمان إلی مواد جافة فکونت الأرض والکرات السماویة، ویتفق هذا الطرح مع النظریات العلمیة المعاصرة بشأن ظهور الکون، جدیر ذکره أنّ العبارة (من ماء البحر الزاخر) تفید أنّ قسماً من هذا البحر الزاخر تحول إلی کرات سماویة وبقی قسم منها وهذا ما ینسجم أیضاً والاکتشافات العلمیة التی تقول: ما زالت مواد عظیمة من الکتل الغازیة المحرقة أو المواد المذابة فی السماء لم تتحول إلی کرات علی غرار کرات المنظومة الشمسیة.

ثم تحدّث عن ظهور السموات السبع فقال: «ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً(1) ، فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَماوَات بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا(2) ، فَاسْتَمْسَکَتْ بِأَمْرِهِ، وَقَامَتْ عَلی حَدِّهِ».

والکلام اقتباس ممّا ورد فی الآیة 30 من سورة الأنبیاء: «أَوَلَمْ یَرَی الَّذِینَ کَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ کَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ کُلَّ شَیْءٍ حَیّ».

ومن الواضح أنّ المشاهدة فی هذه الآیة لیست المشاهدة الحسیة وبالعین، بل المشاهدة الباطنیة من خلال العلم والمعرفة، ذهبت النظریات العلمیّة الیوم إلی أنّ السماء والأرض کانتا فی البدایة کتلة عظیمة من الغازات والمواد المذابة وقد انفصلت منها بعض القطع الواحدة تلو الأخری اثر دورانها حول نفسها أو بفعل عوامل أخری فقذفت فی زاویة من الفضاء وکونت الکرات والمنظومات والمجرات.

ثم تطرق علیه السلام إلی خلق الأرض فقال: «وَأَرْسَی(3) أَرْضاً یَحْمِلُهَا الأَخْضَرُ(4)

ص:128


1- (1) . «اطباق» جمع «طَبَق» الطبقات علی بعضها.
2- (2) «ارتقاق» الاتصال من مادة «رتق» وضد ها «فتق».
3- (3) . «أرسی» من مادة «رسو» علی وزن «مسح» الثابت والراسخ.
4- (4) «اخضر» إشارة إلی عمق البحار التی تبدو لکثرة العمق بهذا اللون.

الْمُثْعَنْجِرُ(1) ، وَالْقَمْقَامُ(2) الْمُسَخَّرُ، قَدْ ذَلَّ لاَِمْرِهِ، وَأَذْعَنَ لِهَیْبَتِهِ، وَوَقَفَ الْجَارِی مِنْهُ لِخَشْیَتِهِ».

ولعل الکلام إشارة إلی الأمطار الغزیرة التی اجتاحت الکرة الأرضیة فی بدایة خلق الأرض بصیغة بحر عظیم وتخللت هذه المیاه فجوات الأرض بمرور الزمان فشکلت الیابسة التی تکون ربع الکرة الأرضیّة، وهدات المیاه لتذلل الأرض لکی یعیش علیها الإنسان وسائر الکائنات.

***

ص:129


1- (1) . «مثعنجر» الملیء بالماء من مادة «ثعجرة» علی وزن «حنجرة» جریان الماء وما شابه.
2- (2) «قمقام» البحر العظیم فی الأصل من مادة «قمقمة» علی وزن «همهمة» بمعنی الجمع ومن هنا یقال قمقام للبحر العظیم والأحداث المهمّة التی تجمع فیها المشاکل الکثیرة.

ص:130

القسم الثانی

اشارة

وَجَبَلَ جَلاَمِیدَهَا، وَنُشُوزَ مُتُونِهَا وَأَطْوَادِهَا، فَأَرْسَاهَا فِی مَرَاسِیهَا، وَأَلْزَمَهَا قَرَارَاتِهَا. فَمَضَتْ رُؤُوسُهَا فِی الْهَوَاءِ، وَرَسَتْ أُصُولُهَا فِی الْمَاءِ، فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا، وَأَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِی مُتُونِ أَقْطَارِهَا وَمَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا، فَأَشْهَقَ قِلاَلَهَا، وَأَطَالَ أَنْشَازَهَا، وَجَعَلَهَا لِلاَْرْضِ عِمَاداً، وَأَرَّزَهَا فِیهَا أَوْتَاداً، فَسَکَنَتْ عَلَی حَرَکَتِهَا مِنْ أَنْ تَمِیدَ بِأَهْلِهَا، أَوْ تَسِیخَ بِحِمْلِهَا، أَوْ تَزُولَ عَنْ مَوَاضِعِهَا. فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَکَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِیَاهِهَا، وَأَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَةِ أَکْنَافِهَا، فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَاداً، وَبَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً! فَوْقَ بَحْرٍ لُجِّیٍّ رَاکِدٍ لاَیَجْرِی، وَقَائِمٍ لاَیَسْرِی، تُکَرْکِرُهُ الرِّیَاحُ الْعَوَاصِفُ، وَتَمْخُضُهُ الْغَمَامُ الذَّوَارِفُ؛ «إِنَّ فی ذلِک لَعِبْرَةً لِمَنْ یَخْشَی».

الشرح والتفسیر: خلق الجبال

خاض الإمام علیه السلام بعد بیانه لخلق السموات والأرض واستقرار الأرض فی موضعها فی شرح إحدی الظواهر الأرضیة المهمّة التی تلعب دوراً مهمّاً فی حیاة الإنسان وسائر الکائنات الحیة فقال: «وَجَبَلَ(1) جَلاَمِیدَهَا(2) ، وَنُشُوزَ(3) مُتُونِهَا(4)

ص:131


1- (1) . «جبل» من مادة «جبل» علی وزن «جبر» الخلق ومنه الجبل المعروف.
2- (2) «جلامید» جمع «جلمود» علی وزن «خرطوم» الصخرة والجبل.
3- (3) «نشوز» جمع «نشز» علی وزن «نشر» التل وما ارتفع من الأرض. ولهذه المفردة معنی مصدری: الامتناع عن الإتیان بالوظیفة کنشوز الزوجة عن الزوج.
4- (4) «متون» جمع «متن» المحکم وتأتی بمعنی المستوی والمراد هنا المعنی الأوّل.

وَأَطْوَادِهَا(1) ، فَأَرْسَاهَا فِی مَرَاسِیهَا، وَأَلْزَمَهَا قَرَارَاتِهَا. فَمَضَتْ رُؤُوسُهَا فِی الْهَوَاءِ، وَرَسَتْ أُصُولُهَا فِی الْمَاءِ».

المفروغ منه علمیّاً أنّ سطح الکرة الارضیة لم تَعلُهُ المرتفعات قبل أن یبرد، إلّا أنّ الشقوق تخللتها بعد برودتها (کالتفاحة التی تمر علیها مدّة فتتصلب) فکونت هذه الشقوق الجبال والودیان العظیمة، وکانت الجبال تنطلق إلی السماء وتغوص جذورها فی المواد المذابة فی جوف الأرض فتکون سطح الأرض بصیغته الفعلیّة.

ثم وضح أکثر فقال: «فَأَنْهَدَ(2) جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا، وَأَسَاخَ(3) قَوَاعِدَهَا فِی مُتُونِ أَقْطَارِهَا وَمَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا(4) ، فَأَشْهَقَ(5) قِلاَلَهَا، وَأَطَالَ أَنْشَازَهَا(6)».

تفید هذه العبارة أنّ جبال الارض بغض النظر عن استوائها خارجیاً فإنّ لها جذوراً عظیمة فی أطناب الأرض وهی الجذور التی تشدها معاً من الداخل، بالضبط کالشجرة التی کلما امتد ساقها وأوراقها إلی الأعلی انغمرت جذورها أعمق فی الأرض، فالامتداد والاستقرار یرسخ الجذور فی الأرض.

ثم ذکر علیه السلام فوائد الجبال وأهمها حفظ استقرار الأرض وسکانها، فقال بعبارات دقیقة وعمیقة: «وَ جَعَلَهَا لِلاَْرْضِ عِمَاداً، وَأَرَّزَهَا(7) فِیهَا أَوْتَاداً، فَسَکَنَتْ عَلَی حَرَکَتِهَا مِنْ أَنْ تَمِیدَ(8) بِأَهْلِهَا، أَوْ تَسِیخَ(9) بِحِمْلِهَا، أَوْ تَزُولَ عَنْ مَوَاضِعِهَا».

ص:132


1- (1) . «أطواد» جمع «طود» الجبل الشامخ.
2- (2) . «أنهد» من «النهود» بمعنی الظهور والانفصال.
3- (3) «أساخ» من «السوخ» علی وزن «قول» الغوص فی الماء.
4- (4) «انصاب» جمع «نصب» علی وزن «کتب» الأجسام الأعلام وللنصب معنی المفرد أحیاناً والجمع أخری حسب ما ذکر المرحوم الطبرسی فی «مجمع البیان»، ج 10، ص 126.
5- (5) «أشهق» من «الشهوق» الارتفاع و «اشهق» یعنی رفع.
6- (6) «أنشاز» جمع «نشز» علی وزن «مرض» من «النشوز» ذکرت سابقاً فی هذه الخطبة.
7- (7) . «ارّز» من مادة «رزّ» علی وزن «حظّ» بمعنی ثبت.
8- (8) «تمید» من «المید» علی وزن «صید» الحرکة والاضطراب.
9- (9) «تسیخ» من «سوخ» فسّرت فی الخطبة.

کیف تهب الجبال الأرض الاستقرار وتحول دون اضطرابها؟ وتتضح الاجابة عن هذا السؤال من خلال قضیة هی أنّ نواة جوف الأرض مواد مذابة وغازات تسلط ضغطاً علی الدوام علی القشرة الخارجیة وتظهر أحیاناً کبراکین، إلّاأنّ الجبال لا تتحمل تلک الضغوط بفعل جذورها المحکمة والمتصلة فتحول دون الاضطراب فتصبح مصدراً لاستقرار القشرة الأرضیّة.

أضف إلی ذلک فإنّ الجبال تعتبر من العوامل المؤثرة فی استقرار الأرض بفعل الضغوط الخارجیة الناشئة من جاذبیّة الشمس والقمر وما یحصل منها من مد وجزر، من جانب آخر فإنّها ملاذات إزاء العواصف التی تصیب سطح الأرض ومن شأنها تهدید حیاة الإنسان، ومن أراد المزید بهذا الخصوص فلیراجع الخطبة 91 من الجزء الرابع لهذا الشرح وتفید العبارة «فسکنتا علی حرکتها» استنادا للعبارة «علی» أنّ الإمام علیه السلام أشار بوضوح آنذاک إلی حرکة الأرض التی کان یقول بسکونها آنذاک جمیع علماء الهیئة حیث قال رغم حرکة الأرض إلّاأنّها مستقرة ولا تعرض سکانها للاضطراب.

وقد أشار المرحوم العلّامة شرف الدین صاحب کتاب (مؤلفو الشیعة فی صدر الإسلام) إلی هذه النقطة الظریفة(1).

ثم قال علیه السلام: «فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَکَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِیَاهِهَا، وَأَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَةِ أَکْنَافِهَا، فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَاداً، وَبَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً! فَوْقَ بَحْرٍ لُجِّیٍّ رَاکِدٍ لاَیَجْرِی، وَقَائِمٍ لاَیَسْرِی، تُکَرْکِرُهُ(2) الرِّیَاحُ الْعَوَاصِفُ، وَتَمْخُضُهُ(3) الْغَمَامُ الذَّوَارِفُ(4) ؛ «إِنَّ فی ذلِک لَعِبْرَةً لِمَنْ یَخْشَی»».

ص:133


1- (1) مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 117.
2- (2) . «تکرکر» من مادة «کرکرة» علی وزن «حنجرة» یری البعض أنّها من مادة والبعض الآخر أنّها مادة مستقلة من الرباعی المجرّد وتعنی التکرار.
3- (3) «تمخض» من مادة «مخض» علی وزن «قرض» تعنی فی الأصل حرکة اللبن لاستخراج الزبدة ثم اطلقت علی کلّ حرکة شدیدة.
4- (4) «ذوارف» من مادة «ذرف» علی وزن «حرف» سیلان الدمع من العین أو مطلق السیل و «ذوارف» جمع «ذارفة» بمعنی الجاری والصافی.

تبدو للوهلة الاُولی فی هذه العبارة جملتان متناقضتان؛ فقد قال فی الاُولی: إنّ اللّه بسط الأرض علی بحر عظیم لجّی راکد لا یجری وقال فی ذیلها: تکرکره الریاح العواصف، إلّاأنّ تأمّل العبارة یوضح نفی أی تناقض، فالعبارة الاُولی تتحدّث عن استقرار طبیعة البحر، والثانیة عن تأثیر العوامل الخارجیة، أی الریاح الشدیدة علی سطوح البحار.

وقوله: «وَتَمْخُضُهُ الْغَمَامُ الذَّوَارِفُ» إمّا لأنّ هذه السحب مقترنة دائماً بالعواصف، أو أنّ سیول الأمطار تسقط علی سطوح المحیطات تؤثر علیها وتجعلها متلاطمة.

والعبارة «إِنَّ فی ذلِک لَعِبْرَةً لِّمَنْ یَخْشَی» إمّا إشارة إلی سکون البحار وحرکتها التی أشرنا إلیها، أو إشارة لما ذکره علیه السلام فی هذه الخطبة بشأن خلق الجبال وخلق الأرض والسماء، والآیة: «إِنَّ فی ذلِک لَعِبْرَةً لِّمَنْ یَخْشَی»(1) تصرّح بأنّ الخشیة ولیدة العلم والعلماء ممن یعتبرون بهذه الأمور کما قال فی موضع آخر «إِنَّمَا یَخْشَی اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(2).

***

ص:134


1- (1) . سورة النازعات، الآیة 26. جدیر ذکره أنّ هذه الآیة القرآنیة وردت فی سیاق الخلقة وخلق السماء والأرض.
2- (2) سورة فاطر، الآیة 28.

الخطبة 212

اشارة

کانَ یَسْتَنْهِضُ بِها أصْحابَه إلی جِهادِ أهْلِ الشّامِ فی زَمانِهِ (1)

نظرة إلی الخطبة

هذه الخطبة فی الواقع استغاثة باللّه ممزوجة بالدعاء لنصرة جند الإسلام ومؤاخذة العناصر العاکفة عن نصرة الحق واتمام الحجة علیهم أمام اللّه تعالی، ویشیر الکلام إلی مدی امتعاظ الإمام علیه السلام عن ضعف أهل الکوفة وعدم مبالاتهم بأمر جهاد طغام أهل الشام؛ الأمر الذی یستفاد من أغلب خطب «نهج البلاغة» ولولا الضعف والنکوص لنحا التاریخ الإسلامی منحی آخر ولکن للاسف...!

***

ص:135


1- (1) سند الخطبة: لم یذکر صاحب «مصادر نهج البلاغة» سنداً لهذه الخطبة؛ لکن یستفاد من کتاب «تمام نهج البلاغة» (وأشرنا لذلک فی المتن) أنّ هذا الکلام کان ذیل الخطبة 198 ولم یذکر هذا الکتاب سنداً آخر غیر «نهج البلاغة».

ص:136

اَللّهمَّ أَیُّمَا عَبْد مِنْ عِبَادِک سَمِعَ مَقَالَتَنَا الْعَادِلَةَ غَیْرَ الْجَائِرَةِ، وَالْمُصْلِحَةَ غَیْرَ الْمُفْسِدَةِ، فِی الدِّینِ وَالدُّنْیَا، فَأَبَی بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلَّا النُّکُوصَ عَنْ نُصْرَتِک، وَالاِْبْطَاءَ عَنْ إِعْزَازِ دِینِک، فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُک عَلَیْهِ یَا أَکْبَرَ الشَّاهِدینَ شَهَادَةً، وَنَسْتَشْهِدُ عَلَیْهِ جَمِیعَ مَا أسْکَنْتَهُ أَرْضَک وَسَماواتِک، ثُمَّ أَنْتَ بَعْدُ الْمُغْنِی عَنْ نَصْرِهِ، وَالآخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ.

الشرح والتفسیر: جزاء المتخلفین

تفید القرائن أنّ هذه العبارات العمیقة المعنی الملیئة بالأسی واللوعة کانت بعضاً من خطبة طویلة اقتطف منها المرحوم السید الرضی هذا القسم وفصله عنها، ویری البعض أنّه ذیل الخطبة 198(1).

والهدف الأصلی لأمیرالمؤمنین علیه السلام من هذه الخطبة تعبئة صحبه لجهاد أهل الشام الظلمة؛ لکن بصیغة شکوی إلی اللّه، شکوی من أولئک الذین یسمعون دعوته العادلة ویتمردون علیه فی الجهاد، الشکوی التی تبیّن مدی مظلومیة الإمام علیه السلام ومدی افتقار صحبه للشعور بالمسؤولیة. فقال: «اللّهمَّ أَیُّمَا عَبْد مِنْ عِبَادِک سَمِعَ مَقَالَتَنَا الْعَادِلَةَ غَیْرَ الْجَائِرَةِ، وَالْمُصْلِحَةَ غَیْرَ الْمُفْسِدَةِ، فِی الدِّینِ وَالدُّنْیَا، فَأَبَی بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلَّا النُّکُوصَ(2) عَنْ نُصْرَتِک، وَالاِْبْطَاءَ(3) عَنْ إِعْزَازِ دِینِک، فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُک عَلَیْهِ یَا أَکْبَرَ

ص:137


1- (1) تمام نهج البلاغة، ص 491.
2- (2) . «نکوص» مصدر یعنی الانسحاب والتراجع.
3- (3) «إبطاء» التأخیر من مادة «بطؤ» علی وزن «قفل».

الشَّاهِدینَ شَهَادَةً».

جدیر ذکره أنّ الإمام علیه السلام أکّد بهذه العبارات بشأن الدعوة إلی جهاد ظلمة أهل الشام علی أربع أو علی اعتبار علی صفتین:

1. إنّ هذا الکلام کلام علی مسار العدل.

2. لا ظلم فیه قط.

3. سبب إصلاح الناس.

4. لا یترتب علیه أی فساد وآثاره الایجابیة ظاهرة فی دنیا الناس ودینهم.

والبداهة تحکم بضرورة إتّباع هذا الکلام الملییء بالحق والعدل والصلح والمصلحة وانحراف من یخالفه عن شرع اللّه والعقل.

القضیة الأخری أنّ الإمام علیه السلام یقول: إنّ من یتمرد علی دعوته لجهاد أهل الشام الظلمة إنّما ینکص عن نصرة اللّه واشتداد دینه دون أن یجنی الإمام علیه السلام نفعاً خاصاً من ذلک، کما أراد أن یذکر الإمام علیه السلام ضمنیاً بأنّ مسیر أهل الشام مسیر الظلم والجور وأساس الفساد فی دین الناس ودنیاهم.

وواصل علیه السلام کلامه بإشهاد من فی السماء والأرض إلی جانب إشهاد اللّه فقال:

«وَنَسْتَشْهِدُ عَلَیْهِ جَمِیعَ مَا أسْکَنْتَهُ أَرْضَک وَسَماواتِک، ثُمَّ أَنْتَ بَعْدُ الْمُغْنِی عَنْ نَصْرِهِ، وَالآخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ».

فقد أتمّ الإمام علیه السلام بهذه الشکوی إلی اللّه المنبعثة من قلب حزین ملتاع، الحجة علی المتثاقلین عن الجهاد من جهة وتحذیر من جهة أخری لصحبه الأوفیاء ألّا یهنوا بسبب ضعف أولئک الأفراد ویعلموا أنّ اللّه ناصرهم واؤلئک الناکصین سیلاقون جزاء أعمالهم، ویشهد التاریخ أنّهم ابتلوا عقب شهادة الإمام علیه السلام وولّی علیهم ظلمة من ولاة بنی أمیة فلم یرعوا فیهم ذمّة ولم یألوا جهداً فی اذاقتهم العقاب.

ورد فی کتاب «صفین» لنصر بن مزاحم أنّه قام رجل من بنی فزارة فقال للإمام:

تریدنا أن نقاتل أهل الشام فنقتل إخوتنا کما قتلناهم فی البصرة یوم الجمل فلن

ص:138

نفعل ذلک، فنهض مالک الأشتر وقال: أمسکوه (فهو من أفراد العدو) فنهضوا إلیه فهرب إلی موضع لبیع الخیل فجعلوا یطأونه بأرجلهم(1).

العبارة «جَمِیعَ مَا أسْکَنْتَهُ أَرْضَک وَسَمواتِک» تبدو إشارة إلی الملائکة والإنس والجن، لإنّ العبارة «اسکنتها» تناسب ذلک وعلیه «ما» اطلقت هنا علی العاقل وإشهادهم رغم إشهاد اللّه قبل ذلک تأکید لهذا الأمر المهم، کما جعل اللّه إلی جانب ذاته القدسیة شهداء کثیرین علی أعمالنا.

***

ص:139


1- (1) صفین لنصر بن مزاحم، ص 94 و 95.

ص:140

الخطبة 213

اشارة

فی تَمْجیدِ اللّه وَتَعْظیمِه (1)

نظرة إلی الخطبة

یستفاد من تعبیر المرحوم السید الرضی أنّ ما ورد فی هذه الخطبة جانب من کلام الإمام علیه السلام اقتطفه السید الرضی فی قسمین:

القسم الأوّل: الذی جری الکلام فیه عن صفات اللّه الجلالیة والجمالیة ولا سیما احاطته العلمیة بجمیع المخلوقات.

وورد الکلام فی القسم الثانی عن صفات النّبی وإمداده الغیبی وإزالة الموانع عن مسیرته وتطورها السریع، وبالتالی فإنّ الخطبة قبسات بشأن التوحید والنبوّة.

***

ص:141


1- (1) سند الخطبة: لم یذکر سند هذه الخطبة فی المصادر المعروفة سوی «نهج البلاغة» وقد روی العلّامة المجلسی قسمها الأوّل عن «نهج البلاغة» فی الجزء الرابع من بحارالأنوار.

ص:142

اَلْحَمْدُ للّه الْعَلِیِّ عَنْ شَبَهِ الَْمخْلُوقِینَ، الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِینَ، الظَّاهِرِ بِعَجَائِبِ تَدْبِیرِهِ لِلنَّاظِرِینَ، وَالْبَاطِنِ بِجَلاَلِ عِزَّتِهِ عَنْ فِکْرِ الْمُتَوَهِّمِینَ، الْعَالِمِ بِلاَ اکْتِسَاب وَلاَ ازْدِیَاد، وَلاَ عِلْم مُسْتَفَاد، الْمُقَدِّرِ لِجَمِیعِ الأُمُورِ بِلاَ رَوِیَّةٍ وَلاَ ضَمِیرٍ، الَّذِی لاَ تَغْشَاهُ الظُّلَمُ، وَلاَ یَسْتَضِیءُ بِالأَنْوَارِ، وَلاَ یَرْهَقُهُ لَیْلٌ، وَلاَ یَجْرِی عَلَیْهِ نَهَارٌ لَیْسَ إِدْرَاکُهُ بِالاِْبْصَارِ، وَلاَ عِلْمُهُ بالْاِخْبَارِ.

ومنها فی ذکر النّبی صلی الله علیه و آله:

أَرْسَلَهُ بِالضِّیَاءِ، وَقَدَّمَهُ فِی الاِْصْطِفَاءِ، فَرَتَقَ بِهِ الْمَفَاتِقَ، وَسَاوَرَ بِهِ الْمُغَالِبَ، وَذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَةَ، وَسَهَّلَ بِهِ الْحُزُونَةَ، حَتَّی سَرَّحَ الضَّلاَلَ، عَنْ یَمِینٍ وَشِمَال.

الشرح والتفسیر: قبسات من صفات اللّه ورسوله

أشار الإمام علیه السلام فی المقطع الأوّل من هذه الخطبة الذی ورد فی صفات اللّه الجمالیة والجلالیة إلی اثنتی عشرة صفة، فقال فی الصفات الإربع الاُولی: «اَلْحَمْدُ للّه الْعَلِیِّ عَنْ شَبَهِ الَْمخْلُوقِینَ، الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِینَ، الظَّاهِرِ بِعَجَائِبِ تَدْبِیرِهِ لِلنَّاظِرِینَ، وَالْبَاطِنِ بِجَلاَلِ عِزَّتِهِ عَنْ فِکْرِ الْمُتَوَهِّمِینَ(1)».

وکما قیل آنفاً فإنّ الذات الإلهیّة لامتناهیة، ومن البدیهی أن تعجز جمیع

ص:143


1- (1) «متوهمین» من مادة «وهم» الظن والخیال کما تعنی التفکیر وهذا هو المعنی المراد والشاهد علی ذلک کلمة الفکر قبل ذلک.

مخلوقاته المتناهیة من جمیع الجوانب عن درک کنه ذاته، وعلیه إنّما ندرک تلک الذات عن طریق آثاره العجیبة السائدة فی عالم الوجود؛ ومن هنا فإن قلنا أوضح من کلّ شیء وأخفی من کلّ شیء فذلک ناظر لهذین البعدین؛ من حیث آثار علمه وقدرته ظاهراً تماماً، وخفی من حیث کنه ذاته.

ثم خاض فی الصفة الخامسة والسادسة فقال: «الْعَالِمِ بِلاَ اکْتِسَاب وَلاَ ازْدِیَاد، وَلاَ عِلْم مُسْتَفَاد، الْمُقَدِّرِ لِجَمِیعِ الاُْمُورِ بِلاَ رَوِیَّة وَلاَ ضَمِیر».

لا شک فی أنّ علم اللّه کذاته لا متناهٍ، فلا یحتاج إلی اکتساب ولا تعلم من آخر، وهذا یقتصر علی ذوی العلم المحدود والذین لهم الازدیاد من خلال ثلاثة طرق:

التجربة وأمثالها، تأثیر العلوم فی بعضها والانتقال من مسالة لأخری، وأخیراً التتلمذ والتعلم من الآخرین، أمّا مَن کان علمه لا متناهٍ فغنی عن کلّ هذه الأمور، کما هو غنی عن إحالة الفکر فی خلق الکائنات وتقدیر کلّ مخلوق من حیث الکمیة والکیفیة والقوانین التی تحکمه، فلا حاجة للرجوع إلی الوجدان بخلاف الإنسان الذی یحاول اختراع شیء ربّما یستغرق أحیاناً لسنوات ویطالع ویستعین بمعلوماته وأفکاره لینجح فی محاولته.

وقال فی الصفة السابعة والثامنة: «الَّذِی لاَتَغْشَاهُ الظُّلَمُ، وَلاَیَسْتَضِیءُ بِالْاَنْوَارِ».

ثم تطرق إلی الصفة التاسعة والعاشرة لایضاح هذا المطلب فقال: «وَلاَ یَرْهَقُهُ (1)لَیْلٌ، وَلاَ یَجْرِی عَلَیْهِ نَهَارٌ». ولعل هذه العبارات تشیر إلی أنّ ذاته القدسیّة جلیة دائماً عن طریق الآثار ولا یعتریها اللیل والنهار، أو إشارة إلی غناه عن الضیاء بخلاف الإنسان فی المشاهدة والاحاطة بالاشیاء.

وقال فی الصفة الحادیة عشرة والثانیة عشرة المکملة والموضحة لما سبق من صفات «لَیْسَ إِدْرَاکُهُ بِالْاِبْصَارِ، وَلاَ عِلْمُهُ بالْاِخْبَارِ». فهذه الأمور مرتبطة بالجسم والجسمانیات وذوی العلوم الناقصة والمحدودة، هو لیس من قبیل الأجسام ولا

ص:144


1- (1) . «یرهقه» من مادة «رهق» علی وزن «شفق» غشی الشیء أو القهر والغلبة کما وردت بمعنی تسلط الشیء.

محدود فی إحاطته العلمیّة.

وهنا یرد هذا السؤال: لم یرکز الإمام علیه السلام فی عدّة خطب علی هذه المضامین ویؤکد علیها ویصر علی غنی علم اللّه عن الأمور المذکورة، ما سرّ هذا التأکید؟

نقول فی الجواب: إنّ إحدی أعظم المشاکل فی معرفة اللّه، قضیة مقایسته بالمخلوقات، کونه یتعامل طیلة حیاته معها فیقیس بها کلّ شیء، المخلوقات المحدودة من جمیع الجوانب، العلم والقدرة والزمان والمکان والإدراک والشهود والتقلب والزوال، فإذا دار الکلام عن معرفة اللّه استعان - عالماً أو جاهلاً - بذلک القیاس فیهوی فی وادی التشبیه الخطیر.

ومن هنا فإنّ هذا المعلم الربانی یحذر کراراً من الانزلاق إلی الهاویة والمقایسة بین اللّه وأیّ من مخلوقاته التی تبعد عن معرفة اللّه وتخلق لدیه أوهاماً یتعبد بها.

والحدیث المروی عن الإمام الباقر علیه السلام: «کُلُّ ما مَیَّزْتُمُوه بأوْهامِکُمْ فی أدَقِّ مَعانیهِ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ مِثْلُکُمْ مَرْدُودٌ إلَیْکُمْ»(1). إشارة رائعة لهذا المطلب.

ولذلک کان الأئمّة علیهم السلام دائمی المراقبة لصحبهم وأتباعهم حذراً من السقوط فی مستنقع التشبیه أو التعطیل، فی حین سقط فیه العدید ممن لم یسِر علی نهجهم ویتبعهم، ومن نماذج هذا الانحراف الخطیر، الإیمان بتجسم اللّه وتشبیهه بمخلوقاته والاعتقاد بإمکانیة رؤیته ومشاهدته الحسیة فی الدنیا أو علی الأقل فی الآخرة والتی یلتزم بها الأعم الأغلب.

وأورد الإمام علیه السلام کلمات قصیرة عظیمة المعنی بشأن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله.

فی القسم الآخر من هذه الخطبة الذی ذکره السید الرضی تحت عنوان «وَمِنْها فی ذِکْرِ النَّبِی صلی الله علیه و آله» فبیّن علیه السلام سبعاً من صفات النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله التی تشیر إلی رفعة مقامه وسعة إصلاحاته فی المجتمع الإسلامی فقال: «أَرْسَلَهُ بِالضِّیَاءِ، وَقَدَّمَهُ فِی

ص:145


1- (1) بحار الأنوار، ج 66، ص 293.

الاِْصْطِفَاءِ، فَرَتَقَ(1) بِهِ الْمَفَاتِقَ(2) وَسَاوَرَ(3) بِهِ الْمُغَالِبَ، وَذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَةَ، وَسَهَّلَ بِهِ الْحُزُونَةَ(4) ، حَتَّی سَرَّحَ(5) الضَّلاَلَ عَنْ یَمِین وَشِمَال».

المراد من الضیاء أحد الاحتمالات: نور الإیمان أو العلم أو القرآن أو الوحی أو جمیعها، أی أنّ اللّه بعث النّبی صلی الله علیه و آله بنور الوحی والقرآن والإیمان لیضیء بها الکون العبارة «قَدَّمَهُ فِی الاِْصْطِفَاءِ»، ربّما إشارة إلی خاتمیة النّبی صلی الله علیه و آله (لأنّه لو لم یکن خاتماً سیرد دیناً أسمی من دینه) أو إشارة لأفضلیته علی جمیع الأنبیاء والخلق، المراد من «مفاتق» الاختلافات الواسعة التی سادت مجتمع الجزیرة وقضی علیها النّبی صلی الله علیه و آله، ووحدهم تحت لواء الإسلام.

العبارة «وَسَاوَرَ بِهِ الْمُغَالِبَ» إشارة إلی قطع أیدی الظلمة والطغاة عن المستضعفین والمحرومین والذی حصل ببرکة ظهور الإسلام والذین سلموا جمیعا لقدرة الدین الجدید.

والعبارة «وَذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَةَ» یمکن أن تکون إشارة إلی حل المشاکل المعنویة والعقائدیة والاخلاقیة أو المشاکل المادیة والاجتماعیة أو جمیع ذلک فی ظل ظهور الإسلام.

وتشیر العبارة «حَتَّی سَرَّحَ الضَّلاَلَ عَنْ یَمِین وَشِمَال» إلی نهایة جمیع المفاسد التی اشیر إلیها فی العبارات السابقة، أی زوال أنواع الضلال الیمین والشمال ومن جمیع الجوانب بالنبی صلی الله علیه و آله ورسالته.

وربّما تشیر العبارة «عَنْ یَمِین وَشِمَال» إلی الإفراط والتفریط أو إشارة لکل الطرق التی تؤدی إلی الفساد، قطعاً هذه الاصلاحات لیست مختصة بزمان ظهور

ص:146


1- (1) . «رتق» من «رتْق» علی وزن «حتم» الاتصال.
2- (2) «مفاتق» المواضع المنشقة جمع «مفتق» علی وزن «مکتب» من مادة «فتق» (ضد رتق).
3- (3) «ساور» من «المساورة» الغلبة والسیطرة من مادة «سور» علی وزن «غور».
4- (4) «حزونة» ضدّ سهولة، الخشن والغلظ فی الأرض.
5- (5) «سرّح» من «التسریح» الترک والطرد ومن هنا یقال للطلاق تسریح ومادته الأصلیة «سرح» و «سروح» الاطلاق والتحریر.

النّبی صلی الله علیه و آله فلو عملنا الیوم بالتعالیم والوصایا الإسلامیّة لتحققت وحدة الاُمّة الإسلامیّة ولقطعت أیدی الطغاة والظلمة ولهانت جمیع الازمات والمشاکل الاجتماعیة، فکلّ ذلک من آثار التعالیم الإسلامیّة.

***

ص:147

ص:148

الخطبة 214

اشارة

یَصِفُ جَوْهَرَ الرَّسُولِ، وَیَصِفُ الْعُلَماءَ، وَیَعِظُ بِالتَّقْوی (1)

نظرة إلی الخطبة

تتألف هذه الخطبة کما أشرنا من ثلاثة مقاطع: أشار علیه السلام فی المقطع الأوّل عقب شهادته للّه بالعدل إلی جانب من صفات النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله التی تشیر إلی طهارة جوهر ذات النّبی من جمیع الجهات، وتطرّق ضمنیاً إلی لطف اللّه بالمطیعین من عباده وإمداده الغیبی لهم.

وتحدث فی المقطع الثانی عن العلماء الربانیین وصفاتهم البارزة وکیفیة تعاملهم مع الآخرین.

وأورد فی الختام مواعظ کثیرة من شأن العمل بها تربیة روح الورع والتقوی لدی الإنسان بعبارات موجزة بلیغة.

***

ص:149


1- (1) سند الخطبة: روی الآمدی فی «غررالحکم» جانباً من هذه الخطبة مع اختلاف یدل علی أنّه اقتبسها من مصدر آخر غیر «نهج البلاغة».

ص:150

القسم الأوّل

اشارة

وَأَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ عَدَلَ، وَحَکَمٌ فَصَلَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَسَیِّدُ عِبَادِهِ، کُلَّمَا نَسَخَ اللّه الْخَلْقَ فِرْقَتَیْنِ جَعَلَهُ فِی خَیْرِهِمَا، لَمْ یُسْهِمْ فِیهِ عَاهِرٌ، وَلاَ ضَرَبَ فِیهِ فَاجِرٌ.

أَلاَ وَإِنَّ اللّه سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لِلْخَیْر أَهْلاً، وَلِلْحَقِّ دَعَائِمَ، وَلِلطَّاعَةِ عِصَماً.

وَإِنَّ لَکُمْ عِنْدَ کُلِّ طَاعَة عَوْناً مِنَ اللّه سُبْحَانَهُ یَقُولُ عَلَی الأَلْسِنَةِ، وَیُثَبِّتُ الأَفْئِدَةٍ، فِیهِ کِفَاءٌ لِمُکْتَفٍ، وَشِفَاءٌ لِمُشْتَفٍ.

الشرح والتفسیر: النسب الطاهر للنبی صلی الله علیه و آله

استهل الإمام علیه السلام خطبته - کسائر الخطب - بالشهادتین (وإن دلت الواو فی «وأشهد» أنّه کانت قبلها بعض المطالب) فقال: «وَأَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ عَدَلَ، وَحَکَمٌ فَصَلَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَسَیِّدُ عِبَادِهِ».

التعبیر (عَدْلٌ) الذی له معنی مصدری، للتأکید، أی أنّ ذات اللّه عین العدل، والعبارة التی أتت به بصیغة الفعل الماضی (عدل) تأکید آخر و (حکم) له معنی واسع یشمل حکم اللّه فی جمیع الجوانب التکوینیّة والتشریعیّة، وأنّه فصل وفرقان بین الحق والباطل علی الدوام.

والعجیب أنّ ابن أبی الحدید نسب الضمیر فی (أنّه) إلی القضاء والقدر ویعتقد بأنّه کان قبل هذه العبارة (وفصله السید الرضی، ووافقه عدد من الشراح، فی حین تشیر العبارة «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» إلی أنّ الشهادة السابقة شهادة

ص:151

مرتبطة باللّه، بالإضافة إلی أنّ «حکم عدل» من صفات اللّه لا صفات القضاء والقدر(1).

ویشیر وصف النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی العبارة المذکورة بالعبودیة قبل الرسالة إلی أنّ أعظم فخر للإنسان عبودیة اللّه والعبارة «سَیِّدُ عِبَادِهِ» تأکید آخر لهذا المعنی، نعم کلّ ما هنالک فی عبودیة اللّه، ثم قال فی ذکر صفات النّبی صلی الله علیه و آله: «کُلَّمَا نَسَخَ(2) اللّه الْخَلْقَ فِرْقَتَیْنِ جَعَلَهُ فِی خَیْرِهِمَا».

إشارة إلی أنّ نوره صلی الله علیه و آله فی صلب آدم کان ینتقل من صلب لآخر ولما کان یظهر عدّة أبناء من نسله کان نوره المبارک فی الفرع الأفضل من ذلک النسل وما زال کذلک حتی انتقل من صلب عبد اللّه لرحم آمنة بنت وهب.

ثم أضاف: «لَمْ یُسْهِمْ فِیهِ عَاهِرٌ(3) ، وَلاَ ضَرَبَ فِیهِ فَاجِرٌ». وهونفس المضمون الذی ورد فی زیارة وارث فی الإمام الحسین علیه السلام: «أشْهَدُ أنَّک کُنْتَ نُوراً فی الأَصْلابِ الشّامِخَةِ وَالأَرْحامِ الْمُطَهَّرَةِ، لَمْ تُنَجِّسْک الْجاهِلیَّةُ بِأنْجاسِها وَلَمْ تُلْبِسْک مِنَ مُدْلَهِمّاتِ ثِیابِهَا»(4).

وهو ذات المعنی الذی ورد فی النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «لَمْ یَزَلْ یَنْقُلُنی اللّه مِنْ أصْلابِ الطّاهِرینَ إلَی الْمُطَهَّراتِ حَتّی أخْرَجَنی فی عالَمِکُمْ هذا لَمْ یُدَنِّسْنی بِدَنَسِ الْجاهِلیَّةِ»(5).

والعبارة الواردة فی هذه الخطبة والزیارة والروایة بالإضافة إلی بیان فضل النّبی

ص:152


1- (1) هنالک عبارات فی کتاب «تمام نهج البلاغة» الذی أورد عبارات مکمّلة لهذه الخطبة تشیر بوضوح إلی أنّ الضمیر فی «إنّه» یرجع إلی اللّه تعالی لا إلی القضاء والقدر (تمام نهج البلاغة، الخطبة 22، ص 299).
2- (2) . «نسخ» من «النسخ» علی وزن «مسخ» تعنی فی الأصل انتقال الشیء ومن هنا یقال حین ینتقل الظل إثرحرکة الشمس: «نسخت الشمس الظلّ» کما یقال لکتابة شیء علی کتابة أخری استنساخ، لأنّها تنقل المطلب. ومنه النسخ فی الأحکام لأنّ حکماً یحل محل آخر والنسخ فی العبارة إشارة إلی انتقال النطفة من الأب إلی الأب الآخر والذی تنتقل عن طریقه الصفات من الآباء إلی الأبناء.
3- (3) . «عاهر» الشخص الفاسق والفاجر.
4- (4) مصباح المتهجّد، ص 717.
5- (5) بحار الأنوار، ج 15، ص 117؛ مجمع البیان، ج 3-4، ص 497.

الأکرم صلی الله علیه و آله تعلمنا جمیعاً هذا الدرس وهو أنّ فترة تربیة الإنسان بغیة بلوغ المقامات الرفیعة تبدأ من أصلاب الآباء وآرحام الاُمهات وأنّ العامل الوراثی أحد عوامل تبلور شخصیّة الإنسان، وإن لم یکن العامل الفرید، وهنالک الکثیر الذی یقال بهذا الخصوص سنتعرض له فی الأبحاث القادمة علی ضوء مناسبة الکلام إن شاء اللّه.

ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی السائرین علی نهج رسول اللّه صلی الله علیه و آله الذی بین صفاته فی العبارات السابقة لیشیر إلی ضرورة تربیة بعض الطوائف فی کلّ عصر فی ظل تعالیم النّبی صلی الله علیه و آله ولیواصلوا مسیرته، فقال: «أَلاَ وَإِنَّ اللّه سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لِلْخَیْر أَهْلاً، وَلِلْحَقِّ دَعَائِمَ، وَلِلطَّاعَةِ عِصَماً».

إشارة إلی أنّ هذا الطریق لا یخلو فی أی عصر ومصر من سالکیه ولا تتوقف خطط الخیر والحق والطاعة؛ فهؤلاء من ذوی الإرادات الصلبة والنیات الطاهرة ولذلک شملتهم الطاف اللّه، العبارة «وَلِلْحَقِّ دَعَائِمَ، وَلِلطَّاعَةِ عِصَماً» ربّما تشیر إلی الأئمّة المعصومین علیهم السلام أوصیاء النّبی صلی الله علیه و آله حماة الحق واُمناء طاعة أوامر اللّه، کما ورد فی الزیارة الجامعة: «وَالْحَقُّ مَعَکُمْ وَفیکُمْ وَمِنْکُمْ وإِلَیْکُمْ وَأَنْتُمْ أهْلُهُ وَمَعْدِنُهُ».

وما ورد فی الحدیث الذی روته مصادر الفریقین: «عَلیّ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَ عَلیٍّ یَدُورُ مَعَهُ حَیْثُما دارَ»(1).

وربّما تشیر إلی القرآن وسنّة المعصومین علیهم السلام أو العلماء ولا یبعد جمع هذه التفاسیر الثلاثة فی مفهوم العبارة، ثم بشر أولئک السائرین بأنّهم لیسوا وحیدین إزاء زخم مشاکل الطاعة وأنّ نصرة اللّه منجزة لهم دائماً، فقال: «وَإِنَّ لَکُمْ عِنْدَ کُلِّ طَاعَةٍ عَوْناً مِنَ اللّه سُبْحَانَهُ یَقُولُ(2) عَلَی الأَلْسِنَةِ، وَیُثَبِّتُ الأَفْئِدَةَ. فِیهِ کِفَاءٌ لِمُکْتَفٍ، وَشِفَاءٌ لِمُشْتَفٍ».

نعم، فاللّه لا یترک عباده المؤمنین فینطق ألسنتهم ویرسخ إرادتهم ویقوی

ص:153


1- (1) بحار الأنوار، ج 33، ص 376؛ شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 2، ص 297.
2- (2) . الضمیر «یقول» یعود إلی «اللّه» الذی ذکر سابقاً والمعنی أنّ اللّه یجعل لسانهم ناطقاً ویجری علیه الخیر.

عزائمهم؛ وقد ورد هذا الأمر کراراً فی القرآن: «إِنَّنِی مَعَکُمَا أَسْمَعُ وَأَرَی»(1).

وقال فی موضع آخر: «یُثَبِّتُ اللّه الَّذِینَ امَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا»(2).

وهذا ما نلتمسه کلّ یوم فی الصلوات الیومیة ونسأل اللّه: «إِیَّاک نَعْبُدُ وَإِیَّاک نَسْتَعِینُ»(3).

***

ص:154


1- (1) سورة طه، الآیة 46.
2- (2) سورة إبراهیم، الآیة 27.
3- (3) سورة الفاتحة، الآیة 5.

القسم الثانی

اشارة

وَاعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَ اللّه الْمُسْتَحْفَظِینَ عِلْمَهُ، یَصُونُونَ مَصُونَهُ، وَیُفَجِّرُونَ عُیُونَهُ. یَتَوَاصَلُونَ بِالْوِلاَیَةِ، وَیَتَلاَقَوْنَ بَالْمَحَبَّةِ، وَیَتَسَاقَوْنَ بِکَأْسٍ رَوِیَّةٍ وَیَصْدُرُونَ بِرِیَّةٍ، لاَ تَشُوبُهُمُ الرِّیْبَةُ، وَلاَ تُسْرِعُ فِیهِمُ الْغِیبَةُ. عَلَی ذلِک عَقَدَ خَلْقَهُمْ وَأَخْلاَقَهُمْ، فَعَلَیْهِ یَتَحَابُّونَ، وَبِهِ یَتَوَاصَلُونَ، فَکَانُوا کَتَفَاضُلِ الْبَذْرِ یُنْتَقَی، فَیُؤْخَذُ مِنْهُ وَیُلْقَی، قَدْ مَیَّزَهُ التَّخْلِیصُ، وَهَذَّبَهُ الَّتمْحِیصُ.

الشرح والتفسیر: حفظة علم اللّه

تطرق الإمام علیه السلام بعد أن فرغ من ذکر جانب من أبرز صفات النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله إلی السائرین علی نهجه أی العلماء والعرفاء وخلّص المؤمنین فبیّن عشراً من صفاتهم، والحق أنّ مَن تحلی بهذه الصفات فهو من أولیاء اللّه وخاصة أتباع النّبی صلی الله علیه و آله فقال:

«وَاعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَ اللّه الْمُسْتَحْفَظِینَ(1) عِلْمَهُ، یَصُونُونَ مَصُونَهُ، وَیُفَجِّرُونَ عُیُونَهُ».

تشیر هذه الصفات الثلاث إلی أنّ هذه الطائفة من عباد اللّه تمکنوا بتوفیق اللّه وإلهاماتهم الباطنیة من تحصیل العلوم وحرسوا هذه العلوم وبلّغوها طالبیها، فهم الحفظة والحارسون والناشرون لتلک العلوم وعلی غرار ری عیون الماء المتدفقة للأراضی العطشی وإنماء مختلف الأشجار والأزهار والنباتات فهم ینشرون الدین فی قلوب عطشی للمعارف ویغرسون فی نفوسهم الفضائل الإنسانیة.

ولعل العبارة «یَصُونُونَ مَصُونَهُ» تعنی ما ذکر آنفاً؛ أی أنّهم یتحفظون علی

ص:155


1- (1) «مستحفظین» من مادة «حفظ» من یحفظ مایودع إلیه.

العلوم الربانیة عمّن لا یستحقها، أو بمعنی أنّهم صانوا هذه العلوم بأمانة وجهدوا فی إیصالها من جیل لآخر من خلال تألیف الکتب ونشرها.

وواصل کلامه بالإشارة إلی أربع صفات أخری فقال: «یَتَوَاصَلُونَ بِالْوِلاَیَةِ، وَیَتَلاَقَوْنَ بَالْمَحَبَّةِ، وَیَتَسَاقَوْنَ بِکَأْسٍ رَوِیَّةٍ(1) وَیَصْدُرُونَ بِرِیَّةٍ(2)».

فقد أشار الإمام علیه السلام فی المقطع السابق إلی الأبعاد العلمیة لأولئک العلماء الربانیین وتطرق هنا إلی جوانبهم العلمیة؛ وربّما کان المراد من ««یَتَوَاصَلُونَ بِالْوِلاَیَةِ» ولایة اللّه وأولیائه التی ربطت هذه الفئات مع بعضها؛ أو الولایة بمعنی الحب والمودة التی الفت قلوبهم.

وتشیر العبارة «وَیَتَلاَقَوْنَ بَالْمَحَبَّةِ» إلی أنّ هذه المحبّة القلبیة تتجلی حین لقائهم بالفعل والقول.

وتشیر العبارة الثالثة إلی أنّ جلساتهم مرکز تبادل العلوم والمعارف؛ فکلّ منهم یملأ إناء الآخر بعلمه کما ورد فی العبارة الرابعة «وَیَصْدُرُونَ بِرِیَّةٍ» ثم قال فی بیان صفتین اخریین «لاَ تَشُوبُهُمُ الرِّیْبَةُ، وَلاَ تُسْرِعُ فِیهِمُ الْغِیبَةُ». ولعل العبارة (ریبة) تشیر إلی أنّ مبانیهم العقائدیة وإیمانهم علی درجة من الرسوخ بحیث لا یشوبه أدنی شک وارتیاب أو أنّ حیاتهم نقیة وطاهرة بحیث لا یشک أحد فی حسن سریرتهم ودقّة أعمالهم کما یمکن أن تشیر العبارة «وَلاَ تُسْرِعُ فِیهِمُ الْغِیبَةُ» أنّهم لا یتلوثون بالغیبة أو أنّهم علی درجة من الطهر بحیث لا یسمح الآخرون لانفسهم باغتیابهم.

طبعاً لا تتنافی هذه التفاسیر المتعددة ویمکن جمعها معاً فی مفهوم العبارة السابقة.

ثم قال علی سبیل التأکید: «عَلَی ذلِک عَقَدَ خَلْقَهُمْ وَأَخْلاَقَهُمْ».

ص:156


1- (1) «رویّة» صفة مشبّهة من «ریّ» علی وزن «حیّ» زوال العطش.
2- (2) «بریّة» ترکیب من الباء الجارّة و «ریّة» اسم المصدر من «ریّ» علی وزن «حیّ» الری من العطش.

لا ینافی هذا التعبیر الاختیار فی الأعمال لأنّ الإنسان إن انطلق مختاراً إلی اللّه أتته الإمدادات الغیبیة والعنایات الإلهیّة، وبغض النظر عن ذلک فإنّ اللّه أودع البشریّة منذ البدایة أرضیة الصلاح والسعادة لتطوی بها مسیرة التکامل.

ثم أشار علیه السلام إلی صفتین من صفات أولئک العلماء الربانیین فقال: «فَعَلَیْهِ یَتَحَابُّونَ، وَبِهِ یَتَوَاصَلُونَ».

نعم! حبّهم لأحدهم الآخر للّه وإرتباطهم ناشیء من علاقتهم المشترکة بالکمالات، أمّا المنافع المادیة والصلات الحیوانیة والاشتراک فی المقامات الدنیویة لیست سبباً قط فی إرتباطهم وحبّهم لبعضهم البعض.

ثم بیّن فی ختام هذه الفقرة بتشبیه رائع کیفیة انتخاب هذه الفئة من بین سائر الناس وقال: «فَکَانُوا کَتَفَاضُلِ الْبَذْرِ یُنْتَقَی(1) ، فَیُؤْخَذُ مِنْهُ وَیُلْقَی، قَدْ مَیَّزَهُ التَّخْلِیصُ، وَهَذَّبَهُ التَّمْحِیصُ(2)».

أجل! هؤلاء بذور عالم الخلیقة المنتقی الذین اختارهم خالق عالم الوجود للتهذیب والکمال لیجعلهم بهیئة شجرة طیبة أُکلها دائم بتوفیق اللّه ومدده الغیبی.

وزبدة الکلام أنّ هؤلاء الأعلام الذین یتصفون بهذه الصفات ویطوون مراحل التکامل فی ظل عنایة اللّه ویزدادون کلّ یوم قرباً من اللّه لم یبلغوا هذا المقام عبثاً، فقد جدوا واجتهدوا فی إصلاح أنفسهم وجلاء قلوبهم من صدأ الأهواء وأخلصوا نیّاتهم واجتازوا الامتحان الإلهی الشاق فبلغوا ذلک المقام، وتلک عاقبة کلّ من سلک طریقهم.

***

ص:157


1- (1) . «ینتقی» من «النقاوة» بمعنی الطاهر والخالص، وتعنی الاصطفاء والاختیار حین تأتی فی باب افتعال.
2- (2) «التمحیص» التطهیر والإخلاص وورد بهذا المعنی أیضاً من مادة «محص» علی وزن «فحص»، وإن تضمن التمحیص تأکیداً أکثر ولما کان الامتحان سبب التنقیة والتطهیر فقد وردت هذه المفردة بمعنی الامتحان.

ص:158

القسم الثالث

اشارة

فَلْیَقْبَلِ امْرُءٌ کَرَامَةً بِقَبُولِهَا، وَلْیَحْذَرْ قَارِعَةً قَبْلَ حُلُولِهَا، وَلْیَنْظُرِ امْرُؤٌ فِی قَصِیرِ أَیَّامِهِ، وَقَلِیلِ مُقَامِهِ فِی مَنْزِل، حَتَّی یَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلاً، فَلْیَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ، وَمَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ. فَطُوبَی لِذِی قَلْبٍ سَلِیمٍ، أَطَاعَ مَنْ یَهْدِیهِ، وَتَجَنَّبَ مَنْ یُرْدِیهِ، وَأَصَابَ سَبِیلَ السَّلاَمَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ، وَطَاعَةِ هَادٍ أَمَرَهُ، وَبَادَرَ الْهُدَی قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ، وَتُقْطَعَ أَسْبَابُهُ، وَاسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ، وَأَمَاطَ الحَوْبَةَ، فَقَدْ أُقِیمَ عَلَی الطَّرِیقِ، وَهُدِیَ نَهْجَ السَّبِیلِ.

الشرح والتفسیر: المهتدون

خاطب الإمام علیه السلام هنا الجمیع داعیاً إیّاهم إلی سلوک سبیل العلماء الربانیین الذین بیّن صفاتهم فی القسم السابق، والواقع أنّه استعرض هنا مراحل السیر والسلوک إلی اللّه فقال: «فَلْیَقْبَلِ امْرُءٌ کَرَامَةً(1) بِقَبُولِهَا، وَلْیَحْذَرْ قَارِعَةً(2) قَبْلَ حُلُولِهَا، وَلْیَنْظُرِ امْرُؤٌ فِی قَصِیرِ أَیَّامِهِ، وَقَلِیلِ مُقَامِهِ فِی مَنْزِل، حَتَّی یَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلاً، فَلْیَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ، وَمَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ».

فالإمام علیه السلام لفت فی الخطوة الاُولی إنتباه الجمیع إلی قصر عمر الدنیا وفناء الحیاة

ص:159


1- (1) . «الکرامة» تعنی فی الأصل الشرف، الشخصیة، المثل، الاحترام والنعمة وما معناها فی العبارة فیری البعض أنّها مفعول به فقال: مفهوم الجملة أنّه ینبغی علی کلّ إنسان أن یقبل الکرامة الإلهیّة والنعمة بقبول هذه الصفات البارزة، وعلیه فالکرامة بمعنی کرامة اللّه وإشارة إلی نعمه، الاحتمال الآخر «کرامة» من قبیل المفعول له ومفهوم الجملة کلّ إنسان یقبل هذا الکلام للکرامة والمحبّة.
2- (2) «قارعة» من مادة «قرع» بمعنی الضرب وقارعة تطلق علی الحوادث المهمّة والصعبة؛ کالموت والزلزال. فأحد أسماء القیامة «القارعه» لأنّها تقترن بحوادث صعبة.

وحلول الموت حتی لایکونوا کأصحاب الدنیا الذین نسوا الآخرة ورأوا الدنیا خالدة.

وهذه هی حالة الیقظة التی تمثل المرحلة الاُولی فی السیرو السلوک إلی اللّه، وهل من عامل للیقطة أنجع من ذکر الموت وحلول الأجل؟

وواصل کلامه بالإشارة إلی طهارة واصطفاء دلیل الطریق فقال: «فَطُوبَی لِذِی قَلْبٍ سَلِیمٍ، أَطَاعَ مَنْ یَهْدِیهِ، وَتَجَنَّبَ مَنْ یُرْدِیهِ(1)».

وبالنتیجة فإنّه یظفر بطریق السلامة بمعونة من یبصره وبطاعته للمرشد الهادی الذی یأتمر به فیبلغ الطریق قبل أن تغلق بوجهه أبوابه وتتقطع سبله «وَأَصَابَ سَبِیلَ السَّلاَمَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ، وَطَاعَةِ هَادٍ أَمَرَهُ، وَبَادَرَ الْهُدَی قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ، وَتُقْطَعَ أَسْبَابُهُ».

وهکذا یوصی الإمام علیه السلام أتباعه أن یسلکوا الطریق فلا یسیروا علیه دون دلیل وهاد فیبلغوا الهدف فی ظل هدایة العلماء الربانیین والسائرین السابقین مادامت الفرصة سانحة وأبواب الهدی مشرعة.

واختتم الإمام علیه السلام کلامه بالدعوة إلی التوبة وجلاء صدأ الذنب عن القلب والذی یعد الشرط الأصلی لسلوک هذا الطریق فقال: «وَاسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ، وَأَمَاطَ الحَوْبَةَ(2) ، فَقَدْ أُقِیمَ عَلَی الطَّرِیقِ، وَهُدِیَ نَهْجَ السَّبِیلِ».

فیفتح بهذ الطریق مسار القرب إلی اللّه بوجه الإنسان ویشمل بخاصة لطف اللّه.

تأمّل: الحاجة إلی المرشد فی السیر والسلوک

تضمنت هذه الخطبة بعض الإشارات إلی نقطة وهی: هنیئاً لمن اقتفی آثار الهادی وواصل طریقه ببصیرة من یبصّره بالطریق وأطاع من یهدیه إلی الطریق القویم.

ص:160


1- (1) «یردی» من مادة «رَدْی» علی وزن «رعد» بمعنی الهلکة، أو السقوط المقرون بالهلکة و «یردی» (من باب أفعال) یعنی یهلک.
2- (2) . «حوبه» تعنی فی الأصل الحاجة التی تسوق الإنسان إلی المعصیة، ثم اطلقت علی مطلق المعاصی أو الکبائر.

وتثیر هذه الخطبة وماورد فی أمثالها من «نهج البلاغة» هذا السؤال: هل طی المقامات المعنویة التی یعبر عنها بالسیر والسلوک إلی اللّه تتطلب استاذاً خاصاً طوی هذا الطریق وخبر مطباته وآفاته فیأخذ بأیدی السائرین الجدد ویوصلهم إلی الهدف؟

بعبارة أخری: هل تکفی التعلیمات الکلیة التی وردت فی الکتاب والسنّة لسلوک هذا الطریق أم أنّ کلّ سالک لهذا الطریق بحاجة إلی استاذ بما یناسب استعداده وروحیّته لیعینه فی تشخیص الجزئیّات؟ وکما لا تکفی نصائح الاطباء لجمیع المرضی، بل یحتاج کلّ مریض إلی فحص وتشخیص للمرض لیصف له العلاج، فهل بلوغ المقامات المعنویة کذلک؟

طبعاً سیاق الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیّة أنّ لجمیع المؤمنین من خلال الإتیان بما ورد فی الکتاب والسنّة والالتزام بالأحکام الشرعیّة والإلتفات إلی لطائف هذین المصدرین العظیمین، الوصول إلی ذروة الإیمان والمسارعة إلی القرب الإلهی.

فإننا لا نجد فی سیرة صحابة النّبی الإکرم صلی الله علیه و آله وأصحاب الأئمّة المعصومین علیهم السلام من انتخاب أستاذ خصوصی، حتّی الروایات التی وردت کإجابة لسؤال بعض الأفراد مفیدة لعامة المؤمنین.

یستدل أنصار انتخاب الأستاذ الخاص أحیاناً بهذه الأمور:

1. تشیر قصّة الخضر وموسی علیهما السلام إلی أنّ اللّه اصطفی مرشداً لموسی وکان مکلفاً بطاعة أوامره.

2. ربّما من هذا القبیل قصة موسی وشعیب علیهما السلام.

3. یلمس مثل ذلک فی قضیة لقمان وابنه.

4. آیة السؤال فی القرآن المجید: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(1) تأمر الجهال بطرح مشاکلهم العلمیّة والفکریّة علی العلماء.

5. مضی فی الخطبة 105 من «نهج البلاغة» أنّ الإمام علیه السلام قال: «أیُّهَا النّاسُ

ص:161


1- (1) . سورة الأنبیاء، الآیة 7.

اسْتَصْبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصْباحِ واعِظٍ مُتَّعظ».

6. قال الإمام السجّاد علیه السلام: «هَلَک مَنْ لَیْسَ لَهُ حَکیمٌ یُرْشِدُهُ وَذَلَّ مَنْ لَیْسَ لَهُ سَفیهٌ یَعْضُدُهُ»(1).

7. یمکن أن تکون العبارات الواردة فی هذه الخطبة شاهد آخر علی هذا المطلب؛ لکن أغلب ما ذکر کدلیل علی هذا المطلب لا یخلو من مناقشة، فالذی یفهم ممّا ورد فی آیات القرآن بشأن موسی والخضر لا علاقة له بهذا المطلب.

فقد أمر موسی علیه السلام بأن یتعلم من الخضر بعض العلوم بخصوص العالم البشری أو عدم الاعتراض علی بعض الحوادث التی یستهجن ظاهرها ومن هنا لما رأی موسی علیه السلام بعض الأمور انفصل عن الخضر وواصل طریقه ولا صلة لهذا الأمر بطی المقامات المعنویة والسیر والسلوک إلی اللّه علی هدی المرشد.

کما لا یلمس أدنی شیء ممّا ذکر فی القصة، طبعاً لا یمکن إنکار أنّ الإنسان یسعه التعلم ممن لازم النّبی وتعلم منه العدید من المطالب والتجارب.

کما یشاهد فی قضیة لقمان وولده سلسلة من المواعظ الکلیة ذات الطابع العام وقد أوردها القرآن بهذه الصفة.

آیة السؤال أیضاً بخصوص مسألة التقلید والرجوع إلی العلماء والمجتهدین، کما استدل بذلک فی کتب الأصول، بعبارة أخری إشارة لبیان الأحکام بصورة کلّیة، لا الأحکام الخاصّة والشخصیّة.

وقد اقتصرت الإشارة إلی هذا المطلب فی روایة «البحار» وبعض خطب «نهج البلاغة».

وزبدة الکلام إن أردنا التسلیم بانتخاب الاستاذ المرشد کشرط ضروری فی طی المقامات المعنویة، فإنّ ذلک لا ینسجم مع ظواهر الکتاب والسنّة وسیرة أصحاب النّبی صلی الله علیه و آله وأئمّة الهدی علیهم السلام؛ ولکن إن أردنا التسلیم به کمساعد لطی هذا الطریق،

ص:162


1- (1) بحار الأنوار، ج 75، ص 159.

فالأمر یبدو حسناً؛ إلّاأنّه لا ینبغی الغفلة عن قضیة أساسیّة وهی أنّ هذا الموضوع استغل طیلة التاریخ وحتی فی هذا الزمان من قبل الطالحین والمنحرفین، وفی بعض الموارد خلط بأفکار المتصوفة وتعالیمهم الشاذة لکی لا تبعد السالک عن مقام القرب فحسب، بل أبعدته عن اللّه تماماً.

فإن رأی الإنسان حقاً أنّه بحاجة لمثل هذا الاستاذ، علیه أن یتشدد فی اختیاره خشیة أن یسلم نفسه للشیطان ظاناً أنّه الخضر والمرشد إلی اللّه، وإننا ننصح الجمیع لاسیما الشبّان الأنقیاء الذین یفتشون عن الاستاذ أن یعکفوا بالدرجة الاُولی علی الکتب الحسنة التی ألفها العلماء الأتقیاء الورعون المعروفون ومن ثم اصطفاء الاستاذ الذی ینشدون.

والجدیر بالذکر أیضاً ما یراه البعض أنّ الاستاذ ضرورة فی بدایة الطریق فإذا ما سار علی الدرب فلا حاجة لذلک الاستاذ ولابدّ من الانفتاح علی التعالیم الإسلامیّة الواردة فی الکتاب والسنّة.

یستفاد من الروایات والتواریخ الإسلامیّة أنّه کان للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمّة المعصومین علیهم السلام أصحاب خاصین حملة أسرارهم کعلی علیه السلام بالنسبة للنبی صلی الله علیه و آله و «کمیل» و «الأصبغ بن نباتة» و «میثم» و «رُشَیدِ الهَجَری» وأمثالهم وکذلک سائر الأئمة؛ ولکن لا علاقة لهذا الموضوع بمسألة الاستاذ والتلمیذ فی أمر السیر والسلوک بحیث یعین الاستاذ کل یوم درساً جدیداً لطی الطریق ویکون لکل تلمیذ دروسه الخاصّة، بل کما قیل إنّ أولئک کانوا حملة أسرار المعصومین علیهم السلام وعلومهم التی یعجز عن إدراکها الآخرون.

علی کلّ حال لا شک فی أنّ وجود الأستاذ الخبیر والعالم بالطریق یستفید منه الإنسان فی طی الطریق المعنوی، الأستاذ الثقة من جمیع الجوانب لمن الأمور الحسنة، إلّاأنّ الأمر لیس کما یذهب إلیه من عدم إمکانیة بلوغ هذه المقامات بالکتاب والسنّة وما فیهما من تعالیم، والمهم أن یکون للإنسان عزم وإرادة علی طی

ص:163

هذا الطریق وإلّا فالطریق واضح وسالک إن توکل الإنسان علی اللّه فهو هادیه ومرشده.

ونؤکد فی الختام ثانیة أنّ هنالک العدید من الطالحین الذین أضلوا الکثیر من الشبّان بهذه العناوین الزائفة علی أنّه المرشد والدلیل فلابد من الاحتیاط والحذر الشدید فی التعامل مع هؤلاء الشیاطین الذین یتلبسون بلباس الإنس.

***

ص:164

الخطبة 215

اشارة

کانَ یَدْعُو بِهِ کَثیر (1)

نظرة إلی الخطبة

هذه الخطبة فی الواقع مرکبة من سلسلة من الأدعیة العمیقة المعنی والقیمة للغایة کان الإمام علیه السلام یدعو بها فی أغلب الأوقات وتتکون من قسمین:

القسم الأوّل: الحمد والثناء علی اللّه الذی غذانا بهذه النعم المعنویة والمادیة ولم یحجبها عنّا.

وسأل الإمام علیه السلام اللّه ثلاثاً من خلال ثلاثة أقسام قصیرة وعمیقة تشرع کلّ منها ب «اللهم»، وغالباً ما تنطوی هذه الأدعیة علی جانب معنوی، وإن لم تخل من بعض العبارات المادیة، ومن المناسب التضرع بها عقب الصلاة أو القنوت وفی سائر الأوقات التی یقبل فیها الإنسان علی الدعاء لینال برکاته وفضله.

***

ص:165


1- (1) سند الخطبة: ورد فی «مصادر نهج البلاغة» أنّ «السیّد ابن باقی» معاصر «المحقق الحلّی» ذکرها فی کتاب «الاختیار» کما فی «نهج البلاغة» سوی العبارة الأخیرة التی رواها بصیغة أخری وأضاف لها سائر العبارات التی تشیر إلی أنّه استقاها من مصدر آخر غیر «نهج البلاغة». وسترد إشارات أخری بمصادر هذا الدعاء فی ذیل الخطبة 225.

ص:166

القسم الأوّل

اشارة

الْحَمْدُ للّه الَّذِی لَمْ یُصْبِحْ بِی مَیِّتاً وَلاَ سَقِیماً، وَلاَ مَضْرُوباً عَلَی عُرُوقِی بِسُوءٍ، وَلاَ مَأْخُوذاً بِأَسْوَأ عَمَلِی، وَلاَ مَقْطُوعاً دَابِرِی، وَلاَ مُرْتَدًّا عَنْ دِینِی، وَلاَ مُنْکِراً لِرَبِّی، وَلاَ مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِیمَانِی، وَلاَ مُلْتَبِساً عَقْلِی، وَلاَ مُعَذَّباً بِعَذَابِ الاُْمَمِ مِنْ قَبْلِی. أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوکاً ظَالِماً لِنَفْسِی، لَک الْحُجَّةُ عَلَیَّ وَلاَ حُجَّةَ لی. وَلاَ أَسْتَطِیعُ أَنْ آخُذَ إِلَّا مَا أَعْطَیْتَنِی، وَلاَ أَتَّقِی إِلَّا مَا وَقَیْتَنِی.

الشرح والتفسیر: اللّهم کلّ شیء لک

هذا القسم من کلام الإمام علیه السلام لیس خطبة، بل دعاء عمیق المعنی جمع فیه جمیع خیر الدنیا والآخرة.

فقد حمد اللّه واثنی علیه علی إنقاذه له من عشرة أشیاء من شأن کلّ منها سلب رزق الدنیا والآخرة، فقال فی أربعة أقسام منها: «الْحَمْدُ للّه الَّذِی لَمْ یُصْبِحْ بِی مَیِّتاً وَلاَ سَقِیماً، وَلاَ مَضْرُوباً عَلَی عُرُوقِی(1) بِسُوء، وَلاَ مَأْخُوذاً بِأَسْوَأ عَمَلِی، وَلاَ مَقْطُوعاً دَابِرِی(2)».

العبارة «لَمْ یُصْبِحْ» إشارة إلی أنّ الإنسان یمکنه النجاح فی حیاته حین یکون سلیماً نشیطاً منذ تباشیر الصباح ولابدّ من شکر اللّه علی هذه النعمة.

العبارة «وَلاَ مَضْرُوباً عَلَی عُرُوقِی بِسُوءٍ» فسرّها طائفة من شرّاح «نهج البلاغة»

ص:167


1- (1) . «عروق» جمع «عرق» علی وزن «حرص» مجاری الدم فی البدن واطلقت علی أصل کلّ شیء وجذره.
2- (2) «دابر» تعنی فی الأصل الظهر أو الشخص التابع ومن هنا یطلق علی الأولاد والأجیال التی تعقب الإنسان «دابر».

بأنها إشارة إلی الأمراض التی تشوّه شکل الإنسان کالبرص والجذام، وذلک کنایة عن هذا المعنی فی عرف العرب، بینما فسّر البعض العروق بمعنی الأعضاء وأنّ العبارة إشارة إلی سلامة أعضاء الإنسان التی تعد من أعظم النعم.

وفسّر البعض الآخر العروق بمعناها الأصلی؛ یعنی إشارة إلی أنّ خلوّ العروق من الآفات، من النعم العظمی التی تستحق الحمد والثناء، ونعلم الیوم أنّ أحد الأمراض الشائعة والخطیرة انغلاق عروق القلب والدماغ الذی یعدّ العامل المهم للسکتة القلبیّة والدماغیّة.

النعمة الأخری الکبری هی بقاء نسل الإنسان ووجود الأولاد الصالحین الذین تعود أعمالهم الصالحة علی آبائهم واُمهاتهم والتی أشیر إلیها بالعبارة «وَلا مَقْطُوعاً دابِرِی».

ثم أشار إلی ست نعم أخری تستحق الحمد والشکر: «وَلاَ مُرْتَدًّا عَنْ دِینِی، وَلاَ مُنْکِراً لِرَبِّی، وَلاَ مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِیمَانِی، وَلاَ مُلْتَبِساً(1) عَقْلِی، وَلاَ مُعَذَّباً بِعَذَابِ الاُْمَمِ مِنْ قَبْلِی».

ما أکثر أن یشمل الإنسان بدایة أمره بالنعم الربّانیة العظیمة لکنّه قد یفقدها فی أثناء مواصلته الطریق: وهناک عدد من العبارات المذکورة إشارة إلی تداوم النعم؛ نعمة الدین والإیمان والعقل، وعلیه فالشمول بالنعمة یستحق الحمد والثناء وبقاؤها ودوامها کذلک، فالنعم آیلة للزوال لولا لطف اللّه.

العبارة «وَلاَ مُنْکِراً لِرَبِّی» بعد العبارة «وَلاَ مُرْتَدًّا عَنْ دِینِی» من قبیل ذکر الخاص بعد العام.

العبارة «وَلاَ مُعَذَّباً بِعَذَابِ...» إشارة إلی العذاب الألیم والشاقّ الذی أصاب بعض الناس کالصاعقة، العواصف الشدیدة والزلازل العظیمة والآفات العصیبة فی بدن الإنسان وروحه.

ص:168


1- (1) . «ملتبس» من مادة «لبس» علی وزن «حبس» بمعنی الخطأ و «ملتبساً عقلی» بمعنی إرتباک الفکر والعقل.

العبارة «وَلاَ مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِیمَانِی» إشارة إلی أنّ الإنسان یمتلک الإیمان أحیاناً لکنّه یخشی أن یلوّث بالمعاصی أو یخشی من زواله.

تضرع الإمام علیه السلام: أحمدک وأشکرک علی إفاضة الإیمان المقرون بالسکینة.

ولما کان أحد أهم مقامات العارفین والمقرّبین، التسلیم لأمر اللّه والاعتراف بالنقص تضرع الإمام علیه السلام مواصلاً دعاءه: «أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوکاً ظَالِماً لِنَفْسِی، لَک الْحُجَّةُ عَلَیَّ وَلاَ حُجَّةَ لی. وَلاَ أَسْتَطِیعُ أَنْ آخُذَ إِلَّا مَا أَعْطَیْتَنِی، وَلاَ أَتَّقِیَ إِلَّا مَا وَقَیْتَنِی».

أعظم فخر للإنسان أنّه عبد للّه کما ورد علی لسان الإمام: «إلهی کَفی بی عِزّاً أنْ أَکُونَ لَک عَبْداً»(1).

والتعبیر «ظَالِماً لِنَفْسِی» إشارة إلی أنّ الإنسان لا یسعه قط أداء حق العبودیة حیث تضرع النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «إلهی ما عَبَدْناک حَقَّ عِبادَتِک»(2) فلابدّ أن یکون الآخرون أولی بهذا الاعتراف بالتقصیر.

***

ص:169


1- (1) خصال الصدوق، ج 2، ص 420، ح 14.
2- (2) . بحار الأنوار، ج 68، ص 23.

ص:170

القسم الثانی

اشارة

اللهمَّ إِنِّی أَعُوذُ بِک أَنْ أَفْتَقِرَ فی غِنَاک، أَوْ أَضِلَّ فی هُدَاک، أَوْ أُضَامَ فِی سُلْطَانِک، أَوْ أُضْطَهَدَ وَالأَمْرُ لَک!

اللهمَّ اجْعَلْ نَفْسِی أَوَّلَ کَرِیمَةٍ تَنْتَزِعُهَا مِنْ کَرَائِمِی، وَأَوَّلَ وَدِیعَةٍ تَرْتَجِعُهَا مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِک عِنْدِی!

اللهمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِک أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِک، أَوْ أَنْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِینِک، أَوْ تَتَابَعَ بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ الْهُدَی الَّذِی جَاءَ مِنْ عِنْدِک!

الشرح والتفسیر: النعم المکملة

حمد الإمام علیه السلام فی القسم الأوّل من هذه الخطبة، اللّه وأثنی علیه علی ما یغذیه به من نعم کبری ویتضرع هنا إلی اللّه ویسأله النعم المکملة لتلک النعم السابقة من خلال ثلاث عبارات استهلها ب «اللهم»: «اللهمَّ إِنِّی أَعُوذُ بِک أَنْ أَفْتَقِرَ فی غِنَاک، أَوْ أَضِلَّ فی هُدَاک، أَوْ أُضَامَ(1) فِی سُلْطَانِک، أَوْ أُضْطَهَدَ(2) وَالأَمْرُ لَک!».

فهذه العبارات الأربع التی تعود جمیعاً إلی التوحید الأفعالی تشیر إلی أنّ الغنی والهدی والنصر وغلبة الأعداء وجمیع المشاکل میسّرة فی ظلّ لطف اللّه؛ کما قال تعالی: «یَا أَیُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَی اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِیُّ»(3).

ص:171


1- (1) «أضام» من «الضیم» علی وزن «غیم» بمعنی الظلم والإذلال.
2- (2) «أضطهد» من مادة «ضهد» علی وزن «مهد» بمعنی قهر و «الاضطهاد» بمعنی التأکید قی القهر.
3- (3) سورة فاطر، الآیة 15.

وقال تعالی: «مَنْ یَهْدِ اللّه فَهُوَ الْمُهْتَدِی»(1).

وقال تعالی: «إِنْ یَنْصُرْکُمُ اللّه فَلاَ غَالِبَ لَکُمْ»(2).

ثم تضرع فی الدعاء الثانی وطلب فقال: «اللهمَّ اجْعَلْ نَفْسِی أَوَّلَ کَرِیمَةٍ تَنْتَزِعُهَا مِنْ کَرَائِمِی، وَأَوَّلَ وَدِیعَةٍ تَرْتَجِعُهَا مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِک عِنْدِی!».

«کریمة» تعنی فی الأصل، الشخص القیم والأشیاء النفیسة وهی هنا إشارة إلی أعضاء الإنسان المهمّة کالعین والأذن واللسان التی تذکر کنعمة إلهیّة وودیعة ربّانیّة لتکون إشارة إلی لطف اللّه ورحمته وإلی أنّ النعم ودائع تسترد فی خاتمة المطاف.

علی کلّ حال فمضمون هذا الدعاء ورد بصیغة أخری فی أدعیة سائر المعصومین علیهم السلام؛ جاء فی دعاء الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله فی أعمال لیلة النصف من شعبان: «اللّهمَّ أمْتِعْنا بِأسْماعِنا وَأبْصارِنا وَقُوَّتِنا ما أحْیَیْتَنا وَاجْعَلْهُ الْوارِثَ مِنّا»(3).

حقّاً إنّ الإنسان إذا فقد أواخر عمره نعمة قدرة الروح والبدن والبصر والسمع فإنّما یتحول إلی میت متحرک تصبح حلاوة شهد الحیاة مرارة علی لسانه بحیث یتمنی الموت والخلاص من هذه الحالة فی کلّ لحظة.

من البدیهی أنّه لیس المراد فی هذه الأدعیة أنّ اللّه یأخذ من الإنسان فی البدایة آواخر عمره، روحه ثم بصره وسمعه، بل المراد أنّ أعضاءه تبقی سلیمة حتی آواخر عمره.

وتضرع فی الدعاء الثالث: «اللهمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِک أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِک، أَوْ أَنْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِینِک، أَوْ تَتَابَعَ(4) بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ الْهُدَی الَّذِی جَاءَ مِنْ عِنْدِک!».

تعوّذ الإمام علیه السلام باللّه فی هذا الدعاء من ثلاث معاصی ودواهی عظمی:

1. أن ینسی الإنسان أوامر اللّه ونواهیه ویمرّ علیها غیر مُبالٍ.

ص:172


1- (1) سورة الأعراف، الآیة 178.
2- (2) سورة آل عمران، الآیة 160.
3- (3) بحار الأنوار، ج 95، ص 413، دعاء لیلة النصف من شعبان.
4- (4) «تتابع» من مادة «تتابع» (مصدر باب تفاعل) بمعنی الحمل بسرعة نحو الشیء.

2. أن تتسلل وساوس الشیطان إلی قلب الإنسان فتصده عن الحقّ.

3. أن تستولی أهواء النفس علی الإنسان فتصده عن هدی اللّه.

یقیناً، لو استجیبت هذه الأدعیة الثلاث التی تبتدأ ب (اللّهم) لنال الإنسان جمیع خیر الدنیا وسعادة الآخرة فما أحرانا أن نستحضر هذه الأدعیة فإذا شعرنا بحالة الدعاء أقبلنا علی اللّه وطلبنا منه ذلک.

أورد الإمام علیه السلام الکلام فی القسم الأوّل والثانی من هذا الدعاء، بصیغة المتکلّم؛ لکنّه ذکره فی القسم الأخیر بصیغة المتکلّم مع الغیر لیسأل اللّه صالحه وصالح جمیع المسلمین.

***

ص:173

ص:174

الخطبة 216

اشارة

خَطَبَها بِصِفّینَ (1)

نظرة إلی الخطبة

هذه الخطبة من خطب «نهج البلاغة» المهمّة التی أوردها الإمام علیه السلام فی یوم صفین، فاشتملت علی مباحث مهمّة تتمحور فی أربعة أقسام:

1. الحقوق المتبادلة بین الوالی والرعیة (الحاکم والشعب) تناول فیه القانون الکلی بشأن الحقوق فقال: الحق دائماً ذو حدین؛ فمن کان له حق علی آخر فللآخر أیضاً حق علیه، وهذه مسألة مهمّة سنتعرض لها إن شاء اللّه.

2. شرح فی القسم الثانی حقوق الحاکم علی الأمّة وحقوق الاُمّة علی الحاکم وأکّد هنا استحالة صلاح الاُمّة دون صلاح الحاکم، والعکس، أی کلّ من هذین الأمرین یؤثر فی الآخر.

3. القسم الثالث إجابة الإمام علیه السلام لأحد أصحابه حیث أثنی کثیراً علی الإمام

ص:175


1- (1) سند الخطبة: ورد فی «مصادر نهج البلاغة» ذیل هذه الخطبة رواها قبل السید الرضی المرحوم الکلینی فی «روضة الکافی»: ج 8، ص 352 عن الإمام الباقر علیه السلام. وما ورد فی «الکافی» أکثر ممّا ورد فی «نهج البلاغة» وتختلف بعض عباراته عمّا فی «نهج البلاغة» دون تغییر فی المعنی (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 129).

وعبّر له عن وفائه التام، فتواضع الإمام للغایة فی الردّ علیه وصرّح له: بأننی لا استسیغ أی مدح وثناء فالعظمة للّه وحده.

4. جری الکلام فی القسم الرابع عن العلاقة الصحیحة بین الحاکم والشعب وأکّد علی ضرورة ابتعاد الحاکم عن التملق، والاستعداد لسماع النقد والمعارضة لینطلق المجتمع نحو الصلاح والسداد.

***

ص:176

القسم الأوّل

اشارة

أَمَّا بَعْدُ؛ فَقَدْ جَعَلَ اللّه سُبْحَانَهُ لِی عَلَیْکُمْ حَقًّاً بِوِلاَیَةِ أَمْرِکُمْ، وَلَکُمْ عَلَیَّ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِی لِی عَلَیْکُمْ، فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الأَشْیَاءِ فِی التَّوَاصُفِ، وَأَضْیَقُهَا فِی التَّنَاصُفِ، لاَ یَجْرِی لأَحَدٍ إِلَّا جَرَی عَلَیْهِ، وَلاَ یَجْرِی عَلَیْه إِلَّا جَرَی لَهُ. وَلَوْ کَانَ لأَحَدٍ أَنْ یَجْرِیَ لَهُ وَلاَ یَجرِیَ عَلَیْهِ، لَکَانَ ذلِک خَالِصاً للّه سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَی عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِی کُلِّ مَا جَرَتْ عَلَیْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ، وَلکِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَی الْعِبَادِ أَنْ یُطِیعُوهُ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَیْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلاً مِنْهُ، وَتَوَسُّعاً بِما هُوَ مِنَ الْمَزِیدِ أَهْلُهُ.

الشرح والتفسیر: سعة حجم الحقوق

دعا الإمام علیه السلام فی مستهل هذه الخطبة جمیع صحبه إلی أداء وظائفهم من خلال بیان حقّه علی الاُمّة فقال: «أَمَّا بَعْدُ؛ فَقَدْ جَعَلَ اللّه سُبْحَانَهُ لِی عَلَیْکُمْ حَقًّا بِوِلاَیَةِ أَمْرِکُمْ، وَلَکُمْ عَلَیَّ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِی لِی عَلَیْکُمْ».

فقد أشار علیه السلام إلی قضیة مهمّة فی باب الحکومة الإسلامیّة کانت تختلف فی الواقع عن جمیع الحکومات آنذاک، فالحکومات المستبدة کانت تری کلّ شیء لها والرعیة کالعبید ما علیهم إلّاالطاعة العمیاء وإن کان لها من شیء فهو منه وبالتفضل ولیس حقّاً من حقوقهم علیه، بینما یصرّح الإمام علیه السلام، بأنّ الحکومة الإسلامیّة حقوق متبادلة؛ حق الحاکم علی الاُمّة وحق الاُمّة علی الحاکم وکلاهما ثقیل وذو مسؤولیّة.

ص:177

ثم أشار إلی قاعدة کلیة وشاملة فی الثقافة الإسلامیّة فقال: «فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الأَشْیَاءِ فِی التَّوَاصُفِ(1) ، وَأَضْیَقُهَا فِی التَّنَاصُفِ(2) ، لاَیَجْرِی لاَِحَدٍ إِلاَّ جَرَی عَلَیْهِ، وَلاَ یَجْرِی عَلَیْه إِلَّا جَرَی لَهُ».

حیث أشار علیه السلام فی الواقع إلی أمرین:

الأوّل: أنّ الجمیع عارفون بالحقّ وکل یتحدّث عنه ویتشدق به لحفظ مصالحه، بینما تراه فی غایة التشدد حین العمل لأداء حقوق الآخرین، وکأنّه یری الحق أحادی الجانب.

ومن هنا أشار الإمام علیه السلام فی الأمر الثانی إلی هذا الأمر الأساسی وهو لیس هنالک من حق أحادی الجانب فی أی مورد؛ فإن کان لأحد حق، کان علیه مثله؛ مثلاً، للأستاذ حق علی تلمیذه، کونه علمه ورباه، وللتلمیذ قطعاً حق علی أستاذه، فعلیه أن لا یألو جهداً فی تعلیمه وتربیته، کونه وضع فکره وعمره وشبابه تحت تصرفه، وإن کان للدائن حق علی المدین فی ضرورة أداء الدین فی وقته، فإنّ للمدین حقّاً متبادلاً فی أن یمهل إن تعذر علیه التسدید فی الوقت المطلوب «وَإِنْ کَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرَةٌ إِلَی مَیْسَرَة»(3).

وإن کان للرجال حقوق علی النساء، فللنساء مثل ذلک علی أزواجهنّ: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِی عَلَیْهِنَّ»(4).

بل للأبناء علیهما حقوق کثیرة، کما أنّ للأبناء حقوقاً علی الآباء والاُمهات، ومن أراد الوقوف علی سعة الحقوق المتبادلة للناس علی بعضهم فلیراجع رسالة الحقوق

ص:178


1- (1) . «تواصف» من مادة «وصف» بمعنی أنّ بعض الإشیاء وصف لبعضها الآخر. وتعنی فی الخطبة أنّ الناس فی الکلام کلّ یؤدی بشأن الحق.
2- (2) «تناصف» من مادة «نَصَفَ» علی وزن «هدف» وعلی وزن «حرص» الانصاف ومعنی «تناصف» أنّ کلّ شخص یراعی الانصاف بحق الآخر.
3- (3) سورة البقرة، الآیة 280.
4- (4) سورة البقرة، الآیة 228.

للإمام زین العابدین علی بن الحسین علیه السلام(1) ، حتی الحیوان له حق علی الإنسان إن کان مملوکه(2).

ثم أشار علیه السلام إلی حق اللّه علی العباد حتی أنّ هذا الحق لیس أحادیاً، وإن کانت عبارة حق العباد علی اللّه لیست مناسبة من جوانب؛ إلّاأنّ هذا الحق یبدو بلباس التفضل: «وَلَوْ کَانَ لاَِحَد أَنْ یَجْرِیَ لَهُ وَلاَ یَجرِیَ عَلَیْهِ، لَکَانَ ذلِک خَالِصاً للّه سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَی عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِی کُلِّ مَا جَرَتْ عَلَیْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ».

فالکلام إشارة إلی أنّ قدرة اللّه تقتضی من جانب أن لا یترک عباده ویلطف بهم من جمیع الجهات وتقتضی عدالته من جانب آخر أن لا یصیب الإنسان أدنی ظلم، سواء فی عالم التشریع أم عالم التکوین، وعلیه فهنالک فارق بین اللّه وعباده؛ فلعل العباد یفرطون بحقوق الآخرین إثر عجزهم أو الحاجات التی تضطرهم لهجر العدالة، لکن کیف یرضی القادر المطلق والعادل علی الاطلاق بضیاع حقوق عباده؟! ومن هنا یمکن استثناء الحق المتبادل بشأن اللّه واقتصار الحقّ علیه.

ثمّ واصل الإمام علیه السلام کلامه قائلاً: «وَلَکِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَی الْعِبَادِ أَنْ یُطِیعُوهُ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَیْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلاً مِنْهُ، وَتَوَسُّعاً بِما هُوَ مِنَ الْمَزِیدِ أَهْلُهُ».

وبعبارة أخری أنّ اللّه جعل لعباده حقّاً علیه إزاء حقّه علیهم، وإن کان هذا الحق تفضّل دون أن یکون لعباده دین علیه، کونهم لا یؤدون جزءاً من شکره مهما أطاعوه وعبدوه إزاء ما غمرهم به من نعم، ومن هنا لم یستثن حتی اللّه تعالی من هذا الأمر؛ أی کما له تعالی حق علی العباد فهم کذلک لهم حق علیه، وإن کان هذا الحق من باب التفضّل، لا الاستحقاق.

ص:179


1- (1) . أورد المرحوم العلّامة المجلسی رسالة الحقوق للإمام السجاد علیه السلام فی بحار الأنوار، ج 71، ص 10.
2- (2) ورد فی کتاب الحج من «وسائل الشیعة»، باب تحت عنوان «حقوق الدابّة الواجبة والمندوبة» وهو مهم للغایة واُشیر لهذا المعنی فی الخطبة 167.

تأمّل: الثواب استحقاق أم تفضّل؟

ورد هذا البحث لدی علماء الکلام منذ القدم، هل الثواب الإلهی استحقاق أم تفضّل؟ بمعنی إن أطاع العباد أوامر اللّه فهل علی اللّه إثابتهم، وإلّا کان ذلک قبیحاً علیه؟ أم لیس للعباد أی شیء علی اللّه إن إمتثلوا أوامره وترکوا نواهیه، وإن أثابهم فمن باب اللطف والرحمة، وإلّا کان عین العدل؟

قال بعض المتکلمین الذین یمیلون لمذهب الأشاعرة بالتفضّل بینما ذهب مذهب الاعتزال للقول بالاستحقاق.

یری القائلون بالاستحقاق أنّ إلزام العباد بالطاعة یتضمن مشقّات، فإن کان الإلزام هدفاً فهو ظلم وقبیح ولا یصدر من الحکیم، وإن کان له هدف فلیس ذلک الهدف سوی الثواب الجمیل، وعلیه إن لم یعط اللّه الثواب استلزم القبح المحال علی اللّه، أمّا القائلون بالتفضّل فیقولون: إنّ اللّه غمرنا بالنعم لو فنینا أعمارنا فی طاعته لم نؤد شکر جزء من نعمه، وعلیه فلا نستحق منه شیئاً لیلزم بإعطائه.

إلّا أنّ المذهبین کأنّهما غفلاً نقطةً الالتفات إلیها یکشف النقاب عن هذه المسألة ویجلی الحق، وهی أنّ استحقاق الثواب حین یقدم أحد خدمة لآخر فیتوقع علیها الأجر والثواب، بعبارة أخری، قال المذهبان بالثواب أو ما یشبهه علی طاعة أوامر اللّه؛ فالمذهب الأوّل یقول: إنّهم تلقوا أجرهم من قبل بصیغة نعم إلهیة، والثانی یری أنّهم لابدّ أن یحصلوا علیه لاحقاً.

والحال نعلم أنّ لجمیع الأوامر والنواهی مصالح تعود لنفس المکلفین، فالصوم والصلاة والحج والجهاد سبب صفاء الروح وتکامل النفس والعزّة والرفعة وترک الذنب والغیبة والخمر والقمار ینقذهم من المفاسد والانحرافات، وعلی هذا الأساس فإنّ المکلفین إنّما یخدمون أنفسهم فی الطاعة وترک المعصیة، فهل لهم أن یروا لأنفسهم أجراً علی اللّه إزاء خدمتهم لأنفسهم؟!

ص:180

یبدو الأمر أشبه بالطبیب الرؤوف بمریضه فینصحه مجاناً ویزوده بالدواء فیلتزم بها المریض ویشفی من مرضه، فلو ذهب هذا المریض إلی الطبیب وطالبه بالأجر علی طاعته لأوامره، ألا یتعجب منه الجمیع ویضحکون علیه؟

وجمیع الأوامر والنواهی کذلک، فالنبی الأکرم صلی الله علیه و آله طبیب دوار بطبه وکل ما ذکره لصالح المکلفین، وعلیه فلا مجال لبحث قضیة ثواب الناس إزاء الطاعة سواءً استحقاقاً أم تفضلاً.

نعم کتب اللّه علی نفسه الثواب ووعد به بلطفه وکرمه وحثاً لعباده علی طاعته التی توجب کما لهم واللّه لا یخلف وعده لاستحاله خلف الوعد علی الحکیم القادر والعالم، قال تعالی: «کَتَبَ عَلَی نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»(1).

وقال أیضاً: «إِنَّ اللّه لاَ یُخْلِفُ الْمِیعَادَ»(2).

***

ص:181


1- (1) سورة الأنعام، الآیة 12، وورد هذا التعبیر فی الآیة 54 مع اضافة کلمة «ربّکم».
2- (2) سورة آل عمران، الآیة 9.

ص:182

القسم الثانی

اشارة

ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَی بَعْض، فَجَعَلَهَا تَتَکَافَأُ فِی وُجُوهِهَا، وَیُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَلاَ یُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْض. وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْک الْحُقوقِ حَقُّ الْوَالِی عَلَی الرَّعِیَّةِ، وَحَقُّ الرَّعِیَّةِ عَلَی الْوَالِی، فَرِیضَةٌ فَرَضَهَا اللّه سُبْحَانَهُ لِکُلٍّ عَلَی کُلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لاُِلْفَتِهِمْ، وَعِزًّا لِدِینِهِمْ، فَلَیْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِیَّةُ إِلَّا بِصَلاَحِ الْوُلاَةِ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِیَّةِ، فَإِذَا أَدَّتِ الرَّعِیَّةُ إِلَی الْوَالِی حَقَّهُ، وَأَدَّی الْوَالِی إِلَیْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَیْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّینِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَی أَذْلاَلِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذلِک الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِی بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَیَئِسَتْ مَطَامِعُ الأَعْدَاءِ. وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِیَّةُ وَالِیَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِی بِرَعِیَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِک الْکَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَکَثُرَ الْاِدْغَالُ فِی الدِّینِ، وَتُرِکَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَی، وَعُطِّلَتِ الأَحْکَامُ، وَکَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلاَ یُسْتَوْحَشُ لِعَظِیمِ حَقٍّ عُطِّلَ، وَلاَ لِعَظِیمِ بَاطِل فُعِلَ! فَهُنَالِک تَذِلُّ الأَبْرَارُ، وَتَعِزُّ الأَشْرَارُ، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللّه سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ.

الشرح والتفسیر: حق الوالی والرعیة

أشار الإمام علیه السلام فی المقطع السابق إلی حقّ اللّه علی الناس وتطرق هنا إلی حقّ الناس علی بعضهم وأهمها حقّ الوالی علی الاُمّة وحقّ الاُمّة علی الوالی فقال: «ثُمَّ

ص:183

جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَی بَعْض».

جدیر ذکره أنّ الإمام علیه السلام اعتبر حقّ الناس علی بعضهم فرعاً من حقّ اللّه علی الناس وناشئ من حقوقه، وبعبارة أخری فإنّ حقّ اللّه وحق الناس لیسا فی عرض بعضهما، بل فی طول بعضهما.

ثم قال: «فَجَعَلَهَا تَتَکَافَأُ(1) فِی وُجُوهِهَا، وَیُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَلاَ یُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْض».

بعبارة أخری لا حقّ أحادی الجانب من هذه الحقوق، بل هی ثنائیة جمیعاً کما ورد فی القسم السابق، فإن کان لأحد حقّ علی الآخر کان هناک حق لذلک الآخر علیه، وعلیه فهذه الحقوق متساویة ومتلازمة؛ لیس بمعنی إن لم یلتزم أحد بوظیفته کان علی الآخر عدم الالتزام بها؛ مثلاً، لو لم یقم الولد بطاعة والده یتمرد الأب علی تربیته وأداء نفقته، أو إن لم تعمل طائفة من الرعیة بوظیفتها یقطع الوالی عنها الخدمات، بعبارة أخری، أنّ هذه من قبیل اللازم والملزوم فی مقام الوجوب، لا فی مقام التحقق والعمل؛ أی کلاهما واجب، سواء عمل الطرف المقابل بوظیفته أم لا.

ولمزید من الإیضاح إلیک هذا المثل، إن أدّت الرعیة ما علیها من ضرائب وخراج سوف لن یتقاعس الوالی عن وظیفته فی توفیر الأمن لهم وتعلیم وتربیة أولادهم ومعالجة مرضاهم وجرحاهم، لأنّ کلاً من هاتین الوظیفتین مستقلة ولیست مشروطة بالاُخری فی مقام العمل، وإن تشابکتا کوجوبین فی مقام التشریع.

وقال الإمام علیه السلام مواصلاً کلامه: «وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْک الْحُقوقِ حَقُّ الْوَالِی عَلَی الرَّعِیَّةِ(2) ، وَحَقُّ الرَّعِیَّةِ عَلَی الْوَالِی، فَرِیضَةٌ فَرَضَهَا اللّه سُبْحَانَهُ لِکُلٍّ عَلَی کُلٍّ».

ص:184


1- (1) . «تتکافأ» یعنی تتساوی من مادة «کفؤ» علی وزن «کفر» التساوی فی المقام والمنزلة والقدر، ثم اطلقت علی کلّ شبیه ومثیل.
2- (2) . «رعیّة» من مادة «رعی» علی وزن «سعی» بمعنی الحفظ والمراقبة والمراعاة. ومنه «الراعی» لأنّه یحفظالماشیة ویقال للحاکم «راعی» لأنّه یرعی الناس ویطلق علی الناس «رعیة» لأنّهم تحت رعایة وحفظ الحکومة.

ثم خاض الإمام علیه السلام فی فلسفة هذین الحقّین فقال: «فَجَعَلَهَا نِظَاماً لاُِلْفَتِهِمْ، وَعِزًّا لِدِینِهِمْ، فَلَیْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِیَّةُ إِلَّا بِصَلاَحِ الْوُلاَةِ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِیَّةِ».

فرعایة هذه الحقوق لها فی الواقع آثار مادیة مهمة ومعنویة فالعبارة «فَجَعَلَهَا نِظَاماً لاُِلْفَتِهِمْ» إشارة لآثارها المادیة والظاهریة والعبارة «عِزّاً لِدِینِهم» لآثارها المعنویة والروحیة، وإلی هذه الحقیقة أشارت العبارتان بعدها إلی صلاح الرعیة والوالی وفسادهما تداخلاً مع بعضهما ولکل منها أثره علی الآخر، فالوالی الفاسد یسوق الرعیة إلی الفساد والرعیة الصالحة تضطر الوالی لقبول الحق والعدل، وإن صلحا معاً توفرت أفضل الظروف لرقی المجتمع وتطوره.

ثم خاض فی الآثار السلبیّة لتقاعس الطرفین فی أداء الحقوق، بعبارة أوضح وأبلغ عدّد هذه الآثار الواحد تلو الآخر فقال: «فَإِذَا أَدَّتِ الرَّعِیَّةُ إِلَی الْوَالِی حَقَّهُ، وَأَدَّی الْوَالِی إِلَیْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَیْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّینِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَی أَذْلاَلِهَا(1) السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذلِک الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِی بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَیَئِسَتْ مَطَامِعُ الأَعْدَاءِ».

فقد بیّن الإمام علیه السلام هنا سبعة آثار مهمّة لأداء الحقوق المتبادلة بین الوالی والرعیة؛ أولها: العزّة والاقتدار، وثانیها: قیام مناهج الدین وضعف البدع، وثالثها: ارتفاع رایة العدل فی البلاد الإسلامیّة، ورابعها: إحیاء السنّة، وخامسها: کنتیجة لما سبق، صلاح الوسط الاجتماعی، وسادسها: الطمع فی بقاء الحکومة ودوامها، وسابعها: یأس الأعداء، وقد اتضح هذا الأمر علی عهد النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله حیث کان أعظم مؤد لحقوق الأمّة وکانت أغلبیتها الساحقة تؤدی حق الطاعة فبدت واضحة تلک الآثار السبعة.

ص:185


1- (1) . «اذلال «جمع «ذلّ» علی وزن «ظلّ» بمعنی جادة محکمة ومستقیمة وبسبب کثرة المرور علیه أصبحت قویة، وأصل هذه الکلمة مأخوذة من «ذلّت».

وأمّا فی عهد أمیر المؤمنین علیه السلام وإن احییت السنن الإسلامیّة والعدل والقسط إلی حد معین، غیر أنّ الانحرافات التی حدثت عقب وفاة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله طیلة 35 سنة الواحد تلو الآخر والتی أدت فی الختام إلی الخروج علی حکومة عثمان، وبالتالی قتله، جعلت من المتعذر إعادة المسیرة لما کانت علیه خلال المدّة القلیلة لحکومة الإمام علی علیه السلام وبقاء العناصر الخطیرة من الحکومات السابقة کمعاویة وبنی أمیة وبنی مروان، الحقیقة التی یعترف بها کلّ من تمعن بهذه الحقیقة من التاریخ الإسلامی دون تعصب وباستطاعة المسلمین الیوم الظفر بعزتهم واقتدارهم بالاستلهام من کلمات الإمام علیه السلام وانسجام الولاة والرعایا والحکام والشعوب.

ثم تناول الإمام علیه السلام الآثار السیئة لتقاعس الوالی والرعیة عن حقوق بعضها البعض وقال: «وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِیَّةُ وَالِیَهَا، أَوْ أَجْحَفَ(1) الْوَالِی بِرَعِیَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِک الْکَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَکَثُرَ الْاِدْغَالُ(2) فِی الدِّینِ، وَتُرِکَتْ مَحَاجُّ(3) السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَی، وَعُطِّلَتِ الأَحْکَامُ، وَکَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ».

فبیّن الإمام علیه السلام أیضاً سبع مفاسد لعدم الانسجام بین الحاکم والشعب والذی لمسناه کراراً فی حکومات الجور؛ اختلاف الکلمة، الظلم والجور، البدعة والخداع، ترک المنهاج الواضح، العمل بالأهواء والاستبداد، ثم تطرق اثر ذلک إلی النتیجة النهائیّة لهذه الأوضاع المؤسفة فقال: «فَلاَ یُسْتَوْحَشُ لِعَظِیمِ حَقٍّ عُطِّلَ، وَلاَ لِعَظِیمِ بَاطِل فُعِلَ! فَهُنَالِک تَذِلُّ الأَبْرَارُ، وَتَعِزُّ الأَشْرَارُ، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللّه سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ».

فهذه الأمور الخمسة نتیجة مباشرة وغیر مباشرة لحکومات الجور، فالناس فی ظلّ هذه البیئة یعتادون علی إبطال الحقوق ولا یکترثون لرواج الباطل فتصبح هذه

ص:186


1- (1) . «اجحف» من «الإجحاف» هضم حقوق الآخرین ومادته الأصلیة «جحف» علی وزن «محو» بمعنی إزالة الشیء.
2- (2) . «ادغال» إدخال ما یفسد الشیء. من مادة «دغل» علی وزن «دخل» الدخول فی مکان خفیة لاغفال الصید.
3- (3) «محاج» جمع «محجة» الجادة الواضحة والسویة من «الحج» بمعنی القصد فالإنسان یقصد دائماً الطریق الواضح.

الأمور قضایا عادیة لمسنا نماذجها طیلة التاریخ وفی عصرنا، فمن الطبیعی أن لا یشق طریقه صوت الأخیار والأطهار الذین یتبنّون الحق ویناهضون الباطل وینحَّون من المیدان، وبالعکس تکون المناصب الحساسة بید الأشرار والملوّثین المسایرین لذلک الجو، الأمر الذی حدث علی عهد حکومة الخلیفة الثالث؛ فنفی أبوذر وتسلّط مروان وواصل أمثال معاویة ذلک الطریق فقتل من علی شاکلة عمار حتی بلغ الأمر یزید وابن زیاد فقتلا أطهر نسل النّبی صلی الله علیه و آله وصحبه.

ومن البدیهی أن یمسک اللّه لطفه فی هذه الظروف عن الرعیة ووالیها ویؤاخذهم بتبعات أعمالهم.

***

ص:187

ص:188

القسم الثالث

اشارة

فَعَلَیْکُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِی ذلِک، وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَیْهِ، فَلَیْسَ أَحَدٌ وَإِنِ اشْتَدَّ عَلَی رِضَی اللّه حِرْصُهُ، وَطَالَ فِی الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ بِبَالِغٍ حَقِیقَةَ مَا اللّه سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ. وَلکِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللّه عَلَی عِبَادِهِ النَّصِیحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَی إِقَامَةِ الْحَقِّ بَیْنَهُمْ. وَلَیْسَ امْرُؤٌ وَإِنْ عَظُمَتْ فِی الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْ فِی الدِّینِ فَضِیلَتُهُ بِفَوْقِ أَنْ یُعَانَ عَلَی مَا حَمَّلَهُ اللّه مِنْ حَقِّهِ. وَلاَ امْرُؤٌ وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ، وَاَقْتَحَمَتْهُ الْعُیُونُ بِدُونِ أَنْ یُعِینَ عَلَی ذلِک أَوْ یُعَانَ عَلَیْهِ.

الشرح والتفسیر: ضرورة التعاون فی أداء الحقوق

دعا الإمام علیه السلام هنا الجمیع بما فیهم الوالی والرعیة لما فرغ من الوصیة بشأن حق الوالی والرعیة بالتعاون مع بعض، ثم أشار إلی ثلاثة أمور اجتماعیة مهمّة فقال فی القسم الأوّل: «فَعَلَیْکُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِی ذلِک، وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَیْهِ».

ثم اتّجه صوب الأمور الثلاثة المهمّة فقال بادئ الأمر - بغیة عدم اغترار الأفراد وأن لایظنّوا أنّهم أتوا بوظیفتهم بهذا الخصوص بأحسن وجه ویتوقفوا بالنتیجة عن الحرکة - «فَلَیْسَ أَحَدٌ وَإِنِ اشْتَدَّ عَلَی رِضَی اللّه حِرْصُهُ، وَطَالَ فِی الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ بِبَالِغٍ حَقِیقَةَ مَا اللّه سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ. وَلکِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللّه عَلَی عِبَادِهِ النَّصِیحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَی إِقَامَةِ الْحَقِّ بَیْنَهُمْ».

وهذا أصل کلّی أنّ الإنسان إن رضی تماماً عن عمله ولم یر فیه نقصاً وخللاً،

ص:189

کفّ عن الحرکة وتعثرت مسیرته نحو الکمال، والأمر کذلک فلیس للسمو والتکامل وجلب رضی اللّه من حدود لیقنع بها الإنسان، فلابدّ من الاعتراف بالتقصیر دائماً وبذل الجهد علی الدوام، وعلیه فلیس هنالک من یستغنی عن وعظ الآخرین، لأنّ النقص والتقصیر یبدو أظهر للآخرین، بینما یحول حبّ الذات دون رؤیته.

ورد فی حیث مفصّل عن الزهری، قال: «دخلت مع علی بن الحسین علیهما السلام علی عبدالملک بن مروان قال: فاستعظم عبدالملک ما رأی من أثر السجود بین عینی علی بن الحسین علیه السلام فقال: یاأبا محمّد لقد بیّن علیک الاجتهاد، ولقد سبق لک من اللّه الحسنی وأنت بضعة من رسول اللّه صلی الله علیه و آله قریب النسب وکید السبب... وأقبل یثنی علیه ویطریه، قال: فقال علی بن الحسین علیه السلام: کلّ ما ذکرته ووصفته من فضل اللّه سبحانه وتأییده وتوفیقه فأین شکره علی ما أنعم...؟ کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقف فی الصلاة حتی تورم قدماه، ویظمأ فی الصیام حتی یعصب فوه، فقیل له: یا رسول اللّه! ألم یغفر اللّه لک ما تقدم من ذنبک وما تأخر؟ فیقول صلی الله علیه و آله: أفلا أکون عبداً شکوراً..

واللّه لو تقطّعت أعضائی وسالت مقلتای علی صدری لن أقوم للّه جلّ جلاله بشکر عشر العشر من نعمة واحدة من جمیع نعمه التی لا یحصیها العادّون، ولا یبلغ حدّ نعمة منها فی جمیع حمد الحامدین»(1).

ثم قال فی بیان ذانک الأمرین: «وَلَیْسَ امْرُؤٌ وَإِنْ عَظُمَتْ فِی الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْ فِی الدِّینِ فَضِیلَتُهُ بِفَوْقِ أَنْ یُعَانَ عَلَی مَا حَمَّلَهُ اللّه مِنْ حَقِّهِ. وَلاَ امْرُؤٌ وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ، وَاقْتَحَمَتْهُ(2) الْعُیُونُ بِدُونِ أَنْ یُعِینَ عَلَی ذلِک أَوْ یُعَانَ عَلَیْهِ».

إشارة إلی ضرورة إدراک الجمیع لهذه الحقیقة أن لیس أحد من الأقویاء ولا الضعفاء فی المجتمع غنی عن الآخر، فاللّه لم یودع شخصاً کلّ شیء، فقد جعل فی

ص:190


1- (1) بحار الأنوار، ج 46، ص 56، ح 10.
2- (2) «اقتحمت» من «الإقتحام» الإخفاء أو الدخول فی عمل دون تروٍّ وتعنی الاحتقار والازدراء ومادته «قحم» علی وزن «فهم».

کلّ رأس فکراً وفی کل بدن قوّة وقدرة؛ صغیراً کان أم کبیراً، وعلیه فلیس لمن کان مقتدراً من حیث الفکر والإدارة والقوة البدنیة أن یری نفسه غنیّاً عن عون أضعف أفراد المجتمع، کما لا ینبغی للأفراد الضعفاء والعاجزین ظاهریاً أن یتصوروا أنّهم لیس لهم دور فی إدارة شؤون المجتمع.

روی عن الإمام الرضا علیه السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: «غَریبان: کَلِمَةُ حِکْمَةٍ مِنْ سَفیهٍ فَاقْبَلُوها وَکَلِمَةُ سَفَهٍ مِنْ حَکیم فَاغْفِرُوها فَإِنَّهُ لا حَکیمَ إلّاذُو عَثْرَةٍ وَلا سَفیهَ إلّاذُو تَجْرِبَةٍ»(1).

والتاریخ یحتفظ فی ذاکرته بالعدید من مثل هذه الحوادث منها ماورد فی المعتصم:

لما خرج ملک الروم، وفعل فی بلاد الإسلام ما فعل بلغ الخبر المعتصم فاستعظمه وکبر لدیه، وبلغه أنّ امرأةً هاشمیّة صاحت وهی اسیرة فی أیدی الروم: وامعتصماه، فأجبها وهو جالس علی سریره: لبیک لبیک، ونهض من ساعته وصاح فی قصره:

النفیر النفیر، وبلغه أنّ عموریة عین النصرانیة وأشرف عندهم من القسطنطنیة، فتجهز بما لم یعهد من السلاح وحیاض الأدم وغیر ذلک، وفرّق عساکر ثلاث فرق، فخربوا البلاد الروم وقتلوا کثیراً وأحرقوا ووصلوا إلی فانوریة، ثم اجتمعوا فی عموریة وحاصروها ونصبوا علیها المجانیق وکانت فی غایة الحصانة.

وقد ذکر الشیخ محیی الدین بن العربی فی کتابه المسمی بالمسامرة فتح عموریة فقال: فتحها المعتصم فی رمضان سنة ثلاث وعشرین ومائتین، وسبب فتحها أن رجلاً وقف علی المعتصم فقال: یا أمیرالمؤمنین کنت بعموریة وجاریة من أحسن النساء أسیرة قد لطمها علج علی وجهها، فنادت: وامعتصماه، فقال العلج: وما یقدر علیه المعتصم یجیء علی أبلق ینصرک! وزاد فی ضربها، فقال المعتصم: وفی

ص:191


1- (1) بحار الأنوار، ج 2، ص 44.

أیّ جهة عموریة، فقال له: الرجل هکذا، وأشار إلی جهتها، فردّ المعتصم وجهه إلیها، وقال: لبیک أیتها الجاریة، لبیک هذا المعتصم باللّه أجابک، ثمّ تجهز إلیها فی اثنی عشر ألف فرس أبلق وفی هذه التلبیة یقول له فی قصیدة أبوتمام حبیب الطائی:

لَبیتُ صَوتاً رَطیباً قَد هَرقت لَهکأس الکَری وَرضاب الحَردِ العرب

فلما حاصرها وطال مقامه علیها، جمع المنجّمین، فقالوا له: إنا نری أنّک ماتفتحها إلّافی زمان نضج العنب والتین، فبعد علیه ذلک واغتمّ لذلک، فخرج لیلةً متجسّساً فی العسکر یسمع ما یقول الناس، فمرّ بخیمة حدّاد یضرب نعال الخیل، وبین یدیه غلام أقرع قبیح الصورة بضرب نعال الخیل ویقول: فی رأس المعتصم، فقال له معلمه: اترکنا من هذا، مالک والمعتصم فقال: ما عنده تدبیر، له کذا وکذا یوماً علی هذه المدینة علی قوّته ولایفتحها، لو أعطانی الأمر ما بتّ غداً إلا فیها، فتعجّب المعتصم ممّا سمع وانصرف إلی خیامه وترک بعض رجاله موکّلاً بالغلام، فلمّا أصبح جاءوا به فقال: ما حملک یاهذا علی ما بلغنی عنک؟

فقال: الذی بلغک حقّ، ولکن ماوراء خبائک، وقد فتح اللّه عموریة فقال: قد ولّیتک، وخلع علیه وقدّمه علی الحرب، فجمع الرماة، واختار منهم أهل الإصابة وجاء إلی بدن من أبدان الصور وفی البدن من أوّله إلی آخره خطّ أسود من خشب، عرضه ثلاثة أشبار أو أکثر، فحمی السهام بالنار وقال للرماة: من أخطأ منکم ذلک الخطّ الأسود ضربت عنقه، وإذا بذلک الخطّ خشب ساج، فعند ما حصلت فیه السهام المحمیّة قامت النار فیه واحترق، فنزل البدن کما هو، وتحامی الرجال، ودخل البلد بالسیف، وذلک قبل الزمان الذی ذکره المنجّمون، وفی ذلک یقول أبوتمام حبیب الطائی فی قصیدته التی امتدح بها المعتصم عند فتح عموریة:

السَّیفُ أَصدقُ أَنباءً مِنَ الکُتُبِ

تأمّل: الحکومات الشعبیة

کثر الکلام فی عالمنا المعاصر عن الحکومات الجماهیریة؛ لکنها غالباً ما تنتهی إلی دکتاتوریات مرئیة وغیر مرئیة تقتصر علی حفظ مصالح الأقویاء والغاصبین، کونها تفتقر إلی العنصر المعنوی والورع السیاسی.

وقلنا غیر مرئیة، کون الطغاة یستعینون بالوسائل الاجتماعیة المتطورة وأبواق الدعایة فی غسل أدمغة الجماهیر ویصادرون آراءَهم بوعودهم المعسولة، والنموذج الواضح فی عصرنا: الدیمقراطیة الأمریکیة

أضف إلی ذلک فإنّ آراء هذه الحکومات فی أفضل صورة حکومة النصف زائد واحد ونتیجة ذلک الاصطفاف بین الطبقة الحاکمة والنصف ناقص واحد، وقد رأینا فی عصرنا مراراً الحکومات التی تتسلم الحکم من خلال آراء الشعب وحیث لم یعملوا لصالح الجبابرة فقد سعوا بشتی الوسائل لإسقاطهم، فنجحوا فی أغلب الحالات، وکلّ ذلک کونهم یفتقرون فی حکومتهم المادیة للغایة للشرط الأساس المتمثل بالعنصر الروحی، وعدم شعورهم بالمسؤولیة أمام اللّه.

وما ورد فی کلام الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة یشیر إلی سیادة الشعب بأحسن صورها، فقد تطرق بادئ الأمر إلی العنصر المعنوی للحکومة وذکّر الجمیع أنّکم تغرقون بنعم اللّه بحیث لا یسعکم شکر عشر أعشارها مهما اجتهدتم فی طاعته ثم یوصی الحکام أنّکم لا تستغنون عن مساعدة کلّ فرد فی المجتمع

ص:192

ص:193

مهما بلغتم من القوّة والعلم والتجربة والفطنة، فلابدّ لکم من إشراک الجمیع والاستعانة بهم.

ثمّ ذکّر الجماهیر بعدم اعتزال المساهمة فی إدارة شؤون المجتمع کیفما کانت أعمارهم ومستوی علومهم، فلابدّ من تضافر الجهود والترکیز علی عنصر التقوی فی تشکیل الحکومة المرضیة للّه والمجتمع(1).

***

ص:194


1- (1) تمرّ علینا حین کتابة هذه السطور حادثتان مهمتان هزتا العالم الإسلامی: الاُولی: حادثة الإهانة الألیمة للنبی صلی الله علیه و آله بتلک الصور المستهجنة التی عکستها أجهزة الإعلام الغربیة والتی انطلقت من الدانمارک لتعم أکثر البلدان الأوربیة وموجة استنکار المسلمین التی عمّت العالم وقاطعوا بضائع تلک الدول حتی اضطروا للتراجع ودخلوا مرحلة الاعتذار. أمّا الحادثة الثانیة فکانت الجریمة التی انتهکت حرمة ضریح العسکریین علیهما السلام حیث استیقظ المسلمون یوم الأربعاء عام 2006 لیروا أیادی الاستعمار والاستکبار والعملاء الرعاع قد أحالوا الضریح إلی رکام من التراب من خلال خطة مدبرة مسبقاً، فأجج مشاعر العالم الإسلامی برمته دون الاقتصار علی الشیعة، مستنکرة تلک الجریمة التی سعت لبث الفرقة بین المسلمین وإثارة الحرب الأهلیة، جدیر ذکره أنّ کلّ هذه الأمور کانت تهدف إلی مواجهة الحکومات الشعبیة التی تسلمت الأمور فی العراق وفلسطین. «اللّهمَّ فَرِّقْ جَمْعَهُمْ وَشَتِّتْ شَمْلَهُمْ وَخُذْهُمْ أخْذَ عَزیز مُقْتَدِر».

القسم الرابع

اشارة

فَأجابَهُ علیه السلام رَجُلٌ مِنْ أصْحابِهِ بِکَلامٍ طَویلٍ، یُکْثِرُ فیهِ الثَّناءَ عَلَیْهِ، وَیَذْکُرُ سَمْعَهُ وَطاعَتَهُ لَهُ؛ فَقالَ علیه السلام:

إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلاَلُ اللّه سُبْحَانَهُ فِی نَفْسِهِ، وَجَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ، أَنْ یَصْغُرَ عِنْدَهُ لِعِظَمِ ذلِک کُلُّ مَاسِوَاهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ کَانَ کَذلِک لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللّه عَلَیْهِ، وَلَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَیْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللّه عَلَی أَحَد إِلّا ازْدَادَ حَقُّ اللّه عَلَیْهِ عِظَماً. وَ إِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالاَتِ الْوُلاَةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ، أَنْ یُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ، وَیُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَی الْکِبْرِ، وَقَدْ کَرِهْتُ أَنْ یَکُونَ جَالَ فِی ظَنِّکُمْ أَنِّی أُحِبُّ الاِْطْرَاءَ، وَاسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ؛ وَلَسْتُ بِحَمْدِ اللّه کَذلِک، وَلَوْ کُنْتُ أُحِبُّ أَنْ یُقَالَ ذلِک لَتَرَکْتُهُ انْحِطَاطاً للّه سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْکِبْرِیَاءِ. وَرُبَّما اسْتَحْلَی النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلاَءِ، فَلاَ تُثْنُوا عَلَیَّ بِجَمِیلِ ثَنَاءٍ، لِاِخْرَاجِی نَفْسِی إِلَی اللّه سُبْحَانَهُ وَإِلَیْکُمْ مِنَ التَّقِیَّةِ فِی حُقُوق لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا، وَفَرَائِضَ لاَبُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا.

الشرح والتفسیر: الشکر علی الواجب

لما بلغ الإمام علیه السلام العبارة الأخیرة من القسم السابق «فَأَجابَهُ علیه السلام رَجُلٌ مِنْ أصْحابِهِ بِکَلام طَویل، یُکْثِرُ فیهِ الثَّناءَ عَلَیْهِ، وَیَذْکُرُ سَمْعَهُ وَطاعَتَهُ لَهُ؛ فَقالَ علیه السلام:».

لم یذکر شرّاح نهج البلاغة من کان ذلک الشخص، إلّاأنّ المرحوم الکلینی ذکر فی «الکافی» کلاماً طویلاً بین أمیرالمؤمنین علیه السلام وذلک الرجل، ثم قال: ولم یشاهد

ص:195

أحد ذلک الرجل بعد ذلک الکلام(1).

ومن هنا احتمل المرحوم الکلینی أنّ ذلک الرجل هو الخضر علیه السلام الذی کان یرد فی بعض المواقع الحساسة علی الإمام علیه السلام فیؤدی وظیفته ثم یختفی عن العیون:

علی کلّ حال حسب روایة «الکافی» فإن ذلک الرجل قال:

«أنت أمیرنا ونحن رعیّتک، بک أخرجنا اللّه عزّ وجلّ من الذلّ وإعزازک أطلق عباده من الغل، فاختر علینا وأمض اختیارک وائتمر فأمض ائتمارک فإنّک القائل المصدّق والحاکم الموفّق والملک المخوّل لا نستحلّ فی شیء معصیتک ولا نقیس علماً بعلمک، یعظم عندنا فی ذلک خطرک ویجلّ عنه فی أنفسنا فضلک».

فردّ علیه الإمام علیه السلام فأستانف مدحه وثناءه وتکررت هذه القضیة مراراً ثم اختفی الرجل(2).

علی کلّ حال ما ورد فی «نهج البلاغة» أنّ الإمام علیه السلام أجابه: «إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلاَلُ اللّه سُبْحَانَهُ فِی نَفْسِهِ، وَجَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ، أَنْ یَصْغُرَ عِنْدَهُ لِعِظَمِ ذلِک کُلُّ مَاسِوَاهُ».

یبدو واضحاً تماماً هذا المعنی من خلال الالتفات إلی أنّ ذات اللّه وجود مطلق من جهة ولا متناهی من حیث العلم والقدرة وکل ما سوی اللّه، قطرة إزاء بحر عظیم متلاطم، کما ورد ذلک فی خطبة همام فی صفات المتقین: «عَظُمَ الْخالِقُ فی أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ ما دُونَهُ فی أعْیُنِهِم». فمن تطلع لقرص الشمس کان ضوء الشمعة لا شیء بنظره.

ثم أضاف علیه السلام: «وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ کَانَ کَذلِک لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللّه عَلَیْهِ، وَلَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَیْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللّه عَلَی أَحَد إِلاّ ازْدَادَ حَقُّ اللّه عَلَیْهِ عِظَماً». هذا الکلام فی الواقع جواب علی مدیح ذلک الرجل المحبّ للمولی علیه السلام، أی لا تظن أنّ

ص:196


1- (1) الکافی، ج 8، ص 355.
2- (2) المصدر السابق.

کلامک یسوقنی للکبر والغرور، فأولاً: أنا عرفت اللّه بعظمته وما سواه صغیر حقیر بنظری. وثانیاً: أنا مشمول بنعم جمّة وعلیَّ أن أخضع أکثر من الآخرین لولی نعمتی.

وقال مکملاً ومؤکداً هذا الکلام: «وَ إِنَّ مِنْ أَسْخَفِ(1) حَالاَتِ الْوُلاَةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ، أَنْ یُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ، وَیُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَی الْکِبْرِ، وَقَدْ کَرِهْتُ أَنْ یَکُونَ جَالَ فِی ظَنِّکُمْ أَنِّی أُحِبُّ الاِْطْرَاءَ(2) ، وَاسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ؛ وَلَسْتُ بِحَمْدِ اللّه کَذلِک».

صحیح أنّه طبق بعض الاحتمالات کان ذلک المادح هو الخضر علیه السلام ولم ینطق سوی بالحق وما أورده کان فی الإمام، بل أکثر من ذلک، إلّاأنّ الإمام أشار إلی أمر ضروری وهو أننی لا استحسن حتی الثناء بالحق فلعله یخلق انطباعاً لدی السامع فیظن أنّه یحب هذا الکلام ویتصف بالکبر والفخر والعجب الذی یؤثر سلباً علی علاقة الإمام بالاُمّة.

ثم قال الإمام علیه السلام: «وَلَوْ کُنْتُ أُحِبُّ أَنْ یُقَالَ ذلِک لَتَرَکْتُهُ انْحِطَاطاً للّه سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْکِبْرِیَاءِ».

«وَرُبَّما اسْتَحْلَی النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلاَءِ، فَلاَ تُثْنُوا عَلَیَّ بِجَمِیلِ ثَنَاءٍ، لاِِخْرَاجِی نَفْسِی إِلَی اللّه سُبْحَانَهُ وَإِلَیْکُمْ مِنَ التَّقِیَّةِ فِی حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا، وَفَرَائِضَ لاَبُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا».

ورد فی النسخة الموجودة فی المتن المذکور «وَإِلَیْکُمْ مِنَ التَّقِیَّةِ» إشارة إلی تقوی الإمام علیه السلام وخشیته فی أداء حقوق الناس، بینما ورد فی بعض نسخ «نهج البلاغة» ومتن «الکافی» «بقیة» ومعنی ذلک، ما زالت لکم علیَّ بقیة حقوق لابدّ أن أجدّ فی أدائها، فقد أبان الإمام علیه السلام فی هذه العبارة غایة رفعته، حیث بیّن عدم إکتراثه بالمدح والثناء من جانب ومنتهی خضوعه للّه من جانب آخر وبالتالی اعترافه بعدم أداء الحقوق بصورة کاملة، الأمر الذی قلّما نجده فی زعیم طیلة التاریخ.

ص:197


1- (1) . «اسخف» من «السخف» علی وزن «قفل» و «سخافة» ضعف العقل والجهل.
2- (2) «إطراء» من «الطراوة» الجدید، وتعنی المدح والثناء من باب الإفعال.

تأمّلان

1. المدح والثناء

مدح الآخرین والثناء علیهم علی نوعین؛ نوع ایجابی وبنّاء وسبب حرکة الخدام ویأس الخونة ورقی المجتمع، والآخر مدعاة للخراب والتخلف وتقویة شوکة الظلمة، وللنوع الأوّل ثلاثة شروط: الأوّل، مدح من یستحق المدح، الثانی، عدم خروج المدح عن حده، والثالث، ألا یکون هدف المادح التقرب إلی الممدوح وتحقیق الاطماع.

قال النّبی صلی الله علیه و آله: «إِذا مُدِحَ الْفاجِرُ اهْتَزَّ الْعَرْشُ وَغَضِبَ الرَّبُّ»(1).

وورد فی حدیث آخر: «اَلثَّناءُ بِأَکْثَرَ مِنَ الاِْسْتِحْقاقِ مَلَقٌ وَالتَّقْصیرُ عَنِ الاِْسْتِحْقاقِ عَیٌّ أَوْ حَسَدٌ»(2).

ولا ینبغی الغفلة عن هذا الأمر فی ضرورة الأخذ بنظر الاعتبار قابلیة الممدوح؛ حذراً من أن یدعوه المدح للغرور ویحرفه عن الحق، کما ورد فی قصار کلمات الإمام علی علیه السلام: «رُبَّ مَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فیهِ»(3).

لا شک فی أّن کلّ هذه الأمور مع أخذها بنظر الاعتبار فإن المدح والثناء دلالة علی التقدیر ومعرفة الحق ومدعاة لتشجیع الأخیار والصالحین.

وتعقد الیوم العدید من التجمعات لتکریم المهرة من خدمة المجتمع والعلماء الأعلام وأصحاب الکفاءات العالیة وتقدّم لهم الجوائز تقدیراً لجهودهم مثلاً، للکتاب جراء أفضل کتاب للسنة والعمال والفلاحین النموذجیین ورسائل السلام والصداقة فی العالم وتکریمهم وتقدیرهم، والتی تلعب دوراً بناءاً إن لم تکتسب صبغة سیاسیة وتقدم الروابط علی الضوابط وحفظ الشرط الثالث المذکور فی حسن نیة المشرفین.

ص:198


1- (1) بحار الأنوار، ج 74، ص 152.
2- (2) نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 347.
3- (3) المصدر السابق، الکلمة 462.

إلّا أنّ النوع الثانی یناقضه تماماً؛ أی إذا مُدحَ الأشرار وغیر المستحقین وأثنی علیهم أکثر من الحد وکانت دوافع ذلک العوامل السیاسیة والحبّ والبغض الشخصی تشجّع الطالحون ویئسَ الفضلاء والخیرون، فینفرد المتملقون فی المیدان والمجتمع ویتقوقع الصادقون المخلصون.

قال علی علیه السلام: «إیّاک وَالْمَلَقُ فَإنَّ الْمَلَقَ لَیْسَ مِنْ خَلائِقِ الاِیمانِ»(1).

وقال النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «أُحْثُوا فی وُجُوهِ الْمُدّاحینَ التُّراب»(2).

والنقطة الأخیرة فی هذه الرسالة ونری من الضروری ذکرها أنّ للمدح أحیاناً جانباً إیجابیاً ویتصف بالشروط المذکورة، لکنه یخلق حالة شاذة لدی الرأی العام ویتهم الممدوح بحب المادح وهذا ما ینبغی أیضاً الابتعاد عنه، وأکثر ما ورد فی هذه الخطبة من هذا القبیل.

2. ألسنة التملق

التملق کما قیل، المدح والثناء الذی یتجاوز الحدود والکلام الجُزاف فی فضائل الأفراد للتقرب منهم والاستفادة من منافعهم المادیة، حتی ذکر الصفات الحقیقیة لشخص دون الإشارة إلی نقاط ضعفه یعدّ نوعاً من التملق، وأبعد من ذلک ما یفعله بعض المتملقین ممّن جعل نقاط الضعف کنقاط القوّة والتملق عادة لأرباب القدرة والجاه والذی یعتبر من أعظم المخاطر التی تهدد الولاة والحکام والمدراء، لأن أول شرائط الإدارة المعرفة بالحقائق المتعلقة بحیز الإدارة والمتملقون یغطون الحقائق ویخفونها عن انظار المدراء والمسؤولین فیخلق ما لا یحصی من المفاسد.

والعجیب أنّ الزعماء الضالین غیر المؤهلین غالباً ما یشجعون المتملقین ویمتعظون من قول الحق ویشعرون بالهدوء الکاذب من تملق المتملقین.

ص:199


1- (1) غرر الحکم، الحکمة 2696.
2- (2) من لایحضره الفقیه، ج 4، ص 11.

وقد عدّ الإمام علیه السلام التملق من أسوأ الأمراض أو مرض لا علاج له «أدوی الداء الصلف»(1) واحد معانی الصلف التملق والآخر مدح الذات.

وقال فی موضع آخر: «إنَّما یُحِبُّک مَنْ لا یَتَمَلَّقُک»(2).

وقال: «لَیْسَ الْمَلَقُ مِنْ خُلُقِ الأَنْبِیاءِ»(3).

ولا ینبغی أن ننسی أنّ التملق یتم تارة بصورة مباشرة وأخری غیر مباشرة أو عن طریق النثر أو الشعر أو العمل وکل آثاره السیئة متساویة.

***

ص:200


1- (1) عیون الحکم والمواعظ، ص 117.
2- (2) المصدر السابق، ص 177.
3- (3) المصدر السابق، ص 409.

القسم الخامس

اشارة

فَلاَ تُکَلِّمُونِی بِمَا تُکَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنِّی بِمَا یُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ، وَلاَ تُخَالِطُونِی بِالْمُصَانَعَةِ، وَلاَ تَظُنُّوا بِیَ اسْتِثْقَالاً فِی حَقٍّ قِیلَ لِی، وَلاَ الِْتمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِی، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ یُقَالَ لَهُ أَو الْعَدْلَ أَنْ یُعْرَضَ عَلَیْهِ، کَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَیْهِ. فَلاَ تَکُفُّوا عَنْ مَقَالَة بِحَقٍّ، أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ، فَإِنِّی لَسْتُ فی نَفْسِی بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِیءَ، وَلاَ آمَنُ ذلِک مِنْ فِعْلِی، إِلَّا أَنْ یَکْفِیَ اللّه مِنْ نَفْسِی مَا هُوَ أَمْلَکُ بِهِ مِنِّی، فَإِنَّما أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِیدٌ مَمْلُوکُونَ لِرَبٍّ لاَ رَبَّ غَیْرُهُ؛ یَمْلِک مِنّا مَا لاَ نَمْلِک مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا کُنَّا فِیهِ إِلَی مَا صَلَحَنَا عَلَیْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلاَلَةِ بِالْهُدَی، وَأَعْطَانَا الْبَصِیرَةَ بَعْدَ الْعَمَی.

الشرح والتفسیر: لا تتملقوا أمامی

جانب مهم من هذه الخطبة - کما أشرنا - فی بیان حقوق الوالی والرعیة وقد غیر الإمام علیه السلام مسار الخطبة بعد أن أثنی علیه أحد الحاضرین إلی جانب خاص من حقوق الوالی والرعیة وهو ترک المدح والثناء علی الولاة والحکّام.

ثم خاض هنا آخر الخطبة فی آفة أخری من آفات الحکّام والناس فی أنّ إرتباطهم ببعضهم علاقة تملّق وکتمان الحقائق المریرة لصعوبتها وترک النقد الصائب والبناء فقال: «فَلاَ تُکَلِّمُونِی بِمَا تُکَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنِّی بِمَا یُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ(1) ، وَلاَ تُخَالِطُونِی بِالْمُصَانَعَةِ».

ص:201


1- (1) «بادرة» من «البدور» علی وزن «غروب» تعنی فی الأصل المسارعة إلی القیام بعمل و «بادرة» الحرکات السریعة والخاطئة التی تصدر من الغاضب.

إشارة إلی أنّ العادیین من الأفراد حین یقفون بین یدی الجبابرة یخفون شخصیتهم الحقیقیة ویتحفظون عن کلّ نقد وشکوی واعتراض حذراً من أن یغضبوا علیهم، ویسعون بالعکس إلی الأمن من شرّهم بالمدح والثناء والتملق، ومن هنا فلا تتضح لهم قط الحوادث الحقیقیة فی المجتمع فیغطون فی وادی الضلالة والجهل.

یطمئن الإمام علیه السلام کلّ مخاطبیه بضرورة بثّ ما لدیهم من شکوی ومشکلة فهم أحرار فی ما یقولون بشأن الحکومة والمجتمع.

نعم فهذه إحدی الفوارق البارزة بین حکام العدل والجور، ورد فی «العقد الفرید»: وقام رجل إلی هارون الرشید، وهو یخطب بمکة، فقال: «کَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّه أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ»(1). فأمر به فضرب مائة سوط، فکان یئن اللیل کله ویقول:

الموت! الموت! فأخبر هارون أنّه رجل صالح، فأرسل إلیه واستحلّه فأحلّه(2).

وجاء فی نفس هذا الکتاب أیضاً: جلس الولید بن عبدالملک علی المنبر یوم الجمعة حتی اصفرت الشمس، فقام إلیه رجل فقال:...، إنّ الوقت لا ینتظرک، وإنّ الربّ لا یعذرک، قال: صدقت: ومن قال مثل مقالتک، فلا ینبغی له أن یقوم مثل مقامک، من هاهنا من أقرب الحرس یقوم إلیه فیضرب عنقه(3).

بینما رأینا مراراً فی سیرة أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّ عدداً من المنافقین تفوهوا بأسوأ الکلمات بحضرته کالأشعث بن قیس وبعض الخوارج، فلم یتعرّض لهم قط.

ثم قال مواصلاً ذلک الکلام: «وَلاَ تَظُنُّوا بِیَ اسْتِثْقَالاً فِی حَقٍّ قِیلَ لِی، وَلاَ الِْتمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِی، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ یُقَالَ لَهُ أَو الْعَدْلَ أَنْ یُعْرَضَ عَلَیْهِ، کَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَیْهِ».

إشارة إلی أنّ الذین لا یطیقون سماع الانتقاد أعجز عن ممارسة الإصلاح، ومن هنا یوغلون کلّ یوم فی مزید من الظلم والفساد، وشجع الإمام علیه السلام فی تأکید هذا

ص:202


1- (1) . سورة یوسف، الآیة 3.
2- (2) العقدالفرید، ج 1، ص 53، (طبق نقل شرح نهج البلاغة للمرحوم التستری، ج 6، ص 447 و 448).
3- (3) المصدر السابق.

الکلام جمیع مخاطبیه ببیان الحق صراحة وذکر المشاکل الفردیة والاجتماعیة والتأکید علی العدالة الاجتماعیة فقال: «فَلاَ تَکُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ، أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْل، فَإِنِّی لَسْتُ فی نَفْسِی بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِیءَ، وَلاَ آمَنُ ذلِک مِنْ فِعْلِی، إِلَّا أَنْ یَکْفِیَ اللّه مِنْ نَفْسِی مَا هُوَ أَمْلَکُ بِهِ مِنِّی».

الجملة «فَإِنِّی لَسْتُ فی نَفْسِی بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِیءَ» کانت مبرّراً لبعض مخالفی عصمة الأئمّة وأکثروا الضجیج بشأنها، بینما العبارة «إِلَّا أَنْ یَکْفِیَ اللّه مِنْ نَفْسِی» تفسرها بصراحة، فمفهوم العبارة الاُولی أنّی کإنسان لا آمن الخطأ، ومفهوم العبارة الثانیة لی وضع آخر فی ظل رعایة اللّه، شبیه ما أورده القرآن بشأن النّبی یوسف علیه السلام: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَن رَّأی بُرْهَانَ رَبِّهِ»(1).

إشارة إلی أنّ یوسف علیه السلام کإنسان یخشی علیه أن یتلوث بأهواء امرأة العزیز، إلّا أنّ مشاهدة برهان الربّ الذی یشیر إلی مقام وعصمة یوسف ومعرفته الرفیعه باللّه، حفظته من ذلک.

أضف إلی ذلک فإنّ الإمام علیه السلام فی مقام تربیة وتعلیم أصحابه فیرشدهم إلی احتمال الخطأ علی أنفسهم مهما کانوا؛ لکنّه یضع نفسه فی زمرتهم تواضعاً، علی کلّ حال لا ینبغی التذرع بهذه العبارة إزاء کلّ الأدلة علی عصمة النّبی والإمام.

قال النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «ما مِنْکُمْ مِنْ أَحَدٍ إلّاوَلَهُ شَیْطانٌ. قیل: ولا أنت یا رسول اللّه؟ قال: وَلا أَنَا إلّاأنَّ اللّه تَعالی أعانَنی عَلَیْهِ فَأسْلَمَ»(2).

والشاهد البلیغ الآخر علی ما قلنا ما أورده الإمام علیه السلام أواخر الخطبة 97: «وَإنّی لَعَلی بَیِّنَةٍ مِنْ رَبّی وَمِنْهاجٍ مِنْ نَبِیّی وَإنّی لَعَلَی الطَّریقِ الْواضِحِ ألْقُطُهُ لَقْطاً».

وعلی هذا الضوء فالإمام علیه السلام یؤید أنّه سائر علی الصواب دائماً بلطف اللّه ولا سبیل للخطأ إلیه.

ص:203


1- (1) سورة یوسف، الآیة 24.
2- (2) بحار الأنوار، ج 60، ص 329.

ثم قال فی إکمال وتأیید الکلام المذکور: «فَإِنَّما أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِیدٌ مَمْلُوکُونَ لِرَبٍّ لاَ رَبَّ غَیْرُهُ؛ یَمْلِک مِنَّا مَا لاَ نَمْلِکُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا کُنَّا فِیهِ إِلَی مَا صَلَحَنَا عَلَیْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلاَلَةِ بِالْهُدَی، وَأَعْطَانَا الْبَصِیرَةَ بَعْدَ الْعَمَی».

وکما ذکر فإنّ روایة فی «الکافی» حیث وردت هذه الخطبة أطول ممّا ورد فی «نهج البلاغة»، والسید الرضی اقتطف فی الواقع جوانب من الخطبة.

ونقرأ فی روایة «الکافی» قسماً آخر من هذه الخطبة:

«یقال: لم یر الرجل بعد کلامه هذا لأمیرالمؤمنین، فأجابه وقد عال الذی فی صدره فقال والبکاء یقطع منطقه وغصص الشجا تکسر صوته إعظاماً لخطر مرزئته ووحشة من کون فجیعته.

فحمد اللّه وأثنی علیه، ثم شکا إلیه هول ما أشفی علیه من الخطر العظیم والذل الطویل فی فساد زمانه وانقلاب جدّه وانقطاع ما کان من دولته ثم نصب المسألة إلی اللّه عزّ وجلّ بالامتنان علیه والمدافعة عنه بالتفجع وحسن الثناء، فقال: یا ربّانیّ العباد ویا سکن البلاد أین یقع قولنا من فضلک وأین یبلغ وصفنا من فعلک أنّی نبلغ حقیقة حسن ثنائک أو نحصی جمیل بلائک فکیف وبک جرت نعم اللّه علینا وعلی یدک اتّصلت أسباب الخیر إلینا، ألم نکن لذلّ الذلیل ملاذاً وللعصاة الکفّار إخواناً فبمن إلّابأهل بیتک وبک أخرجنا اللّه عزّ وجلّ من فظاعة تلک الخطرات، أو بمن فرج عنّا غمرات الکربات...»(1).

***

ص:204


1- (1) الکافی، ج 8، ص 358، ح 545. تتمة هذا البحث فی «الکافی» لطیفة للغایة فیمکن الرجوع إلی ماذکر. فقد اغضضنا المواصلة حتی لانخرج عن اسلوبنا فی الشرح.

الخطبة 217

اشارة

فِی التَّظَلُّمِ وَالتَّشَکّی مِنْ قُرَیْش (1)

نظرة إلی الخطبة

کما قیل فی سند الخطبة فإنّ هذه الخطبة والخطبة 172 والخطبة 26 تشترک مع بعضها فی أقسام مختلفة وتبدو أنّها رسالة کتبها الإمام علیه السلام أواخر حکومته فی الردّ علی طائفة من أصحابه، فقد أصرت طائفة علی الإمام أن یبیّن رأیه فی الأحداث التی أعقبت عصر النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وعصر الخلفاء.

فکتب الإمام علیه السلام بناءاً علی إصرارهم هذه الرسالة وأمر بقراءتها علی الناس حتی لا یتمکن المخالفون من تزییف الحقائق وتحریف التاریخ.

أشار الإمام علیه السلام إلی قضیتین أساسیتین فی هذه الخطبة:

ص:205


1- (1) سند الخطبة: ورد جانب من هذه الخطبة فی الخطبة 172 وجانب آخر فی الخطبة 26 وکما مضی فی سند الخطبة 172 یبدو أنّ هذه الخطبة جانب من رسالة کتبها الإمام أواخر خلافته وبین فیها باختصار الحوادث التی وقعت عقب وفاة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله حتی ذلک الزمان وأمر أن تقرأ علی الناس. وأضاف صاحب کتاب «مصادر نهج البلاغة» أنّ المرحوم الکلینی فی کتاب «کشف المحجّة» (ص 180) طبق نقل السیّد ابن طاووس فی کتاب الرسائل. ویحتمل أیضاً أنّ الإمام بین بعض هذه الخطبة فی مختلف المناسبات لأکثر من مرة. (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 132).

الأولی: إنّه شکا قریشاً للّه أنّهم اتحدوا علی هضمه حقّه وأنّهم قالوا له صراحة علیک أن تتنازل عن حقّک فی الخلافة!

الثانیة: إنّ الإمام علیه السلام شرح علّة عدم قیامه لأخذ حقّه لأنّه لم یجد أعواناً علی هذا الأمر وقد رأی الخطر محدقاً بأرواح أهل بیته.

***

ص:206

اَللهمَّ إنّی أَسْتَعْدِیک عَلَی قُرَیْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِی وَأَکْفَؤُوا إِنَائِی، وَأَجْمَعُوا عَلَی مُنَازَعَتِی حَقّاً کُنْتُ أَوْلَی بِهِ مِنْ غَیْرِی، وَقَالُوا:

أَلاَ إِنَّ فِی الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ، وَفِی الْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ، فَاصْبِرْ مَغْمُوماً، أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً. فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَیْسَ لِی رَافِدٌ، وَلاَ ذَابٌّ وَلاَ مُسَاعِدٌ، إِلَّا أَهْلَ بَیْتِی؛ فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنْ الْمَنِیَّةِ، فَأَغْضَیْتُ عَلَی الْقَذَی، وَجَرِعْتُ رِیقِی عَلَی الشَّجَا، وَصَبَرْتُ مِنْ کَظْمِ الْغَیْظِ عَلَی أَمَرَّ مِنَ الْعَلْقَمِ، وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ الشِّفَارِ.

قالَ الشَّریفُ رَضِیَ اللّه عَنْهُ: وَقَدْ مَضی هذا الْکَلامُ فی أثْناءِ خُطْبَة مُتَقَدِّمَة، إلّا أنّی ذَکَرْتُهُ هاهُنا لاِخْتِلافِ الرِّوایَتَیْن.

الشرح والتفسیر: تحمل الصعاب

استهل الإمام علیه السلام هذه الخطبة قائلاً: «اللهمَّ إنّی أَسْتَعْدِیک عَلَی قُرَیْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِی وَأَکْفَؤُوا(1) إِنَائِی، وَأَجْمَعُوا عَلَی مُنَازَعَتِی حَقّاً کُنْتُ أَوْلَی بِهِ مِنْ غَیْرِی».

بالرغم من أنّ الإمام علیه السلام قال هذا الکلام أواخر عهد خلافته، لکن هنالک خلاف عند شراح «نهج البلاغة» والمؤرخین بشأن الزمان، فهل المراد قضیة السقیفة والأحداث التی أعقبت وفاة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أم الشوری التی تألفت من ستة

ص:207


1- (1) . «اکفؤوا» من «الإکفاء» بمعنی قلب الإناء بحیث یسکب کلّ ما فیه، ومادته الأصلیة «کفء» علی وزن «دفع» بمعنی التولی.

أشخاص أم الزمان الذی نکث فیه العهد طلحة والزبیر واشعلا فتنة حرب الجمل؟

ویبدو الاحتمال الأوّل هو الأقوی من بینها ثم الثانی، بینما یستبعد الاحتمال الثالث فتمرد طلحة والزبیر لا یعدّ من اجتماع قریش علی الإمام.

العبارة «أسْتَعْدیک» من «الإستعداء» بمعنی الاستعانة أو الشکوی لأحد.

العبارة «إِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِی» ربّما تشیر إلی أنّ غاصبی الخلافة استندوا إلی القرابة من النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی حین کان الإمام أقرب إلیه من غیره.

العبارة «أَکْفَؤُوا إِنَائِی» یمکن أن تکون إشارة إلی أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله هو الذی ملأ هذا الإناء وسلّمه إلی الإمام وعرّفهم به أنّه الأولی بالخلافة من الجمیع کراراً؛ لکنهم قلبوا إناء ماء الحیاة رأساً علی عقب.

أمّا قوله إنّه أولی بهذا الحق منهم جمیعاً فهذا ممّا ثبت بالدلیل العقلی والنقلی لکل منصف؛ فلیس هنالک من یمتلک شجاعته أو ورعه وتقواه وزهده.

نقل ابن أبی الحدید فی شرح الخطبة 172 حین ذکر هذه العبارة، عبارات شبیهة أخری تدل جمیعاً علی أنّ علیّاً علیه السلام کان یری الخلافة حقهّ المسلّم وقد غصبه الآخرون، ثم قال: فسّرت الإمامیّة والزیدیّة هذه العبارات حسب ظاهرها ولم یروا غیر علی علیه السلام یلیق بها، وأضاف قائلاً: رغم أنّ هذا هو الظاهر الذی ذهبوا إلیه لکننا نعتبرها کالمتشابه من الآیات فلا نحملها علی ظاهرها(1).

هذا الکلام العجیب ناشیء عن نوع من التعصب والذهنیة المریضة ومعنی ذلک أننا لا نقبل سوی مانرغب فیه، یقول جزءاً من المتشابهات، فی حین یرد المتشابه عندما یکون هنالک إبهام وإجمال فی الکلام، لا مثل هذا الکلام الواضح الصریح.

ثم أشار الإمام علیه السلام إلی منطق مخالفیه العجیب: «وَقَالُوا: أَلاَ إِنَّ فِی الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ، وَفِی الْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ، فَاصْبِرْ مَغْمُوماً، أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً».

حقّاً هذا منطق رهیب أن یعترف الإنسان ببعض الأمور أنّها حق لکن لابدّ من

ص:208


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 9، ص 307.

التنازل عنها استجابة للقوّة والغطرسة فإمّا أن یصبر ویتحمل أو یموت کمداً من القهر، وهذا هو الشعار الذی یهتف به الاستکبار العالمی خفیة أو علانیة: «المُلْکُ لِمَنْ غَلَبَ» ولابدّ هنا من سؤال ابن أبی الحدید: هل هذه العبارة جزء من المتشابه وینبغی تأویلها وعدم حملها علی الظاهر؟!

ثم قال الإمام علیه السلام مواصلاً کلامه: «فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَیْسَ لِی رَافِدٌ(1) ، وَلاَ ذَابٌّ وَلاَ مُسَاعِدٌ، إِلاَّ أَهْلَ بَیْتِی؛ فَضَنَنْتُ(2) بِهِمْ عَنْ الْمَنِیَّةِ».

تشیر هذه العبارة إلی أنّ الناس انساقت للحکومة آنذاک فهذا طمعاً وذاک خوفاً وثالث حقداً وبغضاً ورثه من المعارک الإسلامیّة السابقة، وأخیراً الغفلة الجهالة، کان من الطبیعی أن یتعذر علی الإمام فی ظل تلک الشرائط أن ینهض لیشکل حکومة العدل الإسلامی وهی الامتداد لحکومة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله.

ومن هنا قال إثر ذلک: «فَأَغْضَیْتُ عَلَی الْقَذَی(3) ، وَجَرِعْتُ رِیقِی عَلَی الشَّجَا(4) ، وَصَبَرْتُ مِنْ کَظْمِ الْغَیْظِ عَلَی أَمَرَّ مِنَ الْعَلْقَمِ(5) ، وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ(6) الشِّفَارِ(7)».

إشارة إلی أنّه لا ینبغی قط أن یفسّر سکوتی علی تلک الاوضاع بالدلیل علی الرضی، بل إنی أتأوّه بشدّة من الانحرافات التی أعقبت وفاة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی الحکومة الإسلامیّة؛ لکن لم یکن أمامی سوی الصبر والسکوت.

وعقب اختتام الخطبة: «قالَ الشَّریفُ رَضِیَ اللّه عَنْهُ: وَقَدْ مَضی هذا الْکَلامُ فی أثْناءِ خُطْبَة مُتَقَدِّمَة، إلّاأنّی ذَکَرْتُهُ هاهُنا لاِخْتِلافِ الرِّوایَتَیْنِ».

ص:209


1- (1) . «رافد» من مادة «رفد» علی وزن «ربط» بمعنی المعونة والعطاء والمساعدة.
2- (2) «ضننت» من مادة «ضنّ» علی وزن «فنّ» تعنی فی الأصل البخل الشدید؛ لکنها هنا التحفظ الشدید عن الشیء المطلوب.
3- (3) . «قذی» هذه المفردة تقابل تماماً الصفاء والإخلاص ویطلق القذی علی الأشیاء الملوثة التی تقع فی الماءوالشوک الذی یدخل فی العین ویؤذیها.
4- (4) «شجی» من مادة «شجو» علی وزن «هجو» بمعنی الحزن والشدة کما یطلق علی ما یعترض حنجرة الإنسان.
5- (5) «علقم» نبتة مرّة للغایة ویطلق علیها أیضاً «حنظل» وتطلق هذ المفردة علی کلّ شیء مر.
6- (6) «وخز» بمعنی اللسع والثقب والأذی.
7- (7) «شفار» جمع «شفرة» علی وزن «دفعة» السکین.

ص:210

الخطبة 218

اشارة

فی ذِکْرِ السّائِرینَ إلَی الْبَصْرَةِ لِحَرْبِهِ علیه السلام (1)

نظرة إلی الخطبة

أشار الإمام علیه السلام فی هذه العبارات القصیرة إلی الجرائم المتعددة التی إرتکبها أصحاب الجمل الذین انطلقوا برفقة عائشة وطلحة والزبیر فی طریقهم إلی البصرة لیتمردوا علی الإمام علیه السلام، ویبثّوا التفرقة فی صفوف أهل البصرة الذین کانوا متحدین علی بیعة الإمام وطاعته، فقد نهب أصحاب الجمل بیت مال المسلمین ونحّوا خزانه وقتلوا طائفة من شیعة الإمام وفئة ممن قاومتهم وإرتکبوا بعض الجنایات التی لایأتیها من کان له أدنی حظ من الإیمان.

***

ص:211


1- (1) سند الخطبة: قال صاحب «مصادر نهج البلاغة»، مصادر هذا الکلام هی مصادر الکلام السابق، لأنّ کلاً منه فصل من رسالة کتبها الإمام علیه السلام وأمر بأن تقرأ علی الناس (لیقفوا علی ماحدث منذ وفاة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله حتی عصر خلافته). ثم قال: «لذلک ذکر هذا الکلام متصلاً بالکلام السابق فی بعض نسخ نهج البلاغة». (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 133).

ص:212

فَقَدِمُوا عَلَی عُمَّالی وَخُزَّانِ بَیتِ مالِ المُسِلِمِینَ الَّذِی فِی یَدَیَّ وَعَلَی أَهْلِ مِصْر، کُلُّهُمْ فِی طَاعَتِی وَعَلَی بَیْعَتِی؛ فَشَتَّتُوا کَلِمَتَهُمْ، وَأَفْسَدُوا عَلَیَّ جَمَاعَتَهُمْ، وَوَثَبُوا عَلَی شِیعَتِی، فَقَتَلُوا طَائِفَةً مِنْهُمْ غَدْراً؛ وَطَائِفَةٌ عَضُّوا عَلَی أَسْیَافِهِمْ، فَضَارَبُوا بِهَا حَتَّی لَقُوا اللّه صَادِقِینَ.

الشرح والتفسیر: جنایات أصحاب الجمل فی البصرة

کما ورد فی سند الخطبة فإنّ هذا الکلام فی الواقع جانب من رسالة طویلة کتبها الإمام علیه السلام لتسجل فی التاریخ وعدم نسیان الحوادث المریرة التی حدثت بعد النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله.

أشار الإمام علیه السلام فی هذا الکلام القصیر إلی الجنایات العظمی للناکثین الذین أثاروا فتنة حرب الجمل قال: «فَقَدِمُوا عَلَی عُمَّالِی وَخُزَّانِ مالِ بَیْتِ الْمُسْلِمِینَ الَّذِی فِی یَدَیَّ».

ثم أضاف قائلاً: «وَعَلَی أَهْلِ مِصْر، کُلُّهُمْ فِی طَاعَتِی وَعَلَی بَیْعَتِی؛ فَشَتَّتُوا کَلِمَتَهُمْ، وَأَفْسَدُوا عَلَیَّ جَمَاعَتَهُمْ».

وأشار إلی جریمتهم الکبری الثالثة وقال: «وَوَثَبُوا عَلَی شِیعَتِی، فَقَتَلُوا طَائِفَةً مِنْهُمْ غَدْراً؛ وَطَائِفَةٌ عَضُّوا(1) عَلَی أَسْیَافِهِمْ، فَضَارَبُوا بِهَا حَتَّی لَقُوا اللّه صَادِقِینَ».

ص:213


1- (1) «عَضّوا» من مادة «عضّ» علی وزن «سدّ» تعنی فی الأصل العض بالأسنان ثم استعملت لمن یتابع عمله بجد والعبارتان «عُضّوا علی أسیافهم» من هذا القبیل.

فقد أشار الإمام علیه السلام بهذه العبارة القصیرة إلی ثلاث من جرائمهم البشعة: نهب بیت المال، بث الفرقة والنفاق فی صفوف المسلمین وقتل عدد من الأبریاء من المسلمین الصالحین الصادقین.

ورد فی حوادث الجمل(1) ، عندما أقبلت عائشة - إلی البصرة - علی جَملِها فنادت بصوت مرتفع: أیّها الناس، أقلّوا الکلام واسکتوا، فأسکت الناس لها، فقالت: إنّ أمیرالمؤمنین عثمان قد کان غیّر وبدّل، ثم لم یزل یغسِل ذلک بالتوبة.. ألا إنّ عثمان قتل مظلوماً فاطلبوا قتلته، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم، ثم اجعلوا الأمر شوری بین الرهط الذین اختارهم أمیرالمؤمنین عمر بن الخطاب، ولا یدخل فیهم من شرک فی دم عثمان.

قال (الراوی): فماج الناس واختلطوا، فمن قائل: القول ما قالت، ومن قائل یقول:

وما هی وهذ الأمر، إنّما هی امرأة مأمورة بلزوم بیتها، وارتفعت الأصوات وکثر اللغط حتی تضاربوا بالنعال، وتراموا بالحصا.

ثمّ إن الناس تمایزوا وصاروا فریقین: فریق مع عثمان بن حنیف، وفریق مع عائشة وأصحابها(2).

هذا ما أشار إلیه الإمام علیه السلام بشأن بثّ النفاق والفرقة بین المسلمین الذین کانوا متّحدین من قبل الفئة الباغیة التی شقت عصا المسلمین وزرعت الفتنة بینهم إلی یوم القیامة.

***

ص:214


1- (1) . شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 9، ص 315.
2- (2) المصدر السابق.

الخطبة 219

اشارة

لَمّا مَرَّ بِطَلْحَةَ بْنِ عَبْدِاللّه وَعَبْدِالرَّحْمنِ بْنِ عَتّابِ بن أُسَیْد وَهُما قَتیلانِ یَوْمَ الْجَمَل(1)

نظرة إلی الخطبة

هذا الکلام القصیر الذی اقتطفه المرحوم السیّد الرضی من کلام طویل یبیّن فی الواقع ثلاث نقاط: إحداها، إعرابه عن أسفه علی قتل طلحة الذی ما کان ینبغی أن یسلک هذا الطریق الخاطئ وله تلک السوابق فی الإسلام فیقتل تلک القتلة الغریبة تحت السماء.

الأخری، أنّ أمراء معرکة الجمل الذین قتلوا خزّان بیت مال المسلمین فی البصرة وشیعة الإمام سینالون جزاءهم.

والثالثة، أنّ أولئک (وأمثالهم) لم یکونوا مؤهلین لما کان یدور فی أذهانهم.

***

ص:215


1- (1) سند الخطبة: رواها أبوالفرج الاصفهانی فی «الأغانی» والمبرّد فی «الکامل» وابن عبد ربّه فی «العقد الفرید» وابن الأثیر فی «النهایة». (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 135).

ص:216

لَقَدْ أَصْبَحَ أَبُو مُحَمَّدٍ بِهذَا الْمَکَانِ غَرِیباً! أَمَا وَاللّه لَقَدْ کُنْتُ أَکْرَهُ أَنْ تَکُونَ قُرَیْشٌ قَتْلَی تَحْتَ بُطُونِ الْکَوَاکِبِ! أَدْرَکْتُ وَتْرِی مِنْ بَنِی عَبْدِ مَنَاف، وَأَفْلَتَتْنِی أَعْیَانُ بَنِی جُمَحَ، لَقَدْ أَتْلَعُوا أَعْنَاقَهُمْ إِلَی أَمْرٍ لَمْ یَکُونُوا أَهْلَهُ فَوُقِصُوا دُونَهُ!

الشرح والتفسیر: المشهد المروع بعد الجمل

کما قیل، فإنّ الإمام علیه السلام قال هذا الکلام لما مرّ بعد حرب الجمل بجسد طلحة بن عبداللّه وعبدالرحمن بن عتّاب اللذین صرعا غریبین علی التراب.

وطلحة بن عبداللّه هو صاحب النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله المعروف الذی بایع الإمام بعد مقتل عثمان ولکن حین لم تتحقق آماله فی الوصول إلی حکومة بعض الولایات الإسلامیّة، رفع لواء المعارضة واتحد مع الزبیر وعائشة واشعل فتیل حرب الجمل واکتوی بنارها.

ولم یکن عبدالرحمن بن عتّاب من الصحابة؛ ولکنه یعتبر من التابعین، وکان أبوه عتاب ممن أسلم فی فتح مکة وولّاه النّبی صلی الله علیه و آله إمرة مکة، وکان لوالده آنذاک اثنتان وعشرون سنة وقال له النّبی لو کان هنالک من هو أفضل منک لذلک الأمر لولّیته، واستمر ذلک حتی عهد أبی بکر وتوفی مع أبی بکر فی نفس الیوم، لکن للأسف فإنّ ابنه عبدالرحمن انحرف عن الجادة وأصبح العوبة بید طلحة والزبیر ووسیلة لتحقیق أطماعهما حتی قتل فی حرب الجمل فکان جسده فی العراء قرب جسد طلحة.

ص:217

قیل: لما قتل عبدالرحمن بن عتّاب فی الجمل حمل یده المقطوعة عقاباً وألقی بها فی الیمامة وتعرّف الناس علی خبره من خاتمه الذی خط علیه اسمه.

علی کلّ حال، أعرب الإمام علیه السلام فی بدایة الخطبة عن اسفه لقتل طلحة فقال:

«لَقَدْ أَصْبَحَ أَبُو مُحَمَّدٍ بِهذَا الْمَکَانِ غَرِیباً!».

التعبیر (أبو محمد) دلالة علی نوع من الاحترام والأسف علی غربته لسوابق طلحة الحسنة فی الإسلام، حیث کان ممّن صحب النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله ومن الأشداء فی الذبّ عن بیضة الإسلام؛ ولکن للاسف فإنّ حبّ الجاه والمقام والحسد دفعه لشن حرب دمویة ضد خلیفة المسلمین الذی نصب من جانب اللّه والمبایع من قبل الاُمّة والتی خلفت أکثر من سبعین ألف قتیل.

ثم قال الإمام علیه السلام: «أَمَا وَاللّه لَقَدْ کُنْتُ أَکْرَهُ أَنْ تَکُونَ قُرَیْشٌ قَتْلَی تَحْتَ بُطُونِ الْکَوَاکِبِ!».

صحیح أنّ طلحة والزبیر وأمثالهما یستحقون ذلک العقاب، لکن الإمام علیه السلام أعرب عن امتعاظه بکلّ حبّ ورأفة وعاطفته الخاصّة بالنظر لسوابقه فی الإسلام لیته لم یقتل فی هذا الطریق وتکون هذه العاقبة، فجمیع الأنبیاء والأوصیاء وأولیاء اللّه یرجحون کفّ الخاطئین وحتی المجرمین الطغاة عن مسیرتهم والالتحاق بصفوف المؤمنین والصالحین.

ثم قال علیه السلام: «أَدْرَکْتُ وَتْرِی(1) مِنْ بَنِی عَبْدِ مَنَاف، وَأَفْلَتَتْنِی(2) أَعْیَانُ بَنِی جُمَحَ».

هنالک خلاف بین الشرّاح بشأن المراد من «بنی عبد مناف» من هم؛ قال البعض:

إنّ المراد بهم طلحة والزبیر وعبدالرحمن الذین أشیر إلیهما آنفاً.

وأشکل ابن أبی الحدید علی أنّ طلحة والزبیر لم یکونا من بنی عبدمناف، واُجیب أنّهما یتصلان بعبد مناف من جانب الاُم وإن لم یتصلا به من طرف الأب.

ص:218


1- (1) «وَتْر» علی وزن «سطر» و «وِتْر» علی وزن «فطر» بمعنی الجنایة أو الأذی ویطلق علی القصاص ووردت بهذا المعنی فی العبارة المذکورة.
2- (2) «أفلتتنی» من «الإفلات» وردت بمعنی الخلاص والهروب وهی هنا الهروب.

واعترض المرحوم العلّامة التستری فی شرحه لنهج البلاغة علی هذا الکلام من جهتین: الاُولی أنّ الانتساب إلی القبائل فی عرف العرب عن طریق الأب؛ ولیس الاُم، والأخری أنّ ام الزبیر وإن انتهی نسبها لعبد مناف کونها بنت عبدالمطلب إلّاأنّ ام طلحة کانت من الیمن. ولم یذکر العلّامه التستری بعد هذین الاعتراضین، من الأفراد المرادون ببنی عبد مناف.

وربّما کان فی أهل الجمل غیر عبد الرحمن، بنو عبد مناف الذین إرتکبوا بعض الجرائم وقتلوا هناک؛ إلّاأنّ أسماءهم لم ترد فی التاریخ لعدم شهرتهم.

فبنو جمح طائفة من قریش کانت فی معسکر أهل الجمل؛ ولما رأوا المعرکة لیست لصالحهم فروا ولم یقتل منهم سوی اثنان.

واختتم علیه السلام هذا الکلام قائلاً: «لَقَدْ أَتْلَعُوا(1) أَعْنَاقَهُمْ إِلَی أَمْرٍ لَمْ یَکُونُوا أَهْلَهُ فَوُقِصُوا(2) دُونَهُ!».

هذا الکلام إشارة إلی طلحة والزبیر وأمثالهما الذین یفتقرون لأهلیة الخلافة بوجود الإمام علیه السلام بل لیس لهم أهلیتها حتی مع عدم وجود الإمام علیه السلام، فحبّ الجاه والتعلق بالدنیا یحول دون أهلیة زعامة الاُمّة الإسلامیّة.

تأمّلان

1. حبّ دنیا وعواقبه المشؤمة

کان طلحة والزبیر من السابقین إلی الإسلام الذین قاتلوا ببسالة دفاعاً عن النّبی والإسلام، کما کانت لهما مکانتهما الممیزة بعد النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله إلی درجة أنّ عمر لم یتمکن من تجاوزهما فی الشوری التی شکّلها لانتخاب الخلیفة من بعده؛ لکن حبّ الجاه والمقام والتعلق بالدنیا أخرجهما عن طریق الحق فغیرا مسارهما والتحقا

ص:219


1- (1) . «أتلعوا» من «الإتلاع» بمعنی مد العنق من مادة «تلع» علی وزن «طرب» بمعنی رفع العنق.
2- (2) «وقصوا» من «الوقص» علی وزن «نقص» بمعنی الکسر.

بصفوف المنافقین.

فمن جانب غارا علی بیت مال المسلمین فی البصرة وقتلا خزان بیت المال واستغلاه لإثارة معرکة الجمل.

ومن جانب، آخر أجّجا نیران فتنة الجمل التی راح ضحیتها مئات الآلاف من المسلمین وأسسا للحروب الأهلیة.

ومن جانب ثالث، أخرجا زوج النّبی صلی الله علیه و آله من بیتها وجعلوها مطیة لأهوائهم السیاسیة فانتهکا من خلال ذلک حرمة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله.

ومن جانب رابع، کلاهما قتل فی تلک المعرکة ولم یحققا اطماعهما الشخصیة، وبالطبع سیذوقا وبال أمرهما یوم القیامة بما سوّدا به صحیفة أعمالهما.

هذه کلّها نتائج حبّ الجاه وحبّ الدنیا، الأمر الذی عدّه جمیع الأنبیاء والأولیاء مصدر جمیع الذنوب فقد قال الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله: «حُبُّ الدُّنْیا رَأْسُ کُلِّ خَطیئَة»(1).

وقد بیّن الإمام علیه السلام هذه الحقیقة بوضوح بعبارات موجزة عقب الجمل طبق روایة المرحوم الشیخ المفید، قال ابن أبی الحدید فی شرحه لنهج البلاغة فی قضیة معرکة الجمل: «مرّ الإمام علیه السلام بعد الجمل بطلحة قتیلاً فقال: أجلسوه، فأجلسوه، فقال: «لَقَدْ کانَ لَک قَدَمٌ لَوْ نَفَعَک وَلکِنَّ الشَّیْطانَ أَضَلَّک فَأَزَّلَک فَعَجَّلَک إلَی النّارِ»(2).

2. الکفاءة الشرط الاوّل لکل عمل

صرّح الإمام علیه السلام مختتماً خطبته المذکورة بأنّ طائفة اشرأبّت أعناقها لنیل الحکومة الإسلامیّة؛ وحیث لم تکن جدیرة بها فقد کسرت رقبتها، إشارة إلی أنّ کلّ عمل ومشروع یتطلب کفاءة معینة ولا یکفی مجرّد الرغبة بالشیء بغیة الوصول إلیه

ص:220


1- (1) روی المرحوم الکلینی فی کتاب «الکافی» حدیثاً مشهوراً قی شعب الذنوب ودوافعها عن الإمام زین العابدین علیه السلام جاء فی آخره: «فَقالَ الأَنْبِیاءُ وَالْعُلَماءُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ ذلِک: حُبُّ الدُّنْیا رَأسُ کُلِّ خَطیئَة». (الکافی، ج 2، ص 131، ح 11، باب ذنب حبّ الدنیا).
2- (2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 1، ص 247.

ولا یمکن شغل مواقع العظماء بالمجان إلّاأنّ یعدّ الإنسان الأسباب العظیمة.

صحیح أنّ البعض استند إلی تلک المواقع دون إعداد تلک الأسباب؛ ولکنهم واجهوا الهزیمة والخسران فی خاتمة المطاف إثر سوء إدارتهم.

***

ص:221

ص:222

الخطبة 220

اشارة

فی وَصْفِ السّالِک الطَّریقَ إلَی اللّه سُبْحانَهُ (1)

نظرة إلی الخطبة

کما یتّضح من عنوان الخطبة خاض الإمام علیه السلام فی هذا الکلام الموجز البلیغ، فی التعریف بالسالک إلی اللّه والسائر علی الطریق وعدّ سبب موفقیته إلی إحیاء العقل وإماتة أهواء النفس وصرح أنّ بارقة من نور ألطاف الحق تقتدح فی قلبه فی ظلّ هذا العمل؛ الذی یضییء المسیر ویوصله إلی مقام النفس المطمئنة ورضی اللّه.

***

ص:223


1- (1) سند الخطبة: نقل صاحب «مصادر نهج البلاغة» هذا الکلام عن «غرر الحکم» للآمدی باختلاف کبیر یدل علی أنّه رآها فی مصدر آخر غیر «نهج البلاغة». (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 136).

ص:224

قَدْ أَحْیَا عَقْلَهُ، وَأَمَاتَ نَفْسَهُ، حَتَّی دَقَّ جَلِیلُهُ، وَلَطُفَ غَلِیظُهُ، وَبَرَقَ لَهُ لاَمِعٌ کَثِیرُ الْبَرْقِ، فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِیقَ، وَسَلَک بِهِ السَّبِیلَ، وَتَدَافَعَتْهُ الأَبْوَابُ إِلَی بَابِ السَّلاَمَةِ، وَدَارِ الاِْقَامَةِ، وَثَبَتَتْ رِجْلاَهُ بِطُمَأْنِینَةِ بَدَنِهِ فِی قَرَارِ الأَمْنِ وَالرَّاحَةِ، بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ، وَأَرْضَی رَبَّهُ.

الشرح والتفسیر: سالک طریق الحق

طرح الإمام علیه السلام فی هذا الکلام العمیق المعنی، دورة عرفانیة إسلامیة من خلال عبارات موجزة واستعرض شرائط السیر والسلوک إلی اللّه ونتائجه ومقاماته فقال:

«قَدْ أَحْیَا عَقْلَهُ، وَأَمَاتَ نَفْسَهُ، حَتَّی دَقَّ جَلِیلُهُ(1) ، وَلَطُفَ غَلِیظُهُ(2)».

إحیاء العقل إشارة إلی الانفتاح علی الأدلة العقلیة لتکامل الإیمان والحسن والقبح العقلیین لتکامل الفضایل الأخلاقیّة، وهکذا فإنّ مفردة العقل هنا تشمل العقل النظری والعقل العملی.

أمّا النفس فلا تعنی القضاء علی الغرائز النفسانیّة، بل المراد تهذیبها بحیث لا یسعها القذف بالإنسان فی مصائد الشیطان وتصده عن سبیل اللّه.

المفردة «جَلیل» فی العبارة «دَقَّ جَلیلُهُ» إشارة إلی الأبدان السمینة والتی أصبحت بهذه الصورة إثر کثرة الأکل والافراط فی أکل الأطعمة الدسمة، ویخفف

ص:225


1- (1) «الجلیل» بمعنی الکبیر أو القیم من «الجلال» بمعنی العظمة وهوهنا إشارة إلی الجسم الإنسانی القیم.
2- (2) «غلیظ» تعنی فی الأصل الخشن وتعنی هنا الغلظة الأخلاقیّة التی تزول فی ظل الریاضة النفسیّة وتتحول إلی لطافة خلقیة.

الوزن بترک الشهوات.

والمفردة «غَلیظ» فی «لَطُفَ غَلیظُهُ» إشارة إلی أنّ الخلق الخشن والرذائل الأخلاقیّة تتلطف فی ظل الریاضة النفسانیّة.

ثم اتجه الإمام علیه السلام صوب آثار هذه الحرکة العقلانیّة والریاضة الشرعیّة لیعدّ ثمارها الطیبة فی ثلاث فقال: «وَبَرَقَ لَهُ لاَمِعٌ کَثِیرُ الْبَرْقِ، فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِیقَ، وَسَلَک بِهِ السَّبِیلَ».

وهذا هو نور المعرفة والمعنویّات التی تتجلی للإنسان إثر الریاضات العقلانیّة والنفسانیّة وتضیئ له الطریق کما یقول القرآن المجید: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ یُؤْتِکُمْ کِفْلَیْنِ مِنْ رَّحْمَتِهِ وَیَجْعَلْ لَّکُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ»(1).

فقد شبّه السائرین علی الدرب بالسالکین لطریق صحراوی مظلم؛ ولکنهم یشملون بالعنایات الربّانیة، یبرق لهم بریق من السماء فینیر لهم الطریق لیبلج لهم عمق الصحراء. صرّح بعض العارفین المسلمین بثلاث مراحل لأنوار الهدایة الربّانیة التی تحصل إثر الریاضات النفسانیّة، المرحلة الاُولی التی تسمی «اللوائح»؛ وهو نور یشرق فی باطنهم؛ ولکنه لا یدوم طویلاً. المرحلة الثانیة، التی تسمی «اللوامع» التی لا تزول بسرعة؛ ولکنها تنطفئ بالتالی، والمرحلة الثالثة، «الطوالع» التی تدوم مدّة مدیدة وتصون السالک إلی اللّه من الانحراف.

وقال فی القسم الثانی من تلک الآثار: «وَتَدَافَعَتْهُ(2) الأَبْوَابُ إِلَی بَابِ السَّلاَمَةِ، وَدَارِ الاِْقَامَةِ».

علی غرار ما ورد فی القرآن الکریم: «لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِیُّهُمْ بِمَا کَانُوا یَعْمَلُونَ»(3).

ص:226


1- (1) سورة الحدید، الآیة 28.
2- (2) . «تدافعت» من «التدافع» بمعنی الدفع والطرد وتعنی أحیاناً التماس البدنی والمعنی الأوّل هو المراد هنا من مادة «دفع» علی وزن «فخر» بمعنی الدفع.
3- (3) سورة الأنعام، الآیة 127.

وقال علی لسان أهل الجنّة: «إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَکُورٌ * الَّذِی أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ یَمَسُّنَا فِیهَا نَصَبٌ وَلاَ یَمَسُّنَا فِیهَا لُغُوبٌ»(1).

ثم قال فی القسم الثالث من تلک الآثار: «وَثَبَتَتْ رِجْلاَهُ بِطُمَأْنِینَةِ بَدَنِهِ فِی قَرَارِ الأَمْنِ وَالرَّاحَةِ».

وکأنّه ماورد فی القرآن: «یَا أَیَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِی إِلَی رَبِّک رَاضِیَةً مَّرْضِیَّةً * فَادْخُلِی فِی عِبَادِی * وَادْخُلِی جَنَّتِی»(2).

نعم! الإنسان فی مسیر القرب إلی اللّه فی کلّ زمان یکون عرضة لوساوس شیاطین الجنّ والإنس ویهزّه خوف الضلال حتی یبلغ ما یزیل عن سماء روحه غیوم وساوس النفس والشیطان، ویقدح فی کیانه بریق معرفة اللّه فیعیش السکینة التامة ویستحق الخطاب «فَادْخُلِی فِی عِبَادِی * وَادْخُلِی جَنَّتِی».

ثم اختتم هذا الکلام بالتأکید علی هذه الحقیقة: «بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ، وَأَرْضَی رَبَّهُ».

نعم! وهذا ما اشیر له فی الآیات المذکورة: «ارْجِعِی إِلَی رَبِّک رَاضِیَةً مَّرْضِیَّةً».

تأمّل: مقامات السیر والسلوک

إنّ رواج التعبیر بالسیر والسلوک فی تعبیرات أهل العرفان فی عصرنا والعصر القریب منه مقتبس فی الواقع من القرآن حین قال: «یَا أَیُّهَا الاِْنسَانُ إِنَّک کَادِحٌ إِلَی رَبِّک کَدْحاً فَمُلاَقِیهِ»(3).

وآیات التوبة مثل: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَی اللّه تَوْبَةً نَّصُوحاً»(4). (بالنظر إلی

ص:227


1- (1) سورة فاطر، الآیتان 34 و 35.
2- (2) سورة الفجر، الآیات 27-30.
3- (3) سورة الانشقاق، الآیة 6.
4- (4) . سورة التحریم، الآیة 8.

أنّ التوبة فی الأصل تعنی العودة). والآیة الشریفة «إِنَّا للّه وَإِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ»(1).

الواقع أنّ روح الإنسان کالغواص الذی وطئ عالم المادة واقترن بالجسم المادّی لیغوص فی أعماق بحار هذا العالم ویحمل معه الجواهر النفیسة هناک ویخرجها معه.

ویربط الغواصون أحیاناً جسماً ثقیلاً بأرجلهم لیبلغ بهم أعماق البحارفان أتمّوا بحثهم طرحوا ذلک الجسم الثقیل ثم یعودون إلی سطح الماء، والسعید من یعلم این هذه الجواهر النفیسة.

الهدف من هذا السیر والسلوک إلی اللّه الذی یشرع بالتربیة وتهذیب النفس والتوبة والإنابة والریاضات الشرعیّة، هو العبور من النفس الأمّارة بالسوء إلی النفس اللوامة ومن هناک إلی النفس المطمئنة والوصول إلی رفعة مقام راضیة مرضیة. العبور الذی ینتهی بالتالی بالمکاشفات وإزالة الحجب عن عین الإنسان، حیث قال النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله لذلک الشاب السعید الذی رآه مواقیت الفجر فی صلوات الجماعة وبدت علیه آثار قیام اللیل: «هذا عَبْدٌ نَوَّرَ اللّه قَلْبَهُ بِالْاِیمانِ»(2).

هناک مقامات ومراحل متفاوتة لهذا السیر والسلوک یراها العرفاء والسالکون ویعتقد البعض بأنّهم اقتبسوها من الآیات القرآنیة وروایات المعصومین علیهم السلام.

فقد أوجز بعضهم النظام الیومی للسالکین إلی اللّه فی أربعة أمور: المشارطة، المراقبة، المحاسبة والمعاقبة أو المؤاخذة.

وعلی هذا الضوء یشترط السالک علی نفسه فی الصباح أن لا یتقدم خطوة فی غیر رضی اللّه؛ ثم یراقب أعماله طیلة النهار ویفرغ لیلاً للحساب فإن بدر منه خلاف عاقب نفسه بحرمانها من اللذائذ وماترغب فیه.

وورد اثنا عشر منزلاً ومقاماً لهذا النظام فی رسالة السیر والسلوک للفقیه الکبیر

ص:228


1- (1) سورة البقرة، الآیة 156.
2- (2) الکافی، ج 2، ص 53، ح 2.

المرحوم العلّامة بحر العلوم، ثم یرد الإنسان بعد طیها عالم الإخلاص ومصداقه «بَلْ أَحْیَآءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ»(1).

وقد ذکرت فی هذه الرسالة الآداب الخمسة والعشرون لبلوغ هذا المقام(2).

المؤسف أنّ هذه المسألة استغلت کثیراً لاسیما فی عصرنا وقد تشبث بها الصوفیون أساس الانحرافات فی العقیدة والعمل لیجعلوه شماعة ویتصورون أنّهم سالکون إلی اللّه، بینما هم غالباً مصداق «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُکُمْ بِالاَْخْسَرِینَ أَعْمَالاً * الَّذِینَ ضَلَّ سَعْیُهُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَهُمْ یَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعاً»(3) ولکن هنالک بعض الأفراد الذین یتحرکون علی هدی الکتاب والسنّة ولا یحیدون عن مسیر القرآن وقول المعصومین وهؤلاء هم السائرون والسالکون الحقیقیون.

وقد اعتبر أمیرالمؤمنین علی علیه السلام إمام العارفین فی کلامه الموجز کما بیناه أنّ أساس سلوک طریق الحق هو إحیاء العقل وإماتة النفس وإصلاح الأخلاق، وبیّن الثمرات الثلاث المهمّة لهذا السلوک بصیغة غایة فی الروعة والجمال والبلاغة.

***

ص:229


1- (1) سورة آل عمران، الآیة 169.
2- (2) راجع خلاصة هذه الرسالة وسائر المناهج التی اعتمدها بعض کبار عارفی عصرنا فی کتاب الأخلاق فی القرآن، ج 1، ص 133.
3- (3) . سورة الکهف، الآیتان 103 و 104.

ص:230

الخطبة 221

اشارة

قالَ بَعْدَ تِلاوَتِهِ: «أَلْهَاکُمُ التَّکَاثُرُ * حَتَّی زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ» (1)

نظرة إلی الخطبة

یمکن تقسیم هذه الخطبة إلی أربعة أقسام وإن کانت واردة فی تفسیر قوله تعالی: «أَلْهَاکُمْ التَّکَاثُرُ * حَتَّی زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ»(2).

الحدیث فی القسم الأوّل عن جهل المتبقین، بمصیرهم کیف لا یتعظون بمن یتوسدون التراب وبیّن فی القسم الثانی، کیفیة أحوال الماضین وکیف رقدوا تحت التراب وتوسدوا القبور الباردة المظلمة، لا یخبر بهم أحد، خلت بیوتهم ونسیت حیاتهم.

القسم الثالث، کأن الإمام یحدثهم ویردون علیه بلسان الحال بما یهز ویوقظ.

ص:231


1- (1) سند الخطبة: أورد هذا الکلام علی بن محمد شاکر اللیثی فی کتاب «عیون الحکم والمواعظ» الذی ألفه سنة 453 للهجرة وکان متأخراً عن السیّد الرضی؛ ولکن الاختلافات والتعبیرات فی عدّة عبارات من الخطبة تشیر إلی أنّها اقتبست من مصدر آخر غیر «نهج البلاغة». کما فسّر ابن الأثیر مفرداتها الصعبة فی کتابه «النهایة» (واحتمالاً کان لدیه مصدر آخر غیر «نهج البلاغة»). (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 145 بتلخیص طفیف).
2- (2) سورة التکاثر، الآیتان 1 و 2.

وتحدث الإمام علیه السلام فی القسم الرابع عن أواخر أیّام العمر کیف ییأس الأطباء عن العلاج ولا ینفع الدواء ویقترب الإنسان کلّ آن من نهایته ویبتعد عن أهله وقرابته ویتوقف لسانه ویفقد سمعه ویستحوذ الموت علی کیانه، والتمعن فی هذه الخطبة یؤثر فی الإنسان ویوقظه مهما کان قاسی القلب.

***

ص:232

القسم الأوّل

اشارة

یَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ! وَزَوْراً مَا أَغْفَلَهُ! وَخَطَراً مَا أَفْظَعَهُ! لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَیَّ مُدَّکِر، وَتَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَکَان بَعِید! أَفَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ یَفْخَرُونَ! أَمْ بِعَدِیدِ الْهَلْکَی یَتَکَاثَرُونَ! یَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ، وَحَرَکَاتٍ سَکَنَتْ وَلاََنْ یَکُونُوا عِبَراً، أَحَقُّ مِنْ أَنْ یَکُونُوا مُفْتَخَراً؛ وَلاََنْ یَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ، أَحْجَی مِنْ أَنْ یَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ! لَقَدْ نَظَرُوا إِلَیْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ، وَضَرَبُوا مِنْهُمْ فِی غَمْرَةِ جَهَالَةٍ، وَلَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْک الدِّیَارِ الْخَاوِیَةِ، وَالرُّبُوعِ الْخَالِیَةِ، لَقَالَتْ: ذَهَبُوا فِی الأَرْضِ ضُلاَّلاً، وَذَهَبْتُمْ فِی أَعْقَابِهِمْ جُهَّالاً، تَطَؤُونَ فِی هَامِهِمْ، وَتَسْتَنْبِتُونَ فِی أَجْسَادِهِمْ، وَتَرْتَعُونَ فِیمَا لَفَظُوا، وَتَسْکُنُونَ فِیمَا خَرَّبُوا؛ وَإِنَّمَا الأَیَّامُ بَیْنَکُمْ وَبَیْنَهُمْ بَوَاکٍ وَنَوَائِحُ عَلَیْکُمْ.

الشرح والتفسیر: التفاخر الفارغ بدل الاعتبار!

کما مضی فإنّ هذه الخطبة إحدی خطب أمیرالمؤمنین علی علیه السلام الجامعة الشاملة والمؤثرة.

وقد أشاد ابن أبی الحدید إشادة عجیبة بهذه الخطبة وعدّها فریدة من حیث الفصاحة والبلاغة وقال: ومن تأمّل هذا الفصل علم صدق معاویة فی علی علیه السلام:

«وَاللّه ما سَنَّ الْفَصاحَةَ لِقُریشٍ غَیْرُه».

ثم قال: وینبغی لو اجتمع فصحاء العرب فی مجلس وتلی علیهم، أن یسجدوا له

ص:233

کما سجد الشعراء فی مواضع الشعر.

وأضاف: وإنّی لاُطیل التعجب من رجل یخطب فی الحرب بکلام یدل علی أنّ طبعه مناسب لطباع الاُسود، ثمّ یخطب فی ذلک الموقف بعینه إذا أراد الموعظة بکلام یدل علی أنّ طبعه مشاکِل لطباع الرهبان لابسی المسوح الذین لم یأکلوا لحماً ولم یریقوا دماً فیکون کالمسیح فی زهده. وأقسم لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسین سنة وإلی الآن أکثر من ألف مرّة ما قرأتها قط إلّاوأحدثت عندی روعة وخوفاً وعظة وأثرت فی قلبی وجیباً وفی أعضائی رعدة وکم قال الواعظون والخطباء فی هذا المعنی وکم وقفت علی ما قالوه وتکرر وقوفی علیه فلم أجد لشیء منه مثل تأثیر هذا الکلام(1).

واستناداً لما قیل یجدر بنا أن نتوقف عند شرحنا لهذه الخطبة علی عمق کلام الإمام علیه السلام فنستفید منها بما فیه الکفایة ونلمس آثارها فی أنفسنا وأرواحنا.

وکما ورد فی عنوان الخطبة فإنّ هذا الکلام فی الواقع تفسیر لأول آیتین من سورة التکاثر «أَلْهَاکُمُ التَّکَاثُرُ * حَتَّی زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ».

ونلقی بادئ الأمر نظرة إجمالیة علی تفسیر الآیتین:

ذکر المفسّرون المعروفون تفسیرین لهما:

الف) المراد أنّ تکاثرکم أنساکم اللّه والقیامة حتی خرجتم من الدنیا وحللتم القبور.

ب) المراد أنّ تکاثرکم وتفاخرکم أنساکم اللّه والقیامة حتی زرتم المقابر لإثبات أفضلیتکم فعددتم قبور موتاکم فخراً علی من سواکم.

طبعاً الأصح التفسیر الثانی، لأنّه: أوّلا زیارة القبور مستبعدة جدّاً بمعنی الدفن فی القبور وثانیاً، لو کان التفسیر الأوّل صحیح فلابدّ من القول: «تزوروا القبور» أی یکون الفعل بصیغة المضارع لا الماضی، لأنّ المخاطبین أحیاء.

ص:234


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 11، ص 152 فصاعداً (بتلخیص).

یدور کلام الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة حول المحور الثانی وهذا دلیل واضح علی ترجیح هذا التفسیر.

فقال الإمام علیه السلام: «یَا لَهُ مَرَاماً(1) مَا أَبْعَدَهُ! وَزَوْراً(2) مَا أَغْفَلَهُ! وَخَطَراً(3) مَا أَفْظَعَهُ!(4)».

نعم، فالعظام البالیة تحت التراب والأجساد المتفسخة لیس فیها مایدعو للفخر، فما أحراهم بالاعتبار بدل هذا الافتخار وهم یرون بأم أعینهم أنّهم سیحملون لیوسدوا هذا التراب وینقطعوا عن الأهل والقرابة فیفیقون من هذا السبات العمیق والنوم الوبیل. ومن هنا قال الإمام علیه السلام مواصلاً کلامه: «لَقَدِ اسْتَخْلَوْا(5) مِنْهُمْ أَیَّ مُدَّکِر، وَتَنَاوَشُوهُمْ(6) مِنْ مَکَان بَعِید!».

فسّر بعض الشرّاح العبارة «لَقَدِ اسْتَخْلَوْا»: «أنّهم سیذکروا من مات منذ مدّة وأصبح تراباً ففی التفسیر الأوّل «استَخْلَوْا» وجدوهم خالین وفی التفسیر الثانی بمعنی ذکر الأموات.

ثم وبّخهم توبیخاً شدیداً وذمهم فقال: «أَفَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ یَفْخَرُونَ! أَمْ بِعَدِیدِ الْهَلْکَی یَتَکَاثَرُونَ!».

تری مامدی جهل الإنسان الذی یرید أن یفخر بتلک العظام النخرة ویجعل أمواته فی عداد الأحیاء ویعدّهم من الأدلة علی کثرته. ثم قال: «یَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ(7) ، وَحَرَکَات سَکَنَتْ».

ص:235


1- (1) «المرام» بمعنی الهدف والمطلوب ومن مادة «روم» علی وزن «قوم» بمعنی الطلب والقصد.
2- (2) «الزور» بمعنی الزائر ویطلق علی المفرد والجمع.
3- (3) «الخطر» تعنی أحیاناً الأمر الخطیر وأخری الأمر المهم والمعنی الثانی هو المراد؛ أی أنّ هؤلاء کانوا یرون کثرة قبور موتاهم مهمة والحال هذا فخر بغیض وموهوم.
4- (4) «أفظع» من مادة «فضاعة» بمعنی القبیح والبغیض.
5- (5) . «استخلوا» من مادة «خلوّ» علی وزن «غلوّ» بمعنی الخلو والمضی.
6- (6) «تناوشوا» من مادة «تناوش» ومن «نوش» علی وزن «خوف» بمعنی تناول الشیء بسهولة أو بقوة والتناوش من مکان بعید الأخذ عن بعد.
7- (7) «خوت» من مادة «خوی» علی وزن «هوا» تعنی فی الاصل خلت وتعنی أحیاناً تهدمت وهذا هو المراد بها فی العبارة المذکورة.

وأضاف: «وَلاََنْ یَکُونُوا عِبَراً، أَحَقُّ مِنْ أَنْ یَکُونُوا مُفْتَخَراً؛ وَلاَنْ یَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ(1) ذِلَّةِ، أَحْجَی(2) مِنْ أَنْ یَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ!».

فقد أکد الإمام علیه السلام فی هذه العبارات علی هذه النقطة أنّ نظرة هؤلاء للأموات مقلوبة تماماً وقد أخطأوا فی مسارهم حتی عاد القبیح لدیهم حسناً، فعلی هؤلاء أن ینظروا إلی الأموات بعین الاعتبار؛ ویشاهدوا أوضاع أخیارهم تحت التراب ویتأملوا مصیرهم علی ضوء قانون الموت الذی لا استثناء فیه قط.

ورد فی الخبر أنّه لما سار علی علیه السلام بصحبه إلی صفین بلغ ساباط المدائن وأطرافه (الموضع الذی کان یوماً مرکز أقوی الحکومات ولکن انتهی فیه کلّ شیء).

فالتفت أحد أصحابه إلی آثار کسری فأنشد قائلاً:

جَرَتِ الرِّیاحُ عَلی مَکانِ دِیارِهِمْفَکأنَّهُمْ کانُوا عَلی میعادِ

ولم یکتف الإمام علیه السلام بهذا المقدار فقال هلّا قرأت هذه الآیات: «کَمْ تَرَکُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُیُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ کَرِیمٍ * وَنَعْمَةٍ کَانُوا فِیهَا فَاکِهِینَ * کَذلِک وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِینَ(3)»(4).

وخاض الإمام علیه السلام مواصلاً کلامه فی بیان هذا الموضوع، لم هذا الفخر علی الآخرین بهذه الأجساد المیتة الخاویة بدل الاعتبار «لَقَدْ نَظَرُوا إِلَیْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ، وَضَرَبُوا مِنْهُمْ فِی غَمْرَةِ جَهَالَةٍ».

ثم قال: «وَ لَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْک الدِّیَارِ الْخَاوِیَةِ، وَالرُّبُوعِ(5) الْخَالِیَةِ، لَقَالَتْ: ذَهَبُوا فِی الأَرْضِ ضُلاَّلاً(6) ، وَذَهَبْتُمْ فِی أَعْقَابِهِمْ جُهَّالاً، تَطَؤُونَ فِی

ص:236


1- (1) «جناب» من مادة «جَنْب» الضلع واستعملت بمعنی الجانب والناحیة والطرف وجناب ذلّة فی العبارة بهذا المعنی.
2- (2) «أحجی» من «حِجا» علی وزن «رضا» العقل، وأحجی أعقل.
3- (3) سورة الدخان، الآیات 25-28.
4- (4) بحار الأنوار، ج 68، ص 327.
5- (5) . «ربوع» جمع «ربع» علی وزن «رفع» البیت والمسکن.
6- (6) . «ضلال» جمع «ضال».

هَامِهِمْ(1) ، وَتَسْتَنْبِتُونَ(2) فِی أَجْسَادِهِمْ، وَتَرْتَعُونَ(3) فِیمَا لَفَظُوا(4) ، وَتَسْکُنُونَ فِیَما خَرَّبُوا؛ وَإِنَّمَا الأَیَّامُ بَیْنَکُمْ وَبَیْنَهُمْ بَوَاکٍ(5) وَنَوَائِحُ(6) عَلَیْکُمْ».

العبارة «ضَرَبُوا مِنْهُمْ فِی غَمْرَةِ جَهَالَة» إشارة إلی غرقهم فی بحر الجهل و «ضرب» تعطی معنی الغرق بقرینة آخر هذه العبارة.

والجملة «تَطَؤُونَ فِی هَامِهِمْ» إشارة إلی أنّ أجسام الناس حین تتعفن وتصبح تراباً فإنّ ذلک التراب ینتقل إلی سطح الأرض بفعل بعض العوامل کالریاح والأمطار والسیول وتقلب التربة بواسطة الإنسان وهذا الإنسان الغافل یمر علیها ولا یدری ماذا یفعل، وذکر «الهام» (أعلی الرأس) کون أهم شیء فی جسم الإنسان جمجمته وإلّا فإنّ الجسد بأکمله أصبح تراباً یطأه الآخرون.

الجملة «تَسْتَنْبِتُونَ فِی أَجْسَادِهِمْ» إشارة إلی أنّ المزارعین یلقون بذورهم علی الأرض الممزوجة بتراب أجساد الماضین ومع ذلک هم غافلون.

الجملة «تَرْتَعُونَ فِیمَا لَفَظُوا» تعنی أحیاناً ما ذکر وأخری أنّه تتناثر من أجسادهم قطع والمزارعون یلقون علیها بذورهم وینتفعون بثمارها.

الجملة «تَسْکُنُونَ فِیمَا خَرَّبُوا» ربّما هی إشارة إلی أنّهم عاشوا مدّة فی تلک البیوت فلما انتهوا ووسدوا التراب حللتم فی مساکنهم وذهب بعض الشراح إلی أنّ

ص:237


1- (1) . «هام» جمع «هامة» أعلی الرأس.
2- (2) «تستنبتون» من مادة «نبت» علی وزن «ضبط» الإنبات وتعنی الزراعة.
3- (3) «ترتعون» من مادة «رتع»، علی وزن «قطع» تعنی فی الاصل الرعی وکثرة اکل الحیوانات؛ ولکن تستعمل أحیاناً بشأن الإنسان بمعنی اللعب والمرح وکثرة الاکل والمعنی الثانی هو المراد فی العبارة.
4- (4) «لَفَظُوا» من مادة «لفظ» لفظوا وطرحوا وغالباً ما تعنی الطرح من الفم وبما أنّ الکلام یطرح من الفم فلذلک یطلق علیه اللفظ والمعنی الأوّل هو المراد فی العبارة.
5- (5) «بواک» جمع «باکیة» تعنی فی الأصل بکاء النساء والعزاء.
6- (6) «نوائح» جمع «نائحة» المرأة التی تنوح والاختلاف بینهما أنّ النواح بکاء وصوت وألفاظ وذکر مطالب بینما البکاء مفهوم عام.

العبارة «خربوا» تعنی الخلو من السکنة، وقیل المراد منه أنّها خربة لترکها الذکر والعبادة علی غرار العمران فی الآیة الشریفة «إِنَّمَا یَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّه»(1) الذی فسّر بذکر اللّه والعبادة.

نعم إنّ هؤلاء لم یؤدوا حق المساکن وخربوها عملیاً بالغرور والغفلة ونسیان ذکر اللّه وإن کانت فی الظاهر عامرة وورثوها للغفلة وارتحلوا.

الجملة «وَإِنَّمَا الأَیَّامُ بَیْنَکُمْ وَبَیْنَهُمْ بَوَاک» إشارة لطیفة إلی هذه النقطة أنّکم تبکون وتتأوّهون علی الأموات؛ ولکن الدهر یبکیکم وینوح علیکم علی مدی غفلتکم وجهلکم بمصیرکم وتنسون أنّکم ملتحقون بهم عما قریب.

***

ص:238


1- (1) . سورة التوبة، الآیة 18.

القسم الثانی

اشارة

أولئِکُمْ سَلَفُ غَایَتِکُمْ، وَفُرَّاطُ مَنَاهِلِکُمْ، الَّذینَ کانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ، وَحَلَبَاتُ الْفَخْرِ، مُلُوکاً وَسُوَقاً. سَلَکُوا فِی بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِیلاً سُلِّطَتِ الأَرْضُ عَلَیْهِمْ فِیهِ، فَأَکَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ، وَشَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ؛ فَأَصْبَحُوا فِی فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لاَ یَنْمُونَ، وَضِمَاراً لاَیُوجَدُونَ؛ لاَ یُفْزِعُهُمْ وُرُودُ الأَهْوَالِ، وَلاَ یَحْزُنُهُمْ تَنَکُّرُ الأَحْوَالِ، وَلاَ یَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ، وَلاَ یَأْذَنُونَ لِلْقَواصِفِ. غُیَّباً لاَ یُنْتَظَرُونَ، وَشُهُوداً لاَ یَحْضُرُونَ، وَإِنَّمَا کَانُوا جَمِیعاً فَتَشَتَّتُوا، وَآلاَفاً فَافْتَرَقُوا، وَمَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ، وَلاَ بُعْدِ مَحَلِّهِمْ، عَمِیَتْ أَخْبَارُهُمْ، وَصَمَّتْ دِیَارُهُمْ، وَلکِنَّهُمْ سُقُوا کَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً، وَبِالسَّمْعِ صَمَماً، وَبِالْحَرَکَاتِ سُکُوناً، فَکَأَنَّهُمْ فِی ارْتِجَالِ الصِّفَةِ صَرْعَی سُبَات. جِیرَانٌ لاَ یَتَأَنَّسُونَ، وَأَحِبَّاءُ لاَ یَتَزَاوَرُونَ. بَلِیَتْ بَیْنَهُمْ عُرَا التَّعَارُفِ، وَانْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الاِْخَاءِ، فَکُلُّهُمْ وَحِیدٌ وَهُمْ جَمِیعٌ، وَبِجَانِبِ الْهَجْرِ وَهُمْ أَخِلاَّءُ، لاَ یَتَعَارَفُونَ لِلَیْل صَبَاحاً، وَلاَ لِنَهَار مَسَاءً.

أَیُّ الْجَدِیدَیْنِ ظَعَنُوا فِیهِ کَانَ عَلَیْهِمْ سَرْمَداً، شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا، وَرَأَوْا مِنْ آیاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا، فَکِلْتَا الْغَایَتَیْنِ مُدَّتْ لَهُمْ إِلَی مَبَاءَة، فَاتَتْ مَبَالِغَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. فَلَوْ کَانُوا یَنْطِقُونَ بِهَا لَعَیُّوا بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَمَا عَایَنُوا.

الشرح والتفسیر: العالم العجیب بعد الموت

بعد أن وبّخ الإمام علیه السلام بشدّة أولئک الذین یزورون قبور موتاهم ویفخرون

ص:239

بالأجساد البالیة لأخیارهم، خاض فی هذه النقطة أنّ مصیرهم من شأنه أن یکون عبرة ودرساً وموعظة قیمة لمن یخلفهم فقال؛ «أولئِکُمْ سَلَفُ غَایَتِکُمْ(1) ، وَفُرَّاطُ (2)مَنَاهِلِکُمْ(3) ، الَّذینَ کانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ(4) الْعِزِّ، وَحَلَبَاتُ(5) الْفَخْرِ، مُلُوکاً وَسُوَقاً(6)».

التعبیر «سَلَفُ غَایَتِکُمْ» إشارة إلی أنّ هؤلاء بلغوا آخر نقطة فی حیاتهم التی هی الموت الذی سبقوکم إلیه وعلی الخلف أن یعتبر بمصیر سلفه.

العبارة «فُرَّاطُ مَنَاهِلِکُمْ» إشارة إلی أنّ الناس کأنّهم فی قافلة ینطلقون إلی الموت فهنالک طائفة تتقدم القافلة وأخری تسیر خلفها.

التعبیر «مَقَاوِمُ الْعِزِّ» إشارة إلی أنّ ذوی القدرة ینبغی علیهم أن یطؤوا هذا الطریق کالآخرین.

وشبّه الناس فی العبارة «وَحَلَبَاتُ الْفَخْرِ» بالذین یشترکون فی سلسلة من المسابقات العظیمة والواسعة لکسب مزید من الفخر فقد قال الإمام علیه السلام: کلّ أولئک سیبلغون فی الختام منزلاً اسمه القبر.

ثم قال بکلمة واحدة: «مُلُوکاً وَسُوَقاً» الکل یذهبون الملوک والرعایا.

وقال لمزید من الایضاح: «سَلَکُوا فِی بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِیلاً سُلِّطَتِ الأَرْضُ عَلَیْهِمْ فِیهِ، فَأَکَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ، وَشَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ».

ورغم أنّ البرزخ یطلق عادة الذی یتوسط الدنیا والآخرة کما ورد فی القرآن

ص:240


1- (1) . «الغایة» النهایة وتعنی هنا الموت.
2- (2) «فرّاط» من مادة «فرط» علی وزن «شرط» السرعة والعجلة و «فراط» جمع «فارط» تطلق غالباً علی متقدم القوم إلی الماء ثم اطلق علی کلّ من یتقدم فی أمر.
3- (3) «مناهل» جمع «منهل» من مادة «نهل» علی وزن «أهل» موضع الشربة الأولی و «منهل» یقال لموضع ما لشرب الشاربة من النهر.
4- (4) «مقاوم» جمع «مَقام» وقیل جمع «مَقامة» وکلاهما بمعنی مجلس.
5- (5) «حلبات» جمع «حلبة» علی وزن «دفعة» الدفعة من الخیل فی الرهان.
6- (6) «سوق» جمع «سوقة» علی وزن «کوفة» الرعیة والناس من «سوق» علی وزن «فوق»؛ لأنّ الرعاة یسوقونهم إلی الأهداف المطلوبة.

المجید: «وَمِنْ وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَی یَوْمِ یُبْعَثُونَ»(1) ولکن البرزخ هنا یعنی القبر بقرینة العبارات التی أعقبتها کما ورد فی الحدیث المروی عن الإمام الصادق علیه السلام: «اَلْبَرْزَخُ الْقَبْرُ»(2) طبعاً أحیاناً القبر بمعناه المادی من قبیل ما ورد فی هذه الخطبة وأحیاناً أخری بمعناه غیر المادی من قبیل ماورد فی الحدیث المشهور: «الْقَبْرُ إمّا رَوْضَةٌ مِنْ رِیاضِ الْجَنَّةِ اوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّیرانِ»(3).

ثم قال موضحاً أکثر: «فَأَصْبَحُوا فِی فَجَوَاتِ(4) قُبُورِهِمْ جَمَاداً لاَ یَنْمُونَ، وَضِمَاراً(5) لاَیُوجَدُونَ؛ لاَ یُفْزِعُهُمْ وُرُودُ الأَهْوَالِ، وَلاَ یَحْزُنُهُمْ تَنَکُّرُ الأَحْوَالِ، وَلاَ یَحْفِلُونَ(6) بِالرَّوَاجِفِ(7) ، وَلاَ یَأْذَنُونَ لِلْقَواصِفِ(8). غُیَّباً لاَ یُنْتَظَرُونَ، وَشُهُوداً لاَ یَحْضُرُونَ، وَإِنَّمَا کَانُوا جَمِیعاً فَتَشَتَّتُوا، وَآلاَفاً(9) فَافْتَرَقُوا».

ما ورد فی هذه العبارات الملهبة إشارة بالظاهر لجسم الأموات، وإن کانت لأرواحهم فی العالم الآخر احساس وخوف ورعب وهمّ وحزن.

نعم ففی لحظة یغمض الإنسان - الیقظ والضاحک أو المهموم المحزون النشط أو الکسل - عینیه عن الدنیا وتنتهی عنده جمیع ظواهر الحیاة حتی یتحول إلی حجرة خالیة من الروح.

ثم أشار الإمام علیه السلام إلی نقطة أخری فقال: «وَمَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ، وَلاَ بُعْدِ مَحَلِّهِمْ، عَمِیَتْ أَخْبَارُهُمْ، وَصَمَّتْ دِیَارُهُمْ، وَلکِنَّهُمْ سُقُوا کَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ

ص:241


1- (1) . سورة المؤمنون، الآیة 100.
2- (2) . بحار الأنوار، ج 6، ص 217.
3- (3) المصدر السابق، ص 214؛ صحیح الترمذی، ج 4، کتاب صفة القیامة، باب 26، ح 2460.
4- (4) . «فجوات» جمع «فجوة» الموضع الواسع ویعنی الفرجة وورد هنا بمعنی شق القبر.
5- (5) . «ضمار» الغائب أو المال الذی لا یؤمل رجوعه ومن مادة «ضمر» علی وزن «أمر» بمعتی الإخفاء.
6- (6) . «یحفلون» من مادة «حفول» تجمع الأفراد وورد بمعنی اللامبالاة بالشیء و «لا یحفلون» هنا تعنی لا یبالون.
7- (7) «رواجف» جمع «راجفة» الزلازل ومن مادة «رجف» علی وزن «ربط» بمعنی الاضطراب والزلزال الشدید.
8- (8) «قواصف» جمع «قاصف» بمعنی الریاح والعاصفة العاتیة ومن مادة «قصف» علی وزن «وصف» الکسر.
9- (9) «آلاف» جمع «ألیف» بمعنی من یتعلق بالشیء ومن مادة «إلفة».

خَرَساً، وَبِالسَّمْعِ صَمَماً، وَبِالْحَرَکَاتِ سُکُوناً، فَکَأَنَّهُمْ فِی ارْتِجَالِ(1) الصِّفَةِ صَرْعَی (2) سُبَات(3)».

یالها من عبارات بلیغة وموقظة وکلمات مؤثرة وعمیقة! نعم! فقد نسوا حتی کأنّهم ابتعدوا عنّا قروناً وانطفأت مساکنهم وکأنّهم غادروها منذ سنین مدیدة فی حین ربّما تجرعوا کأس المنون فی لحظة وانتهی کلّ شیء.

وأضاف فی عبارات أخری عمیقة المعنی وموقظة: «جِیرَانٌ لاَ یَتَأَنَّسُونَ، وَأَحِبَّاءُ لاَ یَتَزَاوَرُونَ. بَلِیَتْ بَیْنَهُمْ عُرَا(4) التَّعَارُفِ، وَانْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الاِْخَاءِ، فَکُلُّهُمْ وَحِیدٌ وَهُمْ جَمِیعٌ، وَبِجَانِبِ الْهَجْرِ وَهُمْ أَخِلاَّءُ، لاَ یَتَعَارَفُونَ لِلَیْلٍ صَبَاحاً، وَلاَ لِنَهَارٍ مَسَاءً. أَیُّ الْجَدِیدَیْنِ ظَعَنُوا فِیهِ کَانَ عَلَیْهِمْ سَرْمَداً».

نعم کلّ شی لهؤلاء یختلف عن الأحیاء؛ بیوت قبورهم الواحد یلاصق الآخر دون أن یخبر أحدهم بالآخر أو یزوره؛ إنّهم مجتمعون مع بعضهم فی الداخل مع ذلک کأنّهم مقاطعون لأحدهم الآخر؛ إن غادروا الدنیا لیلاً فسوف لن یروا طلوع الشمس قط وإن غادروها نهاراً لم یروا ظلمة اللیل أبداً وفی هذا أنشد الشاعر:

لابُدَّ مِنْ یَوْمٍ بِلا لَیْلَةٍأوْ لَیْلَةٍ تَأتی بِلا یَوْم

ثم أشار الإمام علیه السلام إلی جانب آخر من أحوال الموتی وأرواحهم عند مشاهدة العذاب الإلهی والثواب العظیم فقال: «شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ(5) مِمَّا خَافُوا، وَرَأَوْا مِنْ آیاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا، فَکِلْتَا الْغَایَتَیْنِ مُدَّتْ لَهُمْ إِلَی مَبَاءَةٍ(6) ، فَاتَتْ مَبَالِغَ

ص:242


1- (1) . «ارتجال» بیان مطلب بدون مطالعة مسبقة ومن مادة «رجل» علی وزن «أجر» المشی علی القدمین واطلقت بهذا المعنی علی المبدع الذی یرتجل الکلام وکأنّه یمشی علی رجلیه.
2- (2) «صرعی» جمع «صریع» الشخص أو الجنازة الملقاة علی الأرض ومن جمع «صرع» علی وزن «فرع» الالقاء علی الأرض.
3- (3) «سبات» من مادة «سبت» القطع والقص ثم وردت بمعنی الاستراحة بعد العمل ومن هنا یقال للنوم سبات.
4- (4) . «عری» جمع «عروة» القبضة.
5- (5) . «أفظع» من مادة «فظع» علی وزن «جزع» بمعنی أخوف وأرهب.
6- (6) . «مباءة» بمعنی المنزل تعنی فی الأصل الموضع الذی تعود إلیه الجمال ومن مادة «بواء» علی وزن «دواء» الرجوع والاطراق.

الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. فَلَوْ کَانُوا یَنْطِقُونَ بِهَا لَعَیُّوا(1) بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَمَا عَایَنُوا».

الواقع أن ما بیّنه الإمام علیه السلام هنا ماجاء صراحة فی الخطبة 114 من «نهج البلاغة»: «کُلُّ شَیْءٍ مِنَ الدُّنْیا سَماعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عَیانِهِ وَکُلُّ شَیْءٍ مِنَ الآخِرَةِ عَیانُهُ أعْظَمُ مِنْ سَماعِه».

ودلیل ذلک واضح، فعالم الآخرة غایة فی السعة والکبر وإذا ما قورن بالدنیا کان کالدنیا بالنسبة لعالم الجنین فی رحم امّه.

***

ص:243


1- (1) «عیّوا» من مادة «عیّ» علی وزن «حیّ» العجز.

ص:244

القسم الثالث

اشارة

وَلَئِنْ عَمِیَتْ آثَارُهُمْ، وَانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ، لَقَدْ رَجَعَتْ فِیهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ، وَسَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ، وَتَکَلَّمُوا مِنْ غَیْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ، فَقَالُوا: کَلَحَتِ الْوُجُوهُ النَّواضِرُ، وَخَوَتِ الأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ، وَلَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَی، وَتَکَاءَدَنَا ضِیقُ الْمَضْجَعِ، وَتَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ، وَتَهَکَّمَتْ عَلَیْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ، فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا، وَتَنَکَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا، وَطَالَتْ فِی مَسَاکِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا؛ وَلَمْ نَجِدْ مِنْ کَرْب فَرَجاً، وَلاَ مِنْ ضِیقٍ مُتَّسَعاً! فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِک، أَوْ کُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَک، وَقَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَکَّتْ، وَاکْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَابِ فَخَسَفَتْ، وَتَقَطَّعَتِ الأَلْسِنَةُ فِی أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلاَقَتِهَا، وَهَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِی صُدُورِهِمْ بَعْدَ یَقَظَتِهَا، وَعَاثَ فِی کُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِیدُ بِلیً سَمَّجَهَا وَسَهَّلَ طُرُقَ الاْفَةِ إِلَیْهَا، مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلاَ أَیْدٍ تَدْفَعُ، وَلاَ قُلُوبٌ تَجْزَعُ، لَرَأَیْتَ أَشْجَانَ قُلُوب، وَأَقْذَاءَ عُیُونٍ، لَهُمْ فِی کُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لاَ تَنْتَقِلُ، وَغَمْرَةٌ لاَ تَنْجَلِی.

الشرح والتفسیر: أحوال الأموات!

شرح الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة، وضع الأموات ومتوسدی القبور ببیان بلیغ ومؤثر فقال: «وَلَئِنْ عَمِیَتْ آثَارُهُمْ، وَانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ، لَقَدْ رَجَعَتْ فِیهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ، وَسَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ، وَتَکَلَّمُوا مِنْ غَیْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ».

ففی الواقع أشار الإمام علیه السلام فی هذه العبارة إلی أمرین: أنّ الاستخبار عنهم لیس

ص:245

بالطرق العادیة (کالبصر والسمع)، بل بطرق أعمق وأقوی من خلال بصیرة القلب وسمع العقل، کما أنّ تکلّمهم لیس بلسان القال، بل بلسان الحال الأعمق آثاراً، فلسان القال قد یشوبه الکذب الذی لا مجال له للسان الحال.

ولنری الآن ما یقولون بهذا اللسان؟ یشیر الإمام علیه السلام إلی طبیعة کلامهم: «فَقَالُوا:

کَلَحَتِ(1) الْوُجُوهُ النَّواضِرُ(2) ، وَخَوَتِ(3) الأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ، وَلَبِسْنَا أَهْدَامَ(4) الْبِلَی، وَتَکَاءَدَنَا(5) ضِیقُ الْمَضْجَعِ، وَتَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ، وَتَهَکَّمَتْ(6) عَلَیْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ(7)».

نعم! یتحدثون أحیاناً عن مصیر أبدانهم وأخری عن مواضعهم. الأبدان الذابلة بدایة، الوجوه العابسة، ومن ثم تحلّلها، وبالتالی تفسّخها واستحالتها إلی تراب، القبور الضیقة والمظلمة والباردة الساکنة وقد سیطرت علیهم أجواء الرعب فسادهم الصمت التام.

ثم قال: «فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا، وَتَنَکَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا، وَطَالَتْ فِی مَسَاکِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا؛ وَلَمْ نَجِدْ مِنْ کَرْبٍ فَرَجاً، وَلاَ مِنْ ضِیقٍ مُتَّسَعاً!».

نعم! فالوجوه النظرة الجمیلة والمعروفة والمساکن الواسعة والفارهة التی قلبت رأساً علی عقب بحلول الموت، فتبدلت تلک المنازل الجمیلة الفارهة إلی قبور مقفرة مظلمة، وتلک الوجوه الناعمة لم تفقد نضارتها وحیویتها فحسب؛ بل تحولت إلی أشباح موحشة.

ومن هنا قال النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی کلمة موجزة موقظة: «ما رَأَیْتُ مَنْظَراً إلّاوَالْقَبرُ

ص:246


1- (1) . «کلحت» من «الکلوح» علی وزن «طلوع» الوجه العابس والمقطب.
2- (2) «نواضر» من «نضرة» علی وزن «دفعة» الحسنة الباسمة المتفتحة.
3- (3) «خوت» من «خواء» بمعنی تهدمت وتلاشت.
4- (4) «اهدام» جمع «هدم» علی وزن «حرص» الثوب البالی والمرقع.
5- (5) . «تکاؤدنا» من «التکاؤد» المشقة ومادته «کأد» علی وزن «رعد».
6- (6) «تهکمت» من «التهکّم» السقوط فی بئر وما شابه ذلک أو التهدم.
7- (7) «الصموت» السکوت وفی العبارة مصدر له معنی وصفی.

أفْضَعُ مِنْهُ»(1).

ثم سعی الإمام علیه السلام لیکشف لمخاطبیه أوضاعهم فی القبور بعبارات حیّة فقال:

«فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِک، أَوْ کُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَک، وَقَدِ ارْتَسَخَتْ(2) أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ(3) فَاسْتَکَّتْ(4) ، وَاکْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَابِ فَخَسَفَتْ، وَتَقَطَّعَتِ الأَلْسِنَةُ فِی أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلاَقَتِهَا(5) ، وَهَمَدَتِ(6) الْقُلُوبُ فِی صُدُورِهِمْ بَعْدَ یَقَظَتِهَا، وَعَاثَ(7) فِی کُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِیدُ بِلیً(8) سَمَّجَهَا(9) وَسَهَّلَ طُرُقَ الاْفَةِ إِلَیْهَا، مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلاَ أَیْدٍ تَدْفَعُ، وَلاَ قُلُوبٌ تَجْزَعُ، لَرَأَیْتَ أَشْجَانَ(10) قُلُوبٍ، وَأَقْذَاءَ(11) عُیُونٍ».

صحیح بقبض الروح یتوقف کلّ شی؛ لکنه مادام سالماً فإنّ له القابلیة لاستعادة نشاطه لو فرض عودة الروح إلیه؛ ولکن یفقد کلّ شیء بعد تعفّنه وتلاشیه، ولذلک صرّح الإمام علیه السلام: توقف الحشرات أسماعهم عن العمل والتراب أبصارهم وألسنتهم عن النظر والنطق.

ثم أکمل کلامه بعبارة بصیغة خلاصة فقال: «لَهُمْ فِی کُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لاَ تَنْتَقِلُ، وَغَمْرَةٌ(12) لاَ تَنْجَلِی».

ص:247


1- (1) سنن الترمذی، ج 3، ص 379؛ میزان الحکمة، مادة «قبر»، ح 16251.
2- (2) . «ارتسخت» من «الارتساخ» المبالغة فی الرسخ ومن «الرسوخ» النفوذ.
3- (3) . «هوام» جمع «هامة» الحشرات السامّة؛ کالحیة وتطلق علی کلّ نوع حشرة.
4- (4) «استکت» من مادة «سک» علی وزن «حک» بمعنی صمت.
5- (5) . «الذلاقة» الحدة؛ ثم استعملت بمعنی اللسان وسرعة النطق ویقال: خطیب ذلق للمتکلم الفصیح والبلیغ.
6- (6) «همدت» من «الهمود» علی وزن «سجود» تعنی فی الأصل انطفاء النار. ثم استعملت بمعنی السکوت والسکون والتوقف عن العمل.
7- (7) «عاث» من مادة «عیث» علی وزن «حیف» أفسد کما ورد بمعنی التبذیر والمعنی الأوّل هو المراد فی العبارة.
8- (8) . «جدید بلی» هنالک نوع من صناعة البدیع فی العبارة من خلال کلمة جدید والتی تقابل البالی بصیغة مضاف ومضاف إلیه ومعناه الفساد الجدید.
9- (9) «سمّج» من «السماجة» القبیح والمنفر و «سمج» علی وزن «خشن» تطلق علی من ینشد شیئاً بطریقة قبیحة.
10- (10) «أشجان» جمع «شجن» علی وزن «کفن» الهموم.
11- (11) «اقذاء» جمع «قذی» علی وزن «سجی» ما یسقط قی العیون ویؤذیها من أجسام صغیرة والتی تظهر کلّ ساعة علی جسد المیت.
12- (12) «غمرة» تعنی فی الأصل الماء الجارف الذی یغطی الأشیاء ثم اطلق علی کلّ أمر شدید.

إشارة إلی أنّ مصیبتهم الکبری أنّ هذه الأهوال لا تزول عنهم، بل تتشدد علیهم کلّ یوم؛ وتعاستهم أن لیس أمامهم من مستقبل واضح، وکلما تقادم علیهم الزمان کلّما تآکلت أجسامهم أکثر وبلیت عظامهم.

***

ص:248

القسم الرابع

اشارة

فَکَمْ أَکَلَتِ الأَرْضُ مِنْ عَزِیزِ جَسَدٍ، وَأَنِیقِ لَوْنٍ، کَانَ فِی الدُّنْیَا غَذِیَّ تَرَفٍ، وَرَبِیبَ شَرَفٍ! یَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِی سَاعَةِ حُزْنِهِ، وَیَفْزَعُ إِلَی السَّلْوَةِ إِنْ مُصِیبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ، ضَنًّا بِغَضَارَةِ عَیْشِهِ، وَشَحَاحَةً بِلَهْوِهِ وَلَعِبِهِ! فَبَیْنَا هُوَ یَضْحَکُ إِلَی الدُّنْیَا وَتَضْحَکُ إِلَیْهِ فِی ظِلِّ عَیْش غَفُولٍ، إِذْ وَطِیءَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَکَهُ وَنَقَضَتِ الأَیَّامُ قُوَاهُ، وَنَظَرَتْ إِلَیْهِ الْحُتُوفُ مِنْ کَثَبٍ فَخَالَطَهُ بَثٌّ لاَ یَعْرِفُهُ، وَنَجِیُّ هَمٍّ مَا کَانَ یَجِدُهُ، وَتَوَلَّدَتْ فِیهِ فَتَرَاتُ عِلَلٍ، آنَسَ مَا کَانَ بِصِحَّتِهِ، فَفَزِعَ إِلَی مَا کَانَ عَوَّدَهُ الأَطِبَّاءُ مِنْ تَسْکِینِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ، وَتَحْرِیکِ الْبَارِدِ بِالْحَارِّ، فَلَمْ یُطْفِیءْ بِبَارِدٍ إلاَّ ثَوَّرَ حَرَارَةً، وَلاَ حَرَّکَ بِحَارٍّ إِلاَّ هَیَّجَ بُرُودَةً، وَلاَ اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْکَ الطَّبَائِعِ إِلاَّ أَمَدَّ مِنْهَا کُلَّ ذَاتِ دَاءٍ؛ حَتَّی فَتَرَ مُعَلِّلُهُ، وَذَهَلَ مُمَرِّضُهُ، وَتَعَایَا أَهْلُهُ بِصِفَةِ دَائِهِ، وَخَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّائِلِینَ عَنْهُ، وَتَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِیَّ خَبَرٍ یَکْتُمُونَهُ: فَقَائِلٌ یَقُولُ: هُوَ لِمَا بِهِ، وَ مُمَنٍّ لَهُمْ إِیَابَ عَافِیَتِهِ، وَمُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَی فَقْدِهِ، یُذَکِّرُهُمْ أَسَی الْمَاضِینَ مِنْ قَبْلِهِ. فَبَیْنَا هُوَ کَذلِک عَلَی جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْیَا، وَتَرْکِ الأَحِبَّةِ، إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ، فَتَحَیَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ، وَیَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ. فَکَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَیَّ عَنْ رَدِّهِ، وَدُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ، مِنْ کَبِیرٍ کَانَ یُعَظِّمُهُ، أَوْ صَغِیرٍ کَانَ یَرْحَمُهُ! وَإِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَات هِیَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ، أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَی عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْیَا.

ص:249

الشرح والتفسیر: عقبات الموت لاتستوعب فی الالفاظ

أشار الإمام علیه السلام هذا المتکلم البلیغ الفصیح الفرید، فی آخر مقطع من هذه الخطبة إلی جوانب أخری من قضیة الموت ونهایة الحیاة وعقباته لیوجزها فی أربع مراحل فقال أوّلاً: «فَکَمْ أَکَلَتِ الأَرْضُ مِنْ عَزِیزِ(1) جَسَدٍ، وَأَنِیقِ(2) لَوْنٍ، کَانَ فِی الدُّنْیَا غَذِیَّ(3) تَرَفٍ، وَرَبِیبَ(4) شَرَفٍ! یَتَعَلَّلُ(5) بِالسُّرُورِ فِی سَاعَةِ حُزْنِهِ، وَیَفْزَعُ إِلَی السَّلْوَةِ(6) إِنْ مُصِیبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ، ضَنًّا(7) بِغَضَارَةِ(8) عَیْشِهِ، وَشَحَاحَةً(9) بِلَهْوِهِ وَلَعِبِهِ!».

وهذا الکلام إشارة دقیقة لمن اعتادوا الحیاة الهانئة المرفّهة والعیش الرغید والنعمة الوافرة، الذین یسعون حین نزول المصائب الخروج من ذلک عن طریق أنواع اللعب وقد نسوا کلّ ما من شأنه إیقاظهم وهدایتهم وهذا بحد ذاته مصیبة عظمی فی أن یلوذ الإنسان بعوامل السکر والجهل والغفلة؛ لکن الأحداث المریرة لاتنساهم، وبالتالی فإنّ الأرض سوف تبتلعهم.

نعم، «فَبَیْنَا هُوَ یَضْحَکُ إِلَی الدُّنْیَا وَتَضْحَکُ إِلَیْهِ فِی ظِلِّ عَیْشٍ غَفُولٍ(10) ؛ إِذْ وَطِیءَ

ص:250


1- (1) . «العزیز» تعنی فی الأصل القوی والقادر ویلزمه نفی الذل عن الإنسان؛ ولکن لم یتضح لم فسّرها بعض الشراح بالجمال.
2- (2) «أنیق» جمیل والماء الحسن والطیب الطعم.
3- (3) . «غذیّ» من «الغذاء» بمعنی الطعام و «غذیّ ترف» والمراد أنّه تغذی بالنعمة علی أساس «ترف» التی تعنی النعمة.
4- (4) «ربیب» من مادة «رَبّ» التربیة والتدبیر، وعلیه «ربیب شرف» من تربی فی أحضان العزة والاحترام.
5- (5) «یتعلّل» من «تعلّل» یتناسی ویتشاغل.
6- (6) . «سلوة» المعیشة الطیبة.
7- (7) «ضنّ» البخل الشدید.
8- (8) «غضارة عیش» الحیاة المفعمة بالنعمة.
9- (9) «الشحاحة» البخل وقیل: أعلی درجة البخل. فالبخیل من یبخل عما فی یده، أمّا الشحیح فیبخل بمافی یده وما فی أیدی الناس.
10- (10) . «غفول» من مادة «غفلت» الذی یغفل أو یوجب الغفلة.

الدَّهْرُ بِهِ حَسَکَهُ(1) وَنَقَضَتِ الأَیَّامُ قُوَاهُ، وَنَظَرَتْ إِلَیْهِ الْحُتُوفُ(2) مِنْ کَثَبٍ(3) فَخَالَطَهُ بَثٌّ(4) لاَ یَعْرِفُهُ، وَنَجِیُّ(5) هَمٍّ مَا کَانَ یَجِدُهُ، وَتَوَلَّدَتْ فِیهِ فَتَرَاتُ عِلَلٍ، آنَسَ مَا کَانَ بِصِحَّتِهِ».

إشارة إلی أنّ هؤلاء الجهال مهما سعوا للتناسی إزاء المصائب والضحک علی الدوام علی الدنیا فإنّ الدنیا هی الأخری تضحک علیهم؛ ولکن سرعان ما یباغتهم الموت فتفنی قواهم وطاقاتهم الواحدة تلو الأخری، فالعین تعشو وتضعف، والأذن تثقلٌ والعظام تنحف والأعصاب تنهک وتعجز، وتهجم علیهم أنواع الأمراض فیدق العالم فی آذانهم أجراس الموت.

فقد أشار الإمام علیه السلام هنا فی الواقع إلی انحلال قوی الإنسان أوّلاً، وظهور الأمراض إثر ذلک والتی تعدّ الخطوة الاُولی نحو الموت.

ثم اتّجه صوب الخطوة الثانیة فی رجوعه دائماً إلی الأطباء وتناول أنواع الدواء وانعدام تأثیرها فقال: «فَفَزِعَ إِلَی مَا کَانَ عَوَّدَهُ الأَطِبَّاءُ مِنْ تَسْکِینِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ(6) ، وَتَحْرِیکِ الْبَارِدِ بِالْحَارِّ، فَلَمْ یُطْفِیءْ بِبَارِدٍ إلاَّ ثَوَّرَ(7) حَرَارَةً، وَ لاَ حَرَّک بِحَارٍّ إِلاَّ هَیَّجَ بُرُودَةً، وَلاَ اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ(8) لِتِلْکَ الطَّبَائِعِ إِلاَّ أَمَدَّ مِنْهَا کُلَّ ذَاتِ دَاء».

ص:251


1- (1) . «حسکة» من مادة «حسک» علی وزن «فدک» نبات ذو أشواک یؤذی الإنسان بشدّة وورد بمعنی البغض والکره والمعنی الأوّل هو المراد هنا.
2- (2) «حتوف» جمع «حتف» الموت.
3- (3) «کثب» من مادة «کثب» علی وزن «کسب» بمعنی الاقتراب.
4- (4) . «بثّ» الحزن الشدید. ووردت بمعنی السعة والتناثر والانتشار والمراد هنا المعنی الأوّل.
5- (5) «النجیّ» الخفی والمستور ومن «نجوی» الهمس فی الاُذن.
6- (6) . «قارّ» بارد من مادة «قرّ» علی وزن «حرّ» البرودة.
7- (7) . «ثوّر» من مادة «ثوران» الهیجان.
8- (8) «ممازج» الأشیاء التی تمزج مع بعضها.

نعم! فإن حلّ الأجل زالت اسباب الصحة والسلامة ولم یعد هنالک من أثر للدواء، وعادة ماتکون نتیجته معکوسة فیعیی الأطباء ولیس للمریض من سبیل سوی السیر إلی الموت.

ما ورد هنا فی عبارات الإمام الدقیقة إشارة للتقسیمات التی کانت متداولة فی الطب القدیم حیث کان الأطباء آنذاک یعتقدون بأربعة أنواع من الأمزجة: المزاج الحار، المزاج البارد، المزاج الرطب، والجاف، وهنالک أربعة أمزجة مرکبة من زاویة أخری: المزاج الحار والرطب (الذی یسمی الدموی) والمزاج الحار والجاف (الصفراوی) والمزاج البارد والرطب (البلغمی) والمزاج البارد والجاف (السوداوی).

طبعاً هذه الأمزجة إن کانت فی حد الاعتدال لاتقدح بالصحة، ولأصحابها جمیعاً باختلافهم الکثیر حیاة طیبة؛ ولکن إن غلبت إحدی هذه الأمزجة (الحرارة، البرودة، الرطوبة والجفاف) فلا مناص من التعامل بالعوامل المخالفة لإعادته إلی اعتدال المزاج؛ فالحرارة تسکن بالبرودة والبرودة تحرک بعوامل الحرارة والرطوبة توازن بالجفاف والجفاف یعدل بالرطوبة.

کل هذا التأثیر حین لا یختل الأمر وإلّا فلیس هنالک أدنی تأثیر.

ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی المرحلة الثالثة وهی مرحلة الیأس من عودة السلامة وانتظار نهایة العمر عن قریب: «حَتَّی فَتَرَ مُعَلِّلَه(1) ، وَذَهَلَ مُمَرِّضُهُ(2) ، وَتَعَایَا(3) أَهْلُهُ بِصِفَةِ دَائِهِ، وَخَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّائِلِینَ عَنْهُ».

وکأنّ الإمام علیه السلام کان حاضراً عند هؤلاء المرضی واُسرهم فهو یتابع عن کثب حالاتهم فالطبیب یظهر عجزه والممرض یبدی تعبه واُسرته لا تدری ما تقول للناس، إذا قالت: صحته أحسن، فذلک غیر صحیح، وإذا قالت: أسوأ، فهذا متعب فلا مناص لها من الصمت وتجیب بنظرات العیون الملیئة بالیأس.

ثم قال علیه السلام: «وَ تَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِیَّ(4) خَبَرٍ یَکْتُمُونَهُ: فَقَائِلٌ یَقُولُ: هُوَ لِمَا بِهِ،

ص:252


1- (1) . «معلّل» المعالج واخذت فی الأصل من «علة» بمعنی المرض.
2- (2) «ممرّض» من مادة «مرض» المعالج.
3- (3) «تعایا» من مادة «عیَّ» العجز.
4- (4) . «شجیّ» الغم من مادة «شجو» علی وزن «هجو» الهم والغم.

وَمُمَنٍّ لَهُمْ إِیَابَ عَافِیَتِهِ، وَمُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَی فَقْدِهِ، یُذَکِّرُهُمْ أَسَی(1) الْمَاضِینَ مِنْ قَبْلِهِ».

وأخیراً بیّن الإمام علیه السلام رابع وآخر مرحلة حیاة هذا المریض. حین یکون علی اعتاب الموت والتأهب لسفر الآخرة ومغادرة هذا العالم فقال: «فَبَیْنَا هُوَ کَذلِک عَلَی جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْیَا، وَتَرْکِ الأَحِبَّةِ، إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ، فَتَحَیَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ، وَیَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ».

ثم قال مواصلاً کلامه: «فَکَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَیَّ عَنْ رَدِّهِ، وَدُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ(2) عَنْهُ، مِنْ کَبِیرٍ کَانَ یُعَظِّمُهُ، أَوْ صَغِیرٍ کانَ یَرْحَمُهُ!».

نعم! وفی هذه الحالة حیث یعلم بحلول أجله ونهایة عمره یغط فی التفکیر فی الأموال التی أخفاها أو الدیون علی الآخرین ویرید إبلاغها الورثة أو یرید أن یحدّث أهله عن قضایا الدفن وموضع القبر فلا یسعه الکلام.

أشار ابن أبی الحدید هنا إلی قصة فیها عبرة حیث أنّه شهدها آنذاک وهی أنّ أحدهم حضرته الوفاة فأراد الوصیّة فانعقد لسانه فأشار إلی القلم والدواة لیکتب فاضطربت یده فکتب کلاماً غیر مفهوم حتی توفی(3).

واختتم الإمام علیه السلام خطبته العظیمة الموقظة بهذه العبارة فقال: «وَ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ(4) هِیَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ، أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَی عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْیَا».

نقل المرحوم العلّامة التستری فی شرحه لنهج البلاغة حدیثاً عن کتاب «الکافی» عن الإمام الباقر علیه السلام قال: «إنّ فِتیةً مِنْ أولادِ مُلوک بَنی إسرائیل کَانُوا مُتعبِّدینَ وَکانتْ العِبادةُ فِی أولادِ بنی اسرائیل، وإنّهم خَرجُوا یَسیرونَ فِی البِلادِ لَیعتَبِروا فَمرّوا بِقَبرٍ عَلی ظَهرِ الطّریقِ قَد سفی عِلیهِ السّافی، لَیس یُبیّن مِنهُ إلّا

ص:253


1- (1) «اَسَی» الغم والحزن ووردت فی بعض النسخ «اُسی» (بضم الهمزة) جمع «أسو» بمعنی الأسوة والمعنیان مناسبان فی الخطبة.
2- (2) «فتصام» من مادة «صمّ» طرش الاذن و «تصام» تظاهر بالصمم.
3- (3) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 11، ص 167.
4- (4) «غمرات» جمع «غمرة» مضی معناها فی الفقرة السابقة.

رَسمهُ، فَقالُوا: لَو دَعونا اللّهَ السّاعة فَینشُر لَنا صاحِبَ هذا القَبرِ، فَسألناهُ کَیفَ وَجد طَعمَ الموتِ، فَدعوا اللّهَ... فَخرجَ مِن ذَلکَ القَبرِ رَجلٌ أبیضُ الرأسِ واللّحیةِ یَنفُضُ رَأسهُ مِنَ التُرابِ فَزعاً شاخِصاً بَصرهُ إلی السّماءِ، فَقالَ لَهم: ما یُوقفُکُم عَلی قَبری؟ فَقالُوا: دَعوناکَ لِنسألکَ کَیف وَجدتَ طَعم الموتِ، فَقالَ: لَهُم لَقد سَکنتُ فِی قَبری تِسعة وَتسعینَ سنَة ما ذَهبَ عَنّی ألمُ الموتِ وَکربُهُ وَلا خَرج مِرارةُ طعمِ الموتِ مِن حَلقِی...»(1).

تأمّل: ممرّ یرده الجمیع

قیل وقلنا کراراً إنّ الإنسان إن شکّ فی کلّ شیء لیس له أن یشک فی أنّه سیغادر یوماً هذه الدنیا ویشرب راغباً أو مرغماً کأس المنون. کما أنّ کلّ جنین مهما کان شکله وصورته لابدّ أن یمر یوماً برحم الاُم ویطأ هذه الدنیا، وکل فاکهة لابدّ یوماً أن تسقط من الشجرة وتقطف. والإنسان شاء أم أبی لابدّ أن یشهد الموت.

فإن کان الأمر کذلک فلماذا لا یرغب البعض بسماع اسم الموت؟ لم یسعون لنسیان هذه الحقیقة التی لاتنساهم؟!

والأهم من کلّ ذلک مقدّمات الموت ونتائجه؛ فالحالات العجیبة التی رسمها المولی أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی هذه الخطبة بتلک الدقّة کصورة حیّة، وصدی الموت الذی اسمعه کل إنسان مستعد لمغادرة هذه الدنیا ولاسیما من حوله، حیث یبدو أنّ الهدف الأصلی للإمام هو إیقاظ الغافلین وهزّ الثملین من الغرور والأنانیة والعجب والأهواء، والحق والإنصاف أنّ الإمام علیه السلام أعطی الکلام حقّه بهذا الخصوص وقال کلّ ماینبغی أن یقال بحیث لا یقرأه غافل أو جاهل إلّاأیقظه وبلغ منه تأثیره.

ص:254


1- (1) الکافی، ج 3، ص 260، ح 38 (بتلخیص).

قال الإمام علیه السلام فی حدیث آخر: «ما رَأَیْتُ إیماناً مَعَ یَقینٍ أشْبَهُ مِنْهُ بِشَکٍّ عَلی هذَا الإِنْسانِ، إِنَّهُ کُلَّ یَوْمٍ یُوَدِّعُ إلَی الْقُبُورِ وَیُشَیِّعُ، وَإلی غُرُورِ الدُّنْیا یَرْجِعُ وَعَنِ الشَّهْوَةِ وَالذُّنُوبِ لا یُقْلِعُ»(1).

بالمقابل نعرف أفراداً هبوا للقاء الموت وابتسموا للأجل ولم یکن لسکرات الموت عندهم من معنی وکأنّهم کمن یتطلع لعزیز فکانت هذه حالتهم أواخر عمرهم. والنموذج الواضح لذلک شخص الإمام علیه السلام الذی قال فی کلامه المعروف فی «نهج البلاغة»: «لَابْنُ أبِی طَالِب آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْیِ امِّهِ»(2).

جدیر ذکره أنّه ورد فی الأحادیث الإسلامیّة أن موت المؤمن الصالح یختلف عن موت الآخرین. قال رجل للإمام الصادق علیه السلام: «صِفْ لَنَا الْمَوْتَ» قال: «لِلْمُؤْمِنِ کَأَطْیَبِ طِیْبٍ یَشُمُّهُ فَیَنْعَسُ لِطیبِه وَیَنْقَطِعُ التَّعَبُ وَالأَلَمُ عَنْهُ وَلِلْکافِرِ کَلَسْعِ الأَفاعَی وَلَدْغِ الْعَقارِبِ وَأشَدُّ»(3).

لا شک فی أنّ عدم تعلق المؤمن بزخارف الدنیا، وبالعکس تهافت الملحدین علیها هو الذی یؤدی إلی الاختلاف المذکور وإن کان هنالک تأثیر فی هذا الأمر لالطاف اللّه ومشاهدات المؤمن بالنسبة للنعم التی تنتظره وبالعکس مشاهدات الکافر والعذاب الذی ینتظره.

***

ص:255


1- (1) بحار الأنوار، ج 6، ص 137، ح 40.
2- (2) نهج البلاغة، الخطبة 5.
3- (3) بحار الأنوار، ج 6، ص 172، ح 50.

ص:256

الخطبة 222

اشارة

قالَهُ عِنْدَ تِلاوَتِهِ: «یُسَبِّحُ لَهُ فِیهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (1)* رِجَالٌ لَّاتُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ

وَلاَ بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللّه(2)»(3).

نظرة إلی الخطبة

هنالک عدّة أقسام مهمّة فی هذه الخطبة:

القسم الأوّل: بیّن الإمام علیه السلام أهمیّة ذکر اللّه فی کلّ شیء وخاض فی آثارها علی روح للإنسان ونفسه لیشرحها بعبارات مؤثرة.

وأشار فی القسم الثانی إلی حملة الأذکار فی کلّ عصر ومصر ومواعظه فی کیفیة انقاذ عباد اللّه من الانحراف ویضییء طرقهم بمصابیح نوره البینات.

وجری الکلام فی القسم الثالث عن صفاتهم وتولیهم عن زخارف الدنیا

ص:257


1- (1) «آصال» جمع «اُصُل» علی وزن «رسل» وجمع أصیل من مادة أصل بمعنی العصر أو آخر النهار لأنّه یعتبر أصل اللیل.
2- (2) سورة النور، الآیتان 36 و 37.
3- (3) سند الخطبة: ذکر الآمدی فی حرف الألف من «غررالحکم» المقطع الأوّل من هذه الخطبة باختلاف مع ما ورد فی «نهج البلاغة»، ولم یرد مصدر آخر لهذا الجانب من الخطبة، ویدل الاختلاف علی أنّه أخذها من مصدر آخر غیر «نهج البلاغة». (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 151).

واجتناب المعصیة ومناصرة العدل والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

وشرح فی القسم الرابع أحوالهم فی القیامة عند نشر صحف الأعمال وحشر العباد للحساب والحدیث عن حسن عاقبتهم والنتائج الباهرة لأعمالهم الصالحة.

وأمر فی القسم الخامس مخاطبیه بحساب أنفسهم وإصدار الحکم علی أعمالهم.

***

ص:258

القسم الأوّل

اشارة

إِنَّ اللّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَی جَعَلَ الذِّکْرَ جِلاَءً لِلْقُلُوبِ، تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ، وَ تُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ، وَتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ، وَمَا بَرِحَ للّه عَزَّتْ آلاَؤُهُ فِی الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ، وَفِی أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِی فِکْرِهِمْ، وَکَلَّمَهُمْ فِی ذَاتِ عُقُولِهِمْ، فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ یَقْظَة فِی الأَبْصَارِ وَالأَسْمَاعِ وَالأَفْئِدَةِ، یُذَکِّرُونَ بِأَیَّامِ اللّه، وَیُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ، بِمَنْزِلَةِ الأَدِلَّةِ فِی الْفَلَوَاتِ.

مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَیْهِ طَرِیقَهُ، وَبَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ، وَمَنْ أَخَذَ یَمِیناً وَشِمَالاً ذَمُّوا إِلَیْهِ الطَّرِیقَ، وَحَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَکَةِ، وَکَانُوا کَذلِک مَصَابِیحَ تِلک الظُلُمَاتِ، وَأَدِلَّةَ تِلْک الشُّبُهَاتِ.

الشرح والتفسیر: أدلة السائرین علی الطریق

لابدّ بادئ الأمر من معرفة تفسیر آیة سورة النور لیتضح الکلام العمیق للإمام علیه السلام فی شرحه للموضوع.

تحدث القرآن المجید فی الآیة 35 من سورة النور: «اللّه نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...» عن نور اللّه وشرحه بمثال لطیف یتضمن العدید من الأمور التعلیمیة ثم قال فی الآیات التالیة: «فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَاتُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِیتَاءِ الزَّکَاةِ یَخَافُونَ یَوْماً تَتَقَلَّبُ فِیهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ»(1).

ص:259


1- (1) سورة النور، الآیتان 36 و 37.

من الواضح أنّ هؤلاء الرجال بالدرجة الاُولی هم الأنبیاء والأئمّة المعصومین علیهم السلام ومن بعدهم المخلصین السائرین علی نهجهم.

ونخوض بعد هذه الإشارة الاجمالیة فی شرح الخطبة، قال الإمام علیه السلام فی مستهل هذه الخطبة: «إِنَّ اللّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَی جَعَلَ الذِّکْرَ(1) جِلاَءً(2) لِلْقُلُوبِ، تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ(3) ، وَتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ(4) ، وَتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ».

نعم! هنالک آثار عجیبة للذکر إن اقترن بالفکر. فإذا ذکر الإنسان اسم اللّه بعظمة وعدد صفاته الجمالیّة والجلالیّة من علم وقدرة وسمع وبصر ومقام الرحمانیّة والرحیمیّة ومراقبته بالنسبة لعباده، زالت عن بصیرته حجب الغفلة ورأی الحق واضحاً، وتخمد لجاجة الأهواء والشهوات فیسمع باُذن روحه خطاب أولیاء اللّه والدعاة إلی مرضاته ونتیجة ذلک الانقیاد التام لأوامر اللّه.

ذهب بعض الشراح أو احتملوا أنّ المراد من الذکرفی العبارة، القرآن المجید بقرینة ما أورده القرآن بشأنه فقال: «وَهذَا ذِکْرٌ مُّبَارَک أَنزَلْنَاهُ»(5) ولکن الحق أنّ للذکر مفهوم عام، أحد مصادیقه البارزة الآیات الشریفه للقرآن.

ثم قال الإمام علیه السلام: «وَ مَا بَرِحَ(6) اللّه عَزَّتْ آلاَؤُهُ فِی الْبُرْهَةِ(7) بَعْدَ الْبُرْهَةِ، وَفِی

ص:260


1- (1) . «ذکر» المراد به هنا ذکر اللّه وهو علی ثلاثة أنواع: القلبی، اللسانی والعملی فیتذکر اللّه حین تتوفر مقدمات المعصیة فیترکها. وقیل: الذکر یشمل ذکر اللّه وکذلک القیامة والنبوّة والولایة.
2- (2) «جلاء» إزالة الصدأ والایضاح والإنارة. ویقال للکحل جلاء کونه ینوّر العین.
3- (3) «وقرة» من مادة «وقر» تعنی فی الأصل الثقل، ومن هنا یقال لتعظیم الأفراد توقیر، وقد استعمل الوقر فی القرآن الکریم بمعنی ثقل السمع وهذا هو المعنی المراد هنا.
4- (4) «عشوة» ضعف العین.
5- (5) . سورة الأنبیاء، الآیة 50.
6- (6) . «ما برح» دائماً وأبداً.
7- (7) «برهة» الزمان الطویل أو مدّة من الزمان.

أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِی فِکْرِهِمْ، وَکَلَّمَهُمْ فِی ذَاتِ عُقُولِهِمْ، فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ یَقْظَة فِی الأَبْصَارِ وَالأَسْمَاعِ وَالأَفْئِدَةِ، یُذَکِّرُونَ بِأَیَّامِ اللّه، وَیُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ، بِمَنْزِلَةِ الأَدِلَّةِ فِی الْفَلَوَاتِ(1)».

ربّما هذا التعبیر إشارة لأوصیاء الأنبیاء المتواجدین طیلة الفترات الزمنیة ویستلهمون الحقائق الربانیة عن طریق الإلهامات القلبیّة ویوصلونها إلی العباد.

کما یمکن أن تکون إشارة إلی الصالحین والمخلصین والعارفین والبصیرین غیر الأنبیاء والأوصیاء الذین یعیشون بین الناس فی کلّ زمان؛ فهؤلاء أیضاً یقفون علی الصراط المستقیم بالإلهام الغیبی والتأیید الربّانی ویسعون لهدایة الآخرین، ولعلها تشمل الفریقین.

والتعبیر ب «أَدلّة» جمع دلیل إشارة إلی ما کان سائداً فی الأسفار فی الأزمنة الماضیة، فلم تکن الطرق مشخصة آنذاک کما هی علیه الیوم، فیمر بها المسافر ویصل المقصد، ومن هنا فإنّ القوافل تحمل معها عارفین بالطریق حتی لایضلوا الطریق ویطلق علیهم «الأدلة». فهؤلاء الأولیاء فی الحیاة الدنیا کأدلة الطریق الذین یهدون قافلة البشریّة من الضلال وینقذونهم من الهلکة.

ثم قال علیه السلام: «مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَیْهِ طَرِیقَهُ، وَبَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ، وَمَنْ أَخَذَ یَمِیناً وَشِمَالاً ذَمُّوا إِلَیْهِ الطَّرِیقَ، وَحَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَکَةِ».

نعم! فهؤلاء یراقبون بنی جنسهم علی الدوام؛ فیشجعون السائرین علی الدرب ویشدون عزائمهم ویحذرون المنحرفین ویذمونهم ویصرخون بهم حتی لا یواصلوا طریق الانحراف فیهلکوا.

ثم قال فی استنتاج لما ورد فی العبارات السابقة: «وَکَانُوا کَذلِک مَصَابِیحَ تِلک الظُلُمَاتِ، وَأَدِلَّةَ تِلْک الشُّبُهَاتِ».

نعم! فهنالک الظلمات المعتمة فی مسیرة الحیاة الدنیا والطرق المضلة وکلاهما خطر علی السالکین، ووجود أولئک الأولیاء مصابیح للدجی والأدلة علی ذلک الطریق الخطیر.

ص:261


1- (1) «فلوات» جمع «فلاة» الصحراء القاحلة أو الواسعة.

تأمّلان

1. ما المراد من أیّام اللّه؟

أشار الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة إلی أنّ أولیاء اللّه یذکّرون الناس بأیّام اللّه. طبعاً کلّ الأیّام هی أیّام اللّه وکل موضع بیته وفی نفس الوقت لیس له یوم ولا بیت فهو اسمی من الزمان والمکان؛ ولکن کما سمیت الکعبة کونها اعظم مرکز للعبادة «بیت اللّه»، فإنّ هناک بعض الأیّام الخاصّة التی تلألأت لما تحمله من حوادث مهمّة.

قال البعض: «أیّام اللّه» إشارة إلی غلبة الأنبیاء لجیوش الشرک والکفر. وقال البعض الآخر: أیّام العبادة کأیّام الشهر المبارک وأیّام الحج، ما ورد فی تاریخ بنی إسرائیل وموسی أنّه أمر أن یذکر بنی إسرائیل بأیّام اللّه فی إشارة إلی یوم النصر علی فرعون والنجاة من البحر وما شابه ذلک، ولکن جاء فی حدیث الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال فی تفسیر «أیّام اللّه»: «یُریدُ بِأیّامِ اللّه سُنَنَهُ وَأفْعالَهُ فی عِبادِهِ مِنْ إنْعام وَانْتِقام»(1).

وطبق هذه الروایة فإنّ کلّ یوم یلمس فیه العبد نعمة من نعم اللّه أو ینتصف فیه من الأعداء إنّما یعتبر من أیّام اللّه.

علی کلّ حال فإنّ ذکر ایام اللّه عامل تکامل الإیمان وآثاره حسن الشکر والتوجه إلی اللّه.

حتی أیّام البلاء الربّانی عدّت فی الروایة من أیّام اللّه کما ورد عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «أَیّامُ اللّه نَعْماؤُهُ وَبَلاؤُه وَمَثُلاتُهُ سُبْحانَهُ»(2). لا شک فی أنّ لمفردة أیّام اللّه فی هذه الخطبة مفهوم عام یشمل کلّ ما ذکر سابقاً.

ص:262


1- (1) بحار الأنوار، ج 66، ص 327.
2- (2) . المصدر السابق، ج 67، ص 20.
2. الإلهامات الغیبیة

العبارة «عِبادٌ ناجاهُمْ فی فِکْرِهِمْ وَکَلَّمَهُمْ فی ذاتِ عُقُولِهِمْ...» أشار فیها الإمام علیه السلام إلی رجال ألقی اللّه فی قلوبهم نور الهدی عن طریق النجوی الفکریة والإلهامات القلبیّة وطرح عنهم حجب الجهل والظلمة فسعوا بما یتلقّون من هدی لهدایة الخلق وإرشاد ضالی سبیل الإیمان والتقی.

فهل هؤلاء هم الأوصیاء والأئمّة المعصومون علیهم السلام الذین یتلقون الحقائق من عالم الغیب عن طریق الإلهام فی فترات بعثة الأنبیاء، أم یشمل الصالحین من الأفراد الذین بلغوا قمة الورع والتقوی؟

أی أنّ قلوبهم مرتبطة بعالم الغیب کما هو به مضمون «إِنْ تَتَّقُوا اللّه یَجْعَلْ لَّکُمْ فُرْقَاناً»(1). ومضمون «وَالَّذِینَ جَاهَدُوا فِینَا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنَا»(2).

واللّه لا یترکهم لوحدهم فی الشدّة کأُم موسی علیه السلام: «وَأَوْحَیْنَا إِلَی أُمِّ مُوسَی...» (3) حیث ألهمها مسیر ولدها، فکیف یمکن أن یحرم من هذا الفیض سائر الصالحین، ومن هنا یعتقد بعض الأعلام بأنّ کلّ عمل مهم یصدر من تقی، أو اکتشاف یتوصل إلیه عالم، إنّما یتمّ فی ظل هدایة اللّه التکوینیةّ والإلهامیّة.

فروح القدس الذی یعین بعض الأفراد مثل حسان بن ثابت والکمیت حین إنشادهم لتلک الأشعار الرفیعة وینطق الشعر علی ألسنتهم(4) فلِمَ لا یمدّ سائر العشاق.

***

ص:263


1- (1) سورة الأنفال، الآیة 29.
2- (2) سورة العنکبوت، الآیة 69.
3- (3) . سورة القصص، الآیة 7.
4- (4) ورد فی الحدیث: لما دخل الکمیت شاعر أهل البیت المعروف علی الإمام الباقر علیه السلام وأنشد شعره المعروف: «مَنْ لِقَلْب مُتَیَّم مُسْتَهام» فلما فرغ قال له الإمام: «لاتَزالُ مُؤَیَّداً بِرُوحِ الْقُدُسِ ما دُمْتَ تَقول فینا» (وسائل الشیعة، ج 10، باب 105، أبواب المزار، ح 4). اقتبس الإمام هذا الکلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله الذی قاله لحسان بن ثابت لما أنشده «یُنادیهِمْ یَوْمَ الْغَدیرِ نَبیُّهُمْ». (بحار الأنوار، ج 37، ص 150).

ص:264

القسم الثانی

اشارة

وَإِنّ لِلذِّکْرِ لِاَهْلاً أَخَذُوهُ مِنْ الدُّنْیَا بَدَلاً، فَلَم تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَیْعٌ عَنْهُ، یَقْطَعُونَ بِهِ أَیَّامَ الْحَیَاةِ، وَیَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللّه فِی أَسْمَاعِ الْغَافِلِینَ، وَیَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَیَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَیَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ، فَکَأَنَّمَا قَطَعُوا الدُّنْیَا إِلَی الْآخِرَةِ وَهُمْ فِیهَا، فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذلِک، فَکَأَنَّمَا اطَّلَعُوا غُیُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِی طَولِ الاِْقَامَةِ فِیهِ، وَحَقَّقَتِ الْقِیَامَةُ عَلَیْهِمْ عِدَاتِهَا، فَکَشَفُوا غِطَاءَ ذلِک لاَِهْلِ الدُّنْیَا، حَتَّی کَأَنَّهُمْ یَرَوْنَ مَا لاَ یَرَی النَّاسُ، وَیَسْمَعُونَ مَا لاَ یَسْمَعُونَ.

الشرح والتفسیر: أولیاء اللّه وأهل الذکر

لما فرغ الإمام علیه السلام من بیان آثار ذکراللّه فی جلاء القلوب وسعة معطیاته علی روح الإنسان، خاض فی شرح أهل الذکر بالحق، وتطرق إلی صفاتهم الواحدة تلو الأخری فقال «وَ إِنّ لِلذِّکْرِ لِاَهْلاً أَخَذُوهُ مِنْ الدُّنْیَا بَدَلاً».

إشارة إلی أنّ ذکر اللّه یعصم من الغرور بالمادیات الزائلة للدنیا التی عبرت عن حبّها الأحادیث الإسلامیّة أنّها «رَأْسُ کُلِّ خَطیئَة»(1) ومصدر جمیع المعاصی.

طبعاً هذا لا یعنی أنّ هؤلاء کالرهبان الملازمین للدیر أو المقاطعین للدنیا الذین یولون أدبارهم للحیاة الاجتماعیة (بقرینة العبارات القادمة) بل المراد أنّ هؤلاء لا تأسرهم مُغریات الدنیا.

ص:265


1- (1) الکافی، ج 2، ص 131، ح 11؛ الخصال، ص 25، ح 87.

أمّا ما المراد ب «الذکر» و «الأهل»؟ هنالک تفسیران رئیسیان: أحدهما خاص والآخر عام؛ التفسیر الخاص: أنّ المراد من الذکر، النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أو القرآن وأهل الذکر «أهل البیت» والأئمّة المعصومون علیهم السلام والصفات التی وردت بعد هذه العبارة فی أهل الذکر تنطبق علیهم بصورة تامة.

ومفهومه العام یشمل جمیع العلماء الأتقیاء والمؤمنین الکمل، والصفات الواردة بعدها تنطبق علیهم.

ولیس هنالک مانع من الجمع بین المعنیین؛ فمفهوم الجملة عام وأهل البیت من مصادیقها البارزة وأنصع نماذجها.

ثم بین الإمام علیه السلام فی مواصلته لکلامه آثار ذکر اللّه لدی هؤلاء ضمن خمس صفات فقال: «فَلَم تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَیْعٌ عَنْهُ».

لا أنّهم لم یکن لدیهم بیع وتجارة ولم یمارسوا الأنشطة الاقتصادیة والاجتماعیة، بل کانوا یخطون خطوات مؤثرة فی هذا المجال؛ ولکن هذه الأنشطة الاقتصادیة تجعلهم یغفلون عن ذکر اللّه ویتهالکون فی الاقبال علی الدنیا.

أمّا ما الفرق بین التجارة والبیع؟ یقال أحیاناً النسبة بینهم العموم والخصوص المطلق وذکر البیع بعد التجارة من قبیل ذکر الخاص بعد العام، لأنّ البیع أحد أنواع الفعالیات الاقتصادیة.

کما یحتمل أن تکون التجارة إشارة إلی الفعالیات الاقتصادیة المستمرة ویشمل البیع الفعالیات المحدودة والزمانیة؛ أی أنّ أهل الذکر لا یفقدون هذا ولا ذاک وفی نفس الوقت یتجلی فیها ذکر اللّه بصورة دائمة.

ثم أشار إلی باقی صفاتهم فقال: «یَقْطَعُونَ بِهِ أَیَّامَ الْحَیَاةِ، وَیَهْتِفُونَ(1) بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللّه فِی أَسْمَاعِ الْغَافِلِینَ، وَیَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَیَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ یَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ».

ص:266


1- (1) . «یهتفون» من مادة «هتف» علی وزن «هتک» الصراخ بشخص.

الجملة «یَقْطَعُونَ بِهِ أَیَّامَ الْحَیَاةِ» إشارة إلی أنّ ذکر اللّه وآثاره المبارکة لیست مرتبطة بیوم أوبضعة ایام من عمرهم، بل یشمل أیّام حیاتهم منذ الشباب حتی الکهولة والشیخوخة.

وتشیر العبارات بعدها إلی أنّهم لا یتخلون قط کالمتقوقعین عن المسؤولیّات الاجتماعیة؛ بل نشطون للغایة فی میدان إرشاد الجاهل وتنبیه الغافل والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وبالنظر إلی أنّ العبارة وردت بصیغة الفعل المضارع والفعل المضارع یدل علی الاستمرار، فهی إشارة إلی أنّ أعمالهم الصالحة هذه دائمیة.

جدیر ذکره أنّ الإمام بیّن هنا أنّهم یأمرون بالمعروف ویأتمرون به وینهون عن المنکر ویتناهون عنه، کما قال الإمام علیه السلام فی الخطبة 175: «أَیُّهَا النَّاسُ إِنِّی، وَاللّه، مَا أَحُثُّکُمْ عَلَی طَاعَةٍ إِلاَّ وَأَسْبِقُکُمْ إِلَیْهَا، وَلاَ أَنْهَاکُمْ عَنْ مَعْصِیَةٍ إِلاَّ وَأَتَنَاهَی قَبْلَکُمْ عَنْهَا!».

ثم خاض الإمام علیه السلام فی مزید من الشرح بخصوص أحوال أولیاء اللّه وأهل الذکر فقال: «فَکَأَنَّمَا قَطَعُوا الدُّنْیَا إِلَی الْآخِرَةِ وَهُمْ فِیهَا، فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذلِک».

نعم! فهؤلاء یرون هذا العالم بأعینهم الباصرة النافذة عالم ما بعد الموت والقیامة والبرزخ ویشاهدون مصیر الأخیار والأشرار.

ثم قال فی ایضاح ذلک الکلام: «فَکَأَنَّمَا اطَّلَعُوا غُیُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِی طَولِ الاِْقَامَةِ فِیهِ، وَحَقَّقَتِ الْقِیَامَةُ عَلَیْهِمْ عِدَاتِهَا(1)».

ثمّ بیّن نتیجة هذه المکاشفة الروحیة: «فَکَشَفُوا غِطَاءَ ذلِک لاَِهْلِ الدُّنْیَا، حَتَّی کَأَنَّهُمْ یَرَوْنَ مَا لاَ یَرَی النَّاسُ، وَیَسْمَعُونَ مَا لاَ یَسْمَعُونَ».

لم یعجز أهل الدنیا العادیون عن إدراک أحوال البرزخ والآخرة بینما یشاهدهما

ص:267


1- (1) «عدات» جمع «عدة» بمعنی الوعود وقوله علیه السلام: (وحققت القیامة علیهم عداتها) فی الواقع نوع من المجاز، لأنّ الوعود الإلهیّة وعود الثواب والعقاب عالم تحققه هو عالم القیامة، وعلیه فلا ینبغی تصور الحاجة إلی الحذف والتقدیر.

أولیاء اللّه أهل الذکر بل یرون فیها أنفسهم؟

لأنّ أرواح أهل الدنیا معلقة بالدنیا فألقت حجاباً بینهم وبین العوالم الأخری؛ أمّا أهل الذکر الأطهار المتحررون من تلک التعلّقات والذین جلوا أرواحهم بدوام التفکیر والعبادة، أزیلت عن أعینهم تلک الحجب فانعکست فیها صور حقائق عالم البرزخ والقیامة.

هؤلاء حملة الرسائل الإلهیّة من ذلک العالم إلی هذا العالم، الرسائل التی تؤدی إلی یقظة الغافلین وإبصار المکفوفین.

***

ص:268

القسم الثالث

اشارة

فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِک فِی مَقَاوِمِهِمُ الْمَحْمُودَةِ، وَمَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ، وَقَدْ نَشَرُوا دَوَاوِینَ أَعْمَالِهِمْ، وَفَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَی کُلِّ صَغِیرَةٍ وَکَبِیرَةٍ أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا، أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فِیهَا، وَحَمَّلُوا ثِقَلَ أَوْزَارِهِمْ ظُهُورَهُمْ، فَضَعُفُوا عَنِ الاِْسْتِقْلاَلِ بِهَا، فَنَشَجُوا نَشِیجاً، وَتَجَاوَبُوا نَحِیباً، یَعِجُّونَ إِلَی رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَاعْتِرَافٍ، لَرَأَیْتَ أَعْلاَمَ هُدیً، وَمَصَابِیحَ دُجیً، قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلاَئِکَةُ، وَتَنَزَّلَتْ عَلَیْهِمُ السَّکِینَةُ، وَفُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَأُعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْکَرَامَاتِ فِی مَقْعَدٍ اطَّلَعَ اللّهُ عَلَیْهِمْ فِیهِ، فَرَضِیَ سَعْیَهُمْ، وَحَمِدَ مَقَامَهُمْ. یَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ التَّجَاوُزِ، رَهَائِنُ فَاقَةٍ إِلَی فَضْلِهِ، وَأُسَارَی ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ، جَرَحَ طُولُ الأَسَی قُلُوبَهُمْ، وَطُولُ الْبُکَاءِ عُیُونَهُمْ. لِکُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إِلَی اللّه مِنْهُمْ یَدٌ قَارِعَةٌ، یَسْأَلُونَ مَنْ لاَ تَضِیقُ لَدَیْهِ الْمَنَادِحُ، وَلاَ یَخِیبُ عَلَیْهِ الرَّاغِبُونَ.

فَحَاسِبْ نَفْسَک لِنَفْسِکَ، فَإِنَّ غَیْرَهَا مِنَ الأَنْفُسِ لَهَا حَسِیبٌ غَیْرُک.

الشرح والتفسیر: مصیر السائرین علی الصراط

رسم الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة صورة دقیقة لحال أهل الذکر وأولیاء اللّه، کیف یحاسبون أنفسهم ویتلافون ما بدر منهم فقال: «فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ(1) لِعَقْلِک فِی

ص:269


1- (1) . «مثلتهم» من «التمثیل» علی وزن «خلیل» بمعنی التجسید.

مَقَاوِمِهِمُ(1) الْمَحْمودَةِ، وَمَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ، وَقَدْ نَشَرُوا دَوَاوِینَ(2) أَعْمَالِهِمْ، وَفَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَی کُلِّ صَغِیرَةٍ وَکَبِیرَةٍ أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا، أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فِیهَا، وَحَمَّلُوا ثِقَلَ أَوْزَارِهِمْ(3) ظُهُورَهُمْ، فَضَعُفُوا عَنِ الاِْسْتِقْلاَلِ بِهَا، فَنَشَجُوا نَشِیجاً(4) ، وَتَجَاوَبُوا(5) نَحِیباً(6) ، یَعِجُّونَ(7) إِلَی رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَاعْتِرَافٍ».

ولما فرغ الإمام علیه السلام من ذکر حالات أولیاء اللّه کیف یراقبون أنفسهم ویحاسبون أعمالهم وما یبدون من ردود أفعال إزاء ما یبدر منهم من تقصیر ویتأوّهون إلی اللّه خلص إلی نتیجة ذلک فقال: «لَرَأَیْتَ أَعْلاَمَ هُدیً، وَمَصَابِیحَ دُجیً(8) ، قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلاَئِکَةُ، وَتَنَزَّلَتْ عَلَیْهِمُ السَّکِینَةُ، وَفُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَأُعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْکَرَامَاتِ فِی مَقْعَدٍ اطَّلَعَ اللّه عَلَیْهِمْ فِیهِ، فَرَضِیَ سَعْیَهُمْ، وَحَمِدَ مَقَامَهُمْ».

هذا القسم من کلام الإمام فی الواقع جواب شرط للجملة السابقة: «فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ...». ذکر الإمام علیه السلام هنا خمس صفات أو نتیجة مهمّة لمراقباتهم تفید الهدی وکشف الدجی. إشارة إلی أنّهم لیسوا کالزهاد المعتزلین قط الذین لا یرون إلّا أنفسهم، بل هم منقذو الغرقی الذین یسعون لإنقاذ الغرقی فی بحر المعاصی، وأنّهم علی درجة من العلو والرفعة من حیث المقام والمکانة بحیث تحفهم الملائکة وتقوم

ص:270


1- (1) . «مقاوم» جمع «مقام» المکانة المعنویة أو البدنیة.
2- (2) «دواوین» جمع «دیوان» الدفتر وتعنی هنا صحیفة العمل.
3- (3) . «أوزار» جمع «وزر» علی وزن «حرز» الحمل الثقیل وتعنی هنا حمل المسؤولیات الثقال.
4- (4) «النشیج» الاختناق بالبکاء وترجیع الصوت فی الحنجرة إثر البکاء.
5- (5) «تجاوبوا» من «التجاوب» أجاب بعضهم بعضاً وتشیر هنا إلی جماعة یجلسون فی مکان ویبکون معاً.
6- (6) «النحیب» شدّة البکاء.
7- (7) «یعجّون» من مادة «عج» علی وزن «حج» الصیاح.
8- (8) . «دُجی» جمع «دُجْیة» علی وزن «لقمة» الظلمة وتستعمل هذه المفردة أحیاناً بمعنی المفرد.

علی خدمتهم کما ورد فی القرآن: «الَّذِینَ قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَیْهِمُ الْمَلاَئِکَةُ»(1).

وقد عمهم الأمن والسکینة بمضمون «هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ السَّکِینَةَ فِی قُلُوبِ الْمُؤْمِنِینَ لِیَزْدَادُوا إِیمَاناً مَّعَ إِیمَانِهِمْ»(2). وتنتظرهم بمضمون «إِنَّ الْمُتَّقِینَ فِی جَنَّات وَنَهَر * فِی مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِیکٍ مُّقْتَدِرٍ»(3) مقامات لا توصف من الفضل والرحمة الإلهیّة.

حقاً حین یقرأ الإنسان هذه الکلمات العمیقة المعنی کیف یبلغ أولیاء اللّه فی ظل العبودیة مقاماً لا یری سوی اللّه یستغرق فی التفکیر فی عظم الاستعداد الذی یملکه ولو عرف قدره وفجر استعداده.

ثم خاض فی جانب آخر من أحوال أهل الذکر فی إرتباطهم باللّه وعبادته فی الخلوات فقال علیه السلام: «یَتَنَسَّمُونَ(4) بِدُعَائِهِ رَوْحَ التَّجَاوُزِ، رَهَائِنُ فَاقَةٍ إِلَی فَضْلِهِ، وَأُسَارَی ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ، جَرَحَ طُولُ الأَسَی(5) قُلُوبَهُمْ، وَطُولُ الْبُکَاءِ عُیُونَهُمْ».

إشارة إلی أنّهم کلما جدّوا فی الطاعة والعبودیة شعروا بالتقصیر أزاء عظمة اللّه، ومن هنا یتجهون إلیه علی الدوام ویلتمسون السکینة عن طریق العفو، ومن جانب آخر فإنّهم لایعوّلون قط علی أعمالهم، بل یتکلون علی فضل اللّه فیثقل الهم قلوبهم ویکشف ذلک الهم عیونهم الباکیة.

ثم قال علیه السلام: «لِکُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إِلَی اللّه مِنْهُمْ یَدٌ قَارِعَةٌ، یَسْأَلُونَ مَنْ لاَ تَضِیقُ لَدَیْهِ الْمَنَادِحُ(6) ، وَلاَ یَخِیبُ عَلَیْهِ الرَّاغِبُونَ».

إشارة إلی أنّهم لا یتعلقون بأعمالهم وکل أملهم بکرم اللّه.

یقرعون کلّ باب ویأتون بکلّ عمل یعتقدون بأنّه سبب لمرضاة اللّه واستنزال

ص:271


1- (1) سورة فصلت، الآیة 30.
2- (2) . سورة الفتح، الآیة 4.
3- (3) سورة القمر، الآیتان 54 و 55.
4- (4) . «یتنسمون» من «النسیم» فالعبارة «یتنسمون» تعنی أنّهم ینتظرون النسیم و «التنسُم» بمعنی التنفس.
5- (5) «اَلأسی» الحزن.
6- (6) «المنادح» جمع «مندوحة» الأرض الواسعة ثم اطلقت علی کلّ نظام واسع فیه حریة.

رحمته.

إنّهم یعیشون فی الواقع بین الخوف والرجاء دائماً وهو أفضل حالات المؤمن، الخوف من التقصیر والأمل بفضل اللّه.

وفی الختام تغیر لحن کلام الإمام علیه السلام عن شرح حالات أهل الذکر لیتطرق إلی موعظة عامة فقال: «فَحَاسِبْ نَفْسَک لِنَفْسِک، فَإِنَّ غَیْرَهَا مِنَ الأَنْفُسِ لَهَا حَسِیبٌ غَیْرُک».

إشارة إلی أنّه ینبغی علیک أن تحاسب نفسک هنا قبل أن تحاسب فی البرزخ والقیامة من جانب الملائکة فإن بدر منک خطأ تلافیته وإن کان لک عمل صالح حمدت اللّه علیه؛ ولیس لک أن تدقق فی أعمال الآخرین الصغیرة والکبیرة فإنّ لهم حسیباً غیرک.

فهنالک فی الواقع رسالتان فی العبارة الأخیرة؛ إحداهما، رسالة الحدیث المعروف «حاسِبُوا أنْفُسَکُمْ قَبْلَ أنْ تُحاسَبُوا»(1).

والأخری، رسالة الآیة الشریفة: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ امَنُوا عَلَیْکُمْ أَنفُسَکُمْ لاَ یَضُرُّکُمْ مَّنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَیْتُمْ»(2).

تأمّل: ذکر اللّه والذاکرون

کل ما ورد فی هذه الخطبة الغراء والعظیمة المضمون کان شرحاً لعبارة من آیة فی القرآن الکریم وهی أنّ أولیاء اللّه لایغفلون قط عن ذکر اللّه لمتاع الدنیا، فنور اللّه یسطع فی بیوتهم وهم کالنجوم التی تهدی الخلق فی ظلمات البر والبحر.

بغض النظر عن أنّ للذکر ثلاث مراحل: الذکر القلبی، واللسانی والذکر بالعمل، فهنالک مصادیق متفاوتة لکل مرحلة کالنور الذی یشمل نور الشمس ونور الشمعة.

ویکون أحیاناً هذا الذکر محدوداً بحیث لایضیئ اکثر من الوسط، وأخری علی

ص:272


1- (1) وسائل الشیعة، ج 16، ص 99، ح 21082.
2- (2) سورة المائدة، الآیة 105.

درجة من العمق والسعة بحیث یضیئ العالم.

وأولی القرآن أهمّیّة فائقة للذکر والذاکرین. فقد خاطب اللّه تعالی موسی علیه السلام:

«أَقِمِ الصَّلوةَ لِذِکْرِی»(1).

وقال أیضاً: «إِنَّ الصَّلوةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْکَرِ وَلَذِکْرُ اللّه أَکْبَرُ»(2).

وقال بخصوص الخمر: إنّه نهی عن الخمر کونه یصدّ عن ذکر اللّه: «وَیَصُدَّکُمْ عَنْ ذِکْرِ اللّه»(3).

کما یقول إن نفوذ الشیطان یبدأ حین یغفل الإنسان ذکر اللّه: «وَمَنْ یَعْشُ عَنْ ذِکْرِ الرَّحْمَانِ نُقَیِّضْ لَهُ شَیْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِینٌ»(4).

وأوجز تعالی کلّ عظمة القرآن فی عبارة فقال: «إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِکْرٌ لِلْعَالَمِینَ»(5).

وقال تعالی: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(6).

وأخیراً وصف ذکر اللّه أنّه وسیلة لاطمئنان القلوب: «أَلاَ بِذِکْرِ اللّه تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(7).

ورغم أنّ للذکر معانی مختلفة فی هذه الآیات؛ لکنها تشترک جمیعاً فی أمر هو أنّه یسوق الإنسان إلی اللّه، یجری من القلب علی اللسان ویتسع من اللسان لجمیع أعمال الإنسان. وکأنّ جمیع الأعضاء تذکر اللّه بصوت بلیغ فی کلّ الأعمال.

کما وردت الأهمیّة الفائقة للذکر والذاکرین فی الروایات:

منها ماروی عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «ما مِنْ شَیْءٍ إلّاوَلَهُ حَدٌّ یَنْتَهی إلَیْهِ

ص:273


1- (1) سورة طه، الآیة 14.
2- (2) سورة العنکبوت، الآیة 45.
3- (3) سورة المائدة، الآیة 91.
4- (4) سورة یوسف، الآیة 104.
5- (5) سورة الزخرف، الآیة 36.
6- (6) سورة الأنبیاء، الآیة 7.
7- (7) سورة الرعد، الآیة 28.

إلّا الذِّکْرَ فَلَیْسَ لَهُ حَدٌّ یَنْتَهی إِلَیْهِ»(1).

کما ورد عنه علیه السلام أیضاً: «مَنْ أکْثَرَ ذِکْرَ اللّه عَزَّ وَجَلَّ أظَلَّهُ اللّه فی جَنَّتِه»(2).

ویستفاد من بعض الروایات أنّ ذکر اللّه یدفع أنواع البلاء. قال الإمام الصادق علیه السلام:

«إنَّ الصَّواعِقَ لا تُصیبُ ذاکِراً»(3).

بل أبعد من ذلک أنّه علیه السلام قال: «ما مِنْ طَیْرٍ یُصادُ إلّابِتَرْکِ التَّسْبیحِ وَما مِنْ مالٍ یُصابُ إلّابِتَرْکِ الزَّکاة»(4).

زبدة الکلام أنّ الآیات والروایات فی ذکر اللّه وأهمّیته وآثاره علی الحیاة المادیة والمعنویة والدنیا والآخرة کثیرة، وما ورد سابقاً هو جانب من ذلک.

ونختتم هذا الکلام بروایة عن الإمام الصادق علیه السلام التی بیّنها فی تتمّة حدیث، عدم محدودیة الذکر فقال: «کانَ أبی کَثیرَ الذِّکْرِ لَقَدْ کُنْتُ أمْشی مَعَهُ وَإِنَّهُ لَیَذْکُرُ اللّه وَآکُلُ مَعَهُ الطَّعامَ وَ إِنَّهُ لَیَذْکُرُ اللّه وَلَقَدْ کانَ یُحدِّثُ الْقَومَ وَما یَشْغُلُهُ ذلِک عَنْ ذِکْرِ اللّه...»(5).

***

ص:274


1- (1) الکافی، ج 2، ص 498، ح 1.
2- (2) المصدر السابق، ص 500، ح 5.
3- (3) المصدر السابق، ح 2.
4- (4) وسائل الشیعة، ج 6، ص 15، کتاب الزکاة، باب تحریم منع الزکاة، ح 20.
5- (5) الکافی، ج 2، ص 499، ح 5.

الخطبة 223

اشارة

قالَهُ عِنْدَ تِلاوَتِهِ : «یَا أَیُّهَا الاِْنسَانُ مَا غَرَّک بِرَبِّک الْکَرِیمِ(1)» (2)

نظرة إلی الخطبة

تتألف هذه الخطبة الواردة فی تفسیر الآیة الشریفة: «یَا أَیُّهَا الاِْنسَانُ مَا غَرَّک بِرَبِّک الْکَرِیمِ» من عدة أقسام:

القسم الأوّل: تساءل الإمام ووبّخ صحبه ومخاطبیه من أجل إیقاظهم وبثّ الوعی بین صفوفهم فإلی متی هم نائمون ولم لا یفیقون من هذا السبات؟ لمَ لا یرحمون أنفسهم وینقذونها ممّا تغط به فی مستنقع الذنوب والمعاصی ویطببون جروحهم وآلام قلوبهم التی أفرزتها الآثام.

ودعا فی القسم الثانی هذا الإنسان الهارب لمحاکمة نفسه. فیذکرها بنعم اللّه فلو

ص:275


1- (1) سورة الانفطار، الآیة 6.
2- (2) سند الخطبة: ذکر فی «مصادر نهج البلاغة» مصدرین یستفاد من القرائن أنّهم استقوا هذه الخطبة من مصدر غیر «نهج البلاغة»: الأوّل «شرح نهج البلاغة» لابن أبی الحدید الذی ذکر بعضها باختلاف مع ما ورد فی «نهج البلاغة»، والآخر «غررالحکم» الذی أورد جانباً منها باختلاف مع ما ورد فی «نهج البلاغة». (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 155).

تفرغ لمحاکتها لأدان نفسه قطعاً.

وتحدث فی القسم الثالث عن تقلب أوضاع الدنیا والاعتبار بحیاة الماضین ومماتهم. وحذّر فی آخر قسم ببضع عبارات موجزة فناء الدنیا وقیام القیامة وحضور محکمة العدل الإلهی وغیاب الأعذار هناک.

ثم جعل کلّ هذه التذکیرات والتحذیرات وسیلة لخرق حجاب الغرور الذی أشار إلیه فی الآیة المذکورة.

***

ص:276

القسم الأوّل

اشارة

أَدْحَضُ مَسْؤُولٍ حُجَّةً، وَأَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً، لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِهِ.

یَا أَیُّهَا الاِْنْسَانُ، مَا جَرَّأَک عَلَی ذَنْبِک، وَمَا غَرَّک بِرَبِّک، وَمَا أَنَّسَک بِهَلَکَةِ نَفْسِک؟ أَمَا مِنْ دَائِک بُلُولٌ، أَمْ لَیْسَ مِنْ نَوْمَتِک یَقَظَةٌ؟ أَمَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِک مَا تَرْحَمُ مِنْ غَیْرِک؟ فَلَرُبَّمَا تَرَی الضَّاحِیَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ، أَوْ تَرَی الْمُبْتَلِی بِأَلَمٍ یُمِضُّ جَسَدَهُ فَتَبْکِی رَحْمَةً لَهُ! فَمَا صَبَّرَک عَلَی دَائِک، وَجَلَّدَک عَلَی مُصَابِک، وَعَزَّاک عَنِ الْبُکَاءِ عَلَی نَفْسِک وَهِیَ أَعَزُّ الأَنْفُسِ عَلَیْک! وَکَیْفَ لاَ یُوقِظُک خَوْفُ بَیَاتِ نِقْمَةٍ، وَقَدْ تَوَرَّطْتَ بِمَعَاصِیهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ! فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَةِ فِی قَلْبِک بِعَزِیمَةٍ، وَمِنْ کَرَی الْغَفْلَةِ فِی نَاظِرِک بِیَقَظَةٍ، وَکُنْ للّه مُطِیعاً، وَبِذِکْرِهِ آنِساً.

الشرح والتفسیر: الرحمة بالنفس؟

قال الإمام علیه السلام فی مستهل الخطبة علی ضوء الآیة المذکورة «أَدْحَضُ(1) مَسْؤُولٍ حُجَّةً، وَأَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً، لَقَدْ أَبْرَحَ(2) جَهَالَةً بِنَفْسِهِ».

فقد أشار الإمام علیه السلام فی الواقع إلی هذه النقطة وهی أنّ اللّه یصرّح فی هذه الآیة:

لقد أفاض اللّه علیک کلّ هذا الکرم بالنعم المادیة والمعنویة من رأسک إلی أخمص قدمک ومازلت مغروراً وعاصیاً ومتمرداً؟! فلیس لدیک أدنی حجة ولیس لدیک من

ص:277


1- (1) . «أدحض» من «الإدحاض» ابطل وغلب ومن مادة «دحض» الغلبة.
2- (2) «أبرح» من مادة «برح» علی وزن «حرف» الشدّة کما وردت بمعنی الزوال والمعنی الأوّل هو المراد فی العبارة.

عذر وعملک یدل علی أنّک لم تعرف نفسک.

ومن هنا یتضح خطأ من ذهب إلی أنّ صفة الکریم فی الآیة لتلقین المخاطب بأن یقول فی الجواب: «غرّنی کرمک»، بل یرید أن یقول بالعکس رغم کلّ هذا الکرم واللطف مع کلّ هذا العصیان المخجل الذی یفتقر إلی العذر والحجّة، لذلک ورد فی الحدیث النبوی أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله لما تلا الآیة قال: «غرّهُ جَهلُهُ»(1).

ثم خاض الإمام علیه السلام فی شرح هذا الکلام لیسلط بهذه العبارات سوط ملامته وتوبیخه علی جسد أرواحهم الهامدة علّهم یفیقون ویعودوا عن غیهم فقال: «یَا أَیُّهَا الاِْنْسَانُ، مَا جَرَّأَک عَلَی ذَنْبِک، وَمَا غَرَّک بِرَبِّک، وَمَا أَنَّسَک بِهَلَکَةِ نَفْسِک؟».

إشارة إلی أنّ غریزة حبّ الذات فی الإنسان أقوی الغرائز؛ فالإنسان بصورة طبیعیة یحب نفسه أکثر من أی شخص آخر وإذا رأینا شخصاً یطعن صدره وعضده لذهلنا وتساءلنا مع أنفسنا: هل أصیب بالجنون، أو یرغب شخص عاقل بهلاک نفسه؟ فإن لم تکن للإنسان أدنی رغبة بهلاک نفسه فلم یتقبل الغرور والذنب والمعصیة التی تؤدی إلی هلاکه؟!

ثم قال علیه السلام: «أَمَا مِنْ دَائِک بُلُولٌ(2) ، أَمْ لَیْسَ مِنْ نَوْمَتِک یَقَظَةٌ؟ أَمَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِک مَا تَرْحَمُ مِنْ غَیْرِک؟».

ثم أوضح هذه الحقیقة بذکر مثال فقال: «فَلَرُبَّمَا تَرَی الضَّاحِیَ(3) مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ، أَوْ تَرَی الْمُبْتَلِی بِأَلَمٍ یُمِضُّ(4) جَسَدَهُ فَتَبْکِی رَحْمَةً لَهُ! فَمَا صَبَّرَک عَلَی دَائِک، وَجَلَّدَک(5) عَلَی مُصَابِک، وَعَزَّاک عَنِ الْبُکَاءِ عَلَی نَفْسِک وَهِیَ أَعَزُّ الأَنْفُسِ عَلَیْک!».

إشارة إلی ما نراه من تناقض فی فعل الآخرین وازدواج فی أحکامهم فهم یبدون

ص:278


1- (1) تفسیر مجمع البیان، ذیل الآیة 6 من سورة الانفطار.
2- (2) . «البلول» التحسن من المرض کما وردت بمعنی الغنی والنشاط.
3- (3) . «الضاحی» الشخص المعرض لضوء الشمس، من مادة «ضحو» علی وزن «محو» التعرض لأشعة الشمس ویقال «ضحی» حین تتسع أشعة الشمس علی الأرض.
4- (4) . «یمضّ» من مادة «مضّ» علی وزن «حضّ» یؤلم.
5- (5) «الجلد» من مادة «جلد» علی وزن «بلد» القوّة أو التحمل.

أشد ردود الأفعال إزاء انزعاج الآخرین وسقم المرضی وأحیاناً تسیل الدموع من أعینهم فی حین مرضهم أشد ومصیبتهم أعظم ولا یبدون أی رد فعل.

أراد الإمام علیه السلام بهذا البیان المنطقی البلیغ أن یوقظ هؤلاء الغافلین الجهّال والساذجین ویلفت انتباههم إلی ما ینتظرهم من مصیر خطیر لعلهم یتوبون وینیبون إلی اللّه.

ثم قال علیه السلام: «وَکَیْفَ لاَ یُوقِظُک خَوْفُ بَیَاتِ(1) نِقْمَة، وَقَدْ تَوَرَّطْتَ(2) بِمَعَاصِیهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ(3)! فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَةِ فِی قَلْبِک بِعَزِیمَةٍ، وَمِنْ کَرَی(4) الْغَفْلَةِ فِی نَاظِرِک بِیَقَظَةٍ».

هنالک أمران ضروریان للخلاص من الخطر: الیقظة والحذر من جهة والإرادة والعزم الراسخ من جهة أخری وقد أشار الإمام إلی هذین الأمرین بهذه العبارة الموجزة فحذّر الجهال بأن یفیقوا من سبات الغفلة ویعقدوا العزم مادامت الفرصة سانحة علی خلاص أنفسهم من مخالب المعاصی التی تؤجج نیران الغضب الربانی.

التعبیر ب «بَیَاتِ نِقْمَة» کون ضحایا البلاء النازل لیلاً أکثر؛ من قبیل الزلازل والسیول والعواصف التی تحدث لیلاً ویغط الناس فی النوم ولا یملکون من وسیلة للدفاع عن أنفسهم.

قال تعالی فی القرآن المجید: «أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَی أَنْ یَأْتِیَهُمْ بَأْسُنَا بَیَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَی أَنْ یَأْتِیَهُمْ بَأْسُنَا ضُحیً وَهُمْ یَلْعَبُونَ»(5).

وقال فی ختام هذه الفقرة: «وَکُنْ للّه مُطِیعاً، وَبِذِکْرِهِ آنِساً».

ص:279


1- (1) . «بیات» إن وردت هذه المفردة مصدراً عنت البقاء والمبیت لیلاً فی مکان وإن کان لها معنی الاسم عنت اللیل وهذا هو المعنی المراد فی العبارة.
2- (2) «التورّط» من مادة «ورط» علی وزن «شرط» الإلقاء فی المستنقع و «قد تورّطت بمعاصیه» یعنی القیت بنفسی فی غضب اللّه بسبب المعاصی.
3- (3) . «سطوات» جمع «سطوه» القهر والغلبة والسلطة علی الشیء.
4- (4) «الکری» النوم والنعاس.
5- (5) سورة الأعراف، الآیتان 97 و 98.

ص:280

القسم الثانی

اشارة

وَتَمَثَّلْ فِی حَالِ تَوَلِّیک عَنْهُ إِقْبَالَهُ عَلَیْک، یَدْعُوک إِلَی عَفْوِهِ، وَیَتَغَمَّدُک بِفَضْلِهِ، وَأَنْتَ مُتَوَلٍّ عَنْهُ إِلَی غَیْرِهِ، فَتَعَالَی مِنْ قَوِیٍّ مَا أَکْرَمَهُ! وَتَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِیفٍ مَا أَجْرَأَک عَلَی مَعْصِیَتِهِ! وَأَنْتَ فِی کَنَفِ سِتْرِهِ مُقِیمٌ، وَفِی سَعَةِ فَضْلِهِ مُتَقَلِّبٌ. فَلَمْ یَمْنَعْک فَضْلَهُ، وَلَمْ یَهْتِکْ عَنْک سِتْرَهُ، بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرِفَ عَیْنٍ فِی نِعْمَةٍ یُحْدِثُهَا لَک، أَوْ سَیِّئَةٍ یَسْتُرُهَا عَلَیْک، أَوْ بَلِیَّةٍ یَصْرِفُهَا عَنْک! فَمَا ظَنُّک بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ! وَأیْمُ اللّهِ لَوْ أَنَّ هذِهِ الصِّفَةَ کانَتْ فِی مُتَّفِقَیْنِ فِی الْقُوَّةِ، مُتَوَازِیَیْنِ فِی الْقُدْرَةِ، لَکُنْتَ أَوَّلَ حَاکِمٍ عَلَی نَفْسِک بِذَمِیمِ الأَخْلاَقِ، وَمَسَاوِیءِ الأَعْمَالِ.

الشرح والتفسیر: رحمة اللّه ومعصیة العبد؟!

دعا الإمام علیه السلام الناس فی هذا الجانب من الخطبة إلی الحکم علی أنفسهم وعدد أدلة إدانته، ومن ذلک أنّه یحث الخطی دائماً فی طریق العصیان من جهة ومن جهة أخری یمطره اللّه بوابل فضله ورحمته فقال: «وَتَمَثَّلْ(1) فِی حَالِ تَوَلِّیک عَنْهُ إِقْبَالَهُ عَلَیْک، یَدْعُوک إِلَی عَفْوِهِ، وَیَتَغَمَّدُک(2) بِفَضْلِهِ، وَأَنْتَ مُتَوَلٍّ عَنْهُ إِلَی غَیْرِهِ».

حقّاً إنّه لمن المؤسف والمخجل أن یکون مولی الإنسان کریماً یغذیه بأنواع النعم لکنه یتولی عنه دائماً؛ الأمر الذی لا یقبله أی وجدان.

ص:281


1- (1) . «تمثّل» کما اشیر إلیه فی الخطبة السابقة من «المثول» علی وزن «حلول» بمعنی التجسید.
2- (2) «یتغمّد» فی الأصل من «الغمد» علی وزن «هند» بمعنی غطاء السیف و «تغمّد» الوضع فی الغطاء. ثم استعملت بمعنی الشمول واُرید بها فی العبارة أن فضل اللّه عمّکم.

وهذا ما نقرأه فی دعاء الافتتاح فی شهر رمضان المبارک: «یا رَبِّ، انَّک تَدْعُونی فَاُوَلّی عَنْک، وَتَتَحَبَّبُ الَیَّ فَاَتَبَغَّضُ الَیْک، وَتَتَوَدَّدُ الَیَّ فَلا اقْبَلُ مِنْک، کَاَنَّ لِیَ التَّطَوُّلَ عَلَیْک، فَلَمْ یَمْنَعْک ذلِک مِنَ الرَّحْمَةِ لی وَالاِْحْسانِ الَیَّ، وَالتَّفَضُّلِ عَلَیَّ بِجُودِک وَکَرَمِک».

ثم قال: «فَتَعَالَی مِنْ قَوِیٍّ مَا أَکْرَمَهُ! وَتَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِیفٍ مَا أَجْرَأَک عَلَی مَعْصِیَتِهِ! وَأَنْتَ فِی کَنَفِ(1) سِتْرِهِ مُقِیمٌ، وَفِی سَعَةِ فَضْلِهِ مُتَقَلِّبٌ!».

إشارة إلی أنّه لیس من العجب أن یعتمد الأفراد الأقویاء أُسلوب العنف. والعجب أن یسلک الفرد الضعیف والذلیل العاجز هذا الطریق؛ إلّاأنّ اللّه بکلّ تلک القدرة العظیمة هو منتهی الحب والرأفة بینما یبدی هذا الإنسان بکلّ هذا الضعف والعجز کلّ هذه الجرأة علی المعصیة فی حین لا یمسک عنه فضله ورحمته وهذا عجیب حقّاً!

ثم قال علیه السلام: «فَلَمْ یَمْنَعْک فَضْلَهُ، وَلَمْ یَهْتِک عَنْک سِتْرَهُ، بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرِفَ عَیْنٍ(2) فِی نِعْمَةٍ یُحْدِثُهَا لَک، أَوْ سَیِّئَةٍ یَسْتُرُهَا عَلَیْک، أَوْ بَلِیَّةٍ یَصْرِفُهَا عَنْک! فَمَا ظَنُّک بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ!».

إشارة إلی أنّ الإنسان لا یخلو من ثلاث حالات: إما مشمول بنعمة لابدّ أن یؤدی شکرها، أو ارتکب معصیة سترها اللّه وعلیه أن یمتن لذلک الستر ویستغفر أو دفع عنه بلاءً وینبغی له أن یعرف قیمة هذه النعمة، هذا بینما مَن یسیر فی طریق العصیان لا یکترث لأوامر اللّه ونواهیه، فما عساه أن فکر بأنّ اللّه الرحیم والغایة فی الکرم کیف سیجازیهم إن أطاعوه، وهذه هی مسألة «وجوب شکر المنعم» التی یمکنها أن تکون دافعاً لمعرفة اللّه کما یقول علماء العقائد.

آنذاک نظر الإمام إلی هذه المسألة من زاویة أخری فخاض فی بیان آخر لإیقاظ

ص:282


1- (1) «کنف» من مادة «کنف» علی وزن «حرف» بمعنی محفوظ.
2- (2) . «مطرف عین» من مادة «طرف» علی وزن «حرف» إغماض العین وفتحها و «مطرف» مصدر میمی بالمعنی المذکور.

مخاطبیه فقال علیه السلام: «وَأیْمُ اللّه(1) لَوْ أَنَّ هذِهِ الصِّفَةَ کانَتْ فِی مُتَّفِقَیْنِ فِی الْقَوَّةِ، مُتَوَازِیَیْنِ فِی الْقُدْرَةِ، لَکُنْتَ أَوَّلَ حَاکِمٍ عَلَی نَفْسِک بِذَمِیمِ الأَخْلاَقِ، وَمَسَاوِیءِ الأَعْمَالِ».

ذهب بعض شرّاح «نهج البلاغة» إلی أنّ العبارة السابقة بصیغة صغری وکبری من الشکل الأوّل من القیاسات المنطقیة؛ ولکن الظاهر أنّ سیاق العبارة ناظر لقیاس الأولویّة؛ أی أنّ فردین متشاکلین لا یخشیان بعضهما عادة، مع ذلک إن کان أحدهما یحسن دائماً والآخر یسیئ فإنّ وجدان الفرد الثانی یدینه ویتهمه بسوء الخلق. فإن کانت هذه المسألة بین أحد غایة فی العظمة وآخر غایة فی الصغر بحیث لیست هنالک من حاجة وخوف وخشیة فی لطفه ورحمته من جهة ومن جهة أخری کله حاجة وخشیة من العقاب علی المعاصی، قطعاً علی ذلک الفرد الصغیر فی ظل تلک الظروف أن یلوم نفسه لِمَ الفعل المخجل إزاء کلّ هذا الکرم.

***

ص:283


1- (1) . «أیم» فی الأصل «أیمن» حسب بعض أرباب اللغة جمع «یمین» بمعنی القسم سقطت نونه ومعنی العبارة أقسم باللّه.

ص:284

القسم الثالث

اشارة

وَ حَقّاً أَقُولُ! مَا الدُّنْیَا غَرَّتْکَ، وَلکِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ، وَلَقَدْ کَاشَفَتْکَ الْعِظَاتِ، وَآذَنَتْکَ عَلَی سَوَاءٍ، وَلَهِیَ بِمَا تَعِدُک مِنْ نُزُولِ الْبَلاَءِ بِجِسْمِکَ، وَالنَّقْصِ فِی قُوَّتِکَ، أَصْدَقُ وَأَوْفَی مِنْ أَنْ تَکْذِبَک، أَوْ تَغُرَّکَ. وَلَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَک مُتَّهَمٌ، صَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُکَذَّبٌ، وَلَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا فِی الدِّیَارِ الْخَاوِیَةِ، وَالرُّبُوعِ الْخَالِیَةِ، لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْکِیرِکَ، وَبَلاَغِ مَوْعِظَتِکَ، بِمَحَلَّةِ الشَّفِیقِ عَلَیْک، وَ الشَّحِیحِ بِک! وَلَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ یَرْضَ بِهَا دَاراً، وَمَحَلُّ مَنْ لَمْ یُوَطِّنْهَا مَحَلاًّ! وَإِنَّ السُّعَدَاءَ بِالدُّنْیَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْیَوْمَ.

الشرح والتفسیر: الدنیا أعظم واعظ

لما کان أغلب المتهافتین علی الدنیا یحملون الدنیا مسؤولیة معاصیهم لإبراء أنفسهم ویعدون زخارف الدنیا ونعمها المادیة سبب اثامهم فإنّ الإمام ردّ علیهم فی هذا الجانب من الخطبة فقال: «وَحَقّاً أَقُولُ! مَا الدُّنْیَا غَرَّتْکَ، وَلکِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ».

ثم خاض فی بیان دلیل ذلک الکلام فقال: «وَلَقَدْ کَاشَفَتْک الْعِظَاتِ(1) ، وَآذَنَتْکَ (2)عَلَی سَوَاء».

إشارة إلی أنّ الدنیا لیست غرّارة فحسب، بل تقع فیها أحداث موقظة، والإمام

ص:285


1- (1) . «عظات» جمع «عظة» بمعنی الموعظة والنصیحة وهی هنا کنایة عن حوادث الدنیا المریرة التی تؤدی إلی الیقظة.
2- (2) «آذنت» من «الإیذان» بمعنی الإعلان المقرون بالتهدید وأحیاناً تعنی إعلان الحرب ثم وردت بمعنی الإعلان المطلق واطلاق الأذان کونه یعلن الدخول فی الصلاة.

خاض فی العبارات الآتیة فی شرحها قائلاً: «وَلَهِیَ بِمَا تَعِدُک مِنْ نُزُولِ الْبَلاَءِ بِجِسْمِک، وَالنَّقْصِ فِی قُوَّتِک، أَصْدَقُ وَأَوْفَی مِنْ أَنْ تَکْذِبَک، أَوْ تَغُرَّک. وَلَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَک مُتَّهَمٌ، وَصَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُکَذَّبٌ».

إشارة إلی أنّ الدنیا عندما تصیبک بأنواع البلاء والمصائب والأحداث الألیمة وتغیر القدرة، وهی صادقة ولا یصح وصفها بالخداع کما صدق من أخبرک من أولیاء اللّه والصالحین عن غدر الدنیا وتقلب أحوالها وإن لم یکن کلامهم موافقاً لهوی نفسک؛ فلم تقبل لسان حال الدنیا ولا لسان حال أولیاء اللّه واتهمت الجمیع بالکذب، وعلیه فهذا أنت من غرّ نفسه.

کما یحتمل أن یکون تفسیر العبارة الأخیرة، أنّالناصح هو الحوادث الألیمة وأخبار الصدق علامات غدر الدنیا التی یراها الإنسان بعینه ویسمعها بأذنه؛ ولکنّها حیث لا تتفق وأهوائه فإنّه یکذبها جمیعاً ویقول هی مجرّد حادثة صدفة فزالت ولن تتکرر.

ثم وضح أکثر هذه الحقیقة وجعلها معلومة للجمیع فقال: «وَ لَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا فِی الدِّیَارِ الْخَاوِیَةِ(1) ، وَالرُّبُوعِ(2) الْخَالِیَةِ، لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْکِیرِک، وَبَلاَغِ مَوْعِظَتِک، بِمَحَلَّةِ الشَّفِیقِ عَلَیْک، وَالشَّحِیحِ(3) بِک!».

ثم قال فی آخر عبارة: «وَ لَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ یَرْضَ بِهَا دَاراً، وَمَحَلُّ مَنْ لَمْ یُوَطِّنْهَا مَحَلاًّ! وَإِنَّ السُّعَدَاءَ بِالدُّنْیَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْیَوْمَ».

إشارة إلی أنّ الأفراد المؤمنین والیقظین یسعهم أن یجعلوا من هذه الدنیا الملیئة بالشر والمفعمة بالغرور والخداع وسیلة لسعادتهم الأبدیّة وسلّماً لبلوغ المقامات

ص:286


1- (1) . «خاویة» اسم فاعل من مادة «خَوی» بمعنی خالی ویعنی أحیاناً المتهدم.
2- (2) «ربوع» جمع «ربع» علی وزن «رفع» البیت والسکن کما وردت بمعنی المنطقة أو الجماعة من الناس والمعنی الأوّل هو المراد هنا.
3- (3) «شحیح» من مادة «شحّ» علی وزن «مخ» البخل مع الحرص الذی یصبح عادة لذلک یطلق «شحیح» أحیاناً علی الفرد الحریص علی صدیقه وهذا هو المعنی المراد فی العبارة.

الرفیعة، بحیث تکون نظرتهم إلی الدنیا بخلاف نظرة المتعلقین بها فهی نظرة إلی الممر أو السلم؛ فأولئک الذین یهربون من زخارفها وینتفعون بطیباتها للقرب من اللّه، ومن هنا یتضح الفارق بین الدنیا الممدوحة والمذمومة کما سیرد فی مبحث التاملات.

تأمّل: الدنیا الممدوحة والمذمومة

وصف الإمام علیه السلام الدنیا فی العبارات السابقة بالواعظ الحریص والمخبر الصادق والوفی والتی أفصحت عن تقلبها من خلال تقلباتها السریعة وأحداثها وآفاتها المختلفة وحذّر الجمیع من التعلّق بها وإنّما علیهم التزود منها.

والأکثر صراحة من ذلک ما ورد فی قصار کلماته بشأن الدنیا حیث قال:

«مَسْجِدُ أحِبّاءِ اللّه» «وَمَتْجَرُ أولِیاءِ اللّه»، «وَمَهْبِطُ وَحْیِ اللّه»، «وَمُصَلّی مَلائِکَةِ اللّه»، «دارُ عافِیَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْها... وَدارُ مَوْعِظَةِ لِمَنِ اتَّعَظَ بِها»(1).

هذا فی الوقت الذی ذُمّت الدنیا بشدّة فی خطب متعددة من «نهج البلاغة» والعدید من الروایات: «دارٌ بِالْبَلاءِ مَحْفُوفَةٌ وَبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ»(2)، «مَثَلُ الدُّنْیا کَمَثَلِ الْحَیَّةِ لَیِّنٌ مَسُّها وَالسَّمُّ النّاقِعُ فی جَوْفِها»(3).

ثم حذر فی عبارة أخری من الدنیا فقال: «تَغُرُّ وَتَضُرُّ وَتَمُرُّ»(4).

وطلاق الدنیا ثلاثاً من جانب الإمام علیه السلام لمساوئها وقبائحها، معروف اشیر له فی قصار الکلمات ضمن عبارات موقظة(5).

ص:287


1- (1) نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 131.
2- (2) . المصدر السابق، الخطبة 226.
3- (3) المصدر السابق، الکلمات القصار، الکلمة 119.
4- (4) المصدر السابق، الکلمة 415.
5- (5) المصدر السابق، الکلمة 77.

وأبعد من ذلک آیات القرآن المجید التی ذمّت الدنیا بشدّة ومنها ما ورد فی سورة الزخرف: «وَلَوْلاَ أَنْ یَکُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَنْ یَکْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُیُوتِهِمْ سُقُفاً مِّنْ فَضَّة وَمَعَارِجَ عَلَیْهَا یَظْهَرُونَ * وَلِبُیُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَیْهَا یَتَّکِئُونَ»(1).

وإن رتبنا هذه الآیات والروایات مع بعضها لورد هذا السؤال: إن کانت الدنیا بکلّ هذا الحسن، فلِمَ کانت سیئة لهذا الحدّ، وإن کانت سیئة فلم هذا الحسن؟

یکمن الجواب فی عبارة: أنّ الاختلاف نتیجة لاختلاف الرؤی.

والذین یکتفون بالنظر الظاهری وأصحاب الدنیا من ذوی النظرة الضیقة والسطحیة لا یرون سوی زخارف الدنیا وزینتها وملذاتها فیتعلقون بها، والدنیا خطیرة للغایة علی هذه الفئة، ولما کانت هذه الفئة تشکل الأکثریة، کانت هنالک الکثیر من الآیات والروایات التی تذم الدنیا ولذلک یهتف القرآن: «فَلاَ تَغُرَّنَّکُمُ الْحَیَاةُ الدُّنْیَا وَلاَ یَغُرَّنَّکُمْ بِاللّه الْغَرُورُ»(2) الجدیر بالذکر أنّ الدنیا الغرور فی هذه الآیة عدت فی مصاف الشیطان المکار (لأنّ المراد من الغرور فی هذه الآیة هو الشیطان).

أمّا أهل البصائر والمؤمنون الصلحاء والعقلاء الذین ینظرون ببصرهم الحاد إلی باطن الدنیا ویرون بأُفقهم البعید بدایتها ونهایتها وتتجسد لهم عاقبة الأسلاف وتاریخهم ویضعون مصیر الفراعنة والعمالقة والأباطرة نصب أعینهم یسمعون بآذان أرواحهم رسائل الوعظ الدنیوی المشفق ویعتبرون بتلک الدروس؛ فیستبدلون الدنیا بجامعةٍ لکسب المعارف الربانیة ومتاجر للتزود وحمل المتاع ومعبد رائع للعروج إلی ساحة القرب الربوبی.

وزبدة الکلام فإنّ الدنیا حسب قول أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی إحدی الخطب:

«مَنْ أبْصَرَ بِها بَصَّرْتَهُ وَمَنْ أَبْصَرَ إلَیْها أعْمَتْهُ»(3).

ص:288


1- (1) سورة الزخرف، الآیات 33-35.
2- (2) . سورة فاطر، الآیة 5.
3- (3) نهج البلاغة، الخطبة 82.

***

القسم الرابع

اشارة

إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ، وَحَقَّتْ بِجَلاَئِلِهَا الْقِیَامَةُ، وَلَحِقَ بِکُلِّ مَنْسَکٍ أَهْلُهُ، وَبِکُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ، وَبِکُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ، فَلَمْ یُجْزَ فِی عَدْلِهِ وَقِسْطِهِ یَوْمَئِذ خَرْقُ بَصَرٍ فِی الْهَوَاءِ، وَلاَ هَمْسُ قَدَمٍ فِی الأَرْضِ إِلاَّ بِحَقِّهِ، فَکَمْ حُجَّة یَوْمَ ذَاک دَاحِضَةٌ، وَعَلاَئِقِ عُذْرٍ مُنْقَطِعَةٌ!

فَتَحَرَّ مِنْ أَمْرِک مَا یَقُومُ بِهِ عُذْرُک، وَتَثْبُتُ بِهِ حُجَّتُک، وَخُذْ مَا یَبْقَی لَک مِمَّا لاَ تَبْقَی لَهُ، وَتَیَسَّرْ لِسَفَرِک؛ وَشِمْ بَرْقَ النَّجَاةِ؛ وَارْحَلْ مَطَایَا التَّشْمِیرِ.

الشرح والتفسیر: الاستعداد لسفر الآخرة

أشار الإمام علیه السلام فی آخر جانب من هذه الخطبة بالالتفات إلی الإشارة فی العبارة السابقة إلی عالم الآخرة إلی محکمة العدل الربّانیة فی عالم الآخرة فذکر بعض الأمور الدقیقة وقال: «إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ(1) ، وَحَقَّتْ بِجَلاَئِلِهَا(2) الْقِیَامَةُ، وَلَحِقَ بِکُلِّ مَنْسَکٍ(3) أَهْلُهُ، وَبِکُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ، وَبِکُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ، فَلَمْ یُجْزَ(4) فِی عَدْلِهِ

ص:289


1- (1) . «راجفة» من مادة «رجف» علی وزن «وقف» بمعنی الاضطراب والهزة الشدیدة ولما کانت الأخبار التی تثیرالفتنة مدعاة لاضطراب المجتمع لذلک یقال لها أراجیف. وتشیر هذه المفردة فی القرآن وهذه الخطبة إلی زلزلة الساعة.
2- (2) «جلائل» جمع «جلیلة» کلّ صفة عظیمة وشدیدة.
3- (3) . «منسک» بمعنی العبادة وتعنی الدین والمعبد وهذا هو المراد بها فی العبارة.
4- (4) «لم یُجْزَ» طبق ماورد فی المتن من مادة «جزاء» بمعنی الثواب؛ ولکن وردت فی بعض النسخ «لم یَجْرِ» من مادة «جریان»؛ یعنی لا یجری أدنی خلاف فی عدالته وفی بعض النسخ الأخری «لم یَجُرْ» من مادة «جور» إشارة إلی عدم جور اللّه فی جزاء الأعمال وفی نسخ «لَمْ یَجُزْ» من مادة «جواز»؛ یعنی لا یجوز أدنی خلاف فی مقام عدالة اللّه.

وَقِسْطِهِ یَوْمَئِذ خَرْقُ بَصَرٍ فِی الْهَوَاءِ، وَلاَ هَمْسُ(1) قَدَمٍ فِی الأَرْضِ إِلاَّ بِحَقِّهِ».

وکلام الإمام یؤکد علی أمرین: الأوّل أنّ کلّ طائفة تلحق ذلک الیوم بإمامها ومعبودها ومطاعها وما کان فی هذه الدنیا سیتجسم هناک قطعاً حتی ورد عن الإمام الرضا أنّه قال: «فَلَوْ أنَّ رَجُلاً أحَبَّ حَجَراً لَحَشَرَهُ اللّه مَعَهُ یَوْمَ الْقِیامَةِ»(2) ومن قبل صرّح القرآن قائلاً: «احْشُرُوا الَّذِینَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا کَانُوا یَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللّه فَاهْدُوهُمْ إِلَی صِرَاطِ الْجَحِیمِ»(3).

والآخر: أنّ حساب اللّه ذلک الیوم علی درجة من الدقة والعدل المطلق بحیث لا یغادر ذرة من ذنب أو خطوة من باطل علی الأرض فالویل للآثمین والظلمة والمذنبین!

طرح هنا بعض شرّاح «نهج البلاغة» سؤالاً: إنّ لحقَ ذلک الیوم کلّ عابد بمعبوده ومطیع بمن أطاع، فلابدّ أن تلحق النصاری بالمسیح، والغلاة بأمیرالمؤمنین وعبدة الملائکة بهم، وفی ذلک سرورهم طبعاً؟

أجاب القرآن المجید عن هذا السؤال فقال: «وَیَوْمَ یَحْشُرُهُمْ وَمَا یَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه فَیَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِی هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِیلَ * قَالُوا سُبْحَانَک مَا کَانَ یَنْبَغِی لَنَا أَنْ نَّتَّخِذَ مِنْ دُونِک مِنْ أَوْلِیاءَ وَلَکِنْ مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّی نَسُوا الذِّکْرَ وَکَانُوا قَوْماً بُوراً».

وقال إثر ذلک: «فَقَدْ کَذَّبُوکُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِیعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً»(4).

نعم! لعلهم یلحقون لولا أن تبرأ أئمتهم منهم؛ وعلیه واستناداً لهذه البراءة فسوف

ص:290


1- (1) «هَمْس» بمعنی الصوت الخفی.
2- (2) . وسائل الشیعة، ج 10، ص 393، ح 5 من باب 66 من أبواب المزار وورد هذا المضمون باختلاف طفیف عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی کتاب «روضة الواعظین».
3- (3) سورة الصافات، الآیتان 22 و 23.
4- (4) سورة الفرقان، الآیات 17-19.

لن یلتقوا بهم قط.

ثم حذّر أولئک الذین یبرّئون أنفسهم فی هذه الدنیا بالأدلة الواهیّة والأعذار التافهة أنّ الأمر لیس کذلک فی الآخرة فقال: «فَکَمْ حُجَّةٍ یَوْمَ ذَاک دَاحِضَةٌ(1) ، وَعَلاَئِقِ(2) عُذْر مُنْقَطِعَةٌ!».

إشارة إلی أنّه یتضح ویظهر کلّ شیء فی ذلک الیوم ولیس هنالک من قیمة للأعذار الواهیة فی ظل تلک الأجواء.

قال القرآن المجید بشأن المکذبین بآیات اللّه: «وَلاَ یُؤْذَنُ لَهُمْ فَیَعْتَذِرُونَ»(3).

ثم أشار فی ختام الخطبة - بعنوان استنتاج عملی واضح - إلی سبیل الخلاص ضمن خمس عبارات موجزة وعمیقة المعنی فقال: «فَتَحَرَّ(4) مِنْ أَمْرِک مَا یَقُومُ بِهِ عُذْرُک، وَتَثْبُتُ بِهِ حُجَّتُک».

وقال فی السبیل الثانی: «وَخُذْ مَا یَبْقَی لَک مِمَّا لاَ تَبْقَی لَهُ».

المراد من «مَا یَبْقَی لَک» النعم الأبدیة یوم القیامة ای الأعمال الصالحة، والمراد من «مَا لاَ تَبْقَی لَهُ» نعم الدنیا التی یترکها الإنسان ویمضی.

وقال فی الثالث: «وَ تَیَسَّرْ لِسَفَرِک».

والذی قال فیه اللّه: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوَی»(5).

وقال فی الرابع: «وَشِمْ(6) بَرْقَ النَّجَاةِ».

ص:291


1- (1) . «داحضة» من «الدَحْض» علی وزن «محض» بمعنی خاطئة ویقال «حجة داحضة» للدلیل الضعیف الذی لاأساس له.
2- (2) «علائق» جمع «علاقة» (بفتح العین) الروابط والتعلق ومعنی العبارة المذکورة أنّ الروابط مقطوعة یوم القیامة، وکذلک جمع «علاقة» (بکسر العین) الحبل والشماعة وأمثال ذلک فیکون معنی العبارة أنّ حبال الأعذار مقطعة یوم القیامة.
3- (3) سورة المرسلات، الآیة 36.
4- (4) . «تحرّ» من «التحری» البحث عن الأمر الأفضل.
5- (5) سورة البقرة، الآیة 197.
6- (6) «شم» من مادة «شَیْم» علی وزن «دَیْم» التطلع إلی الشیء.

وقال أخیراً: «وَارْحَلْ مَطَایَا(1) التَّشْمِیرِ(2)».

وخلاصة الکلام فإن الإمام أبان سبیل النجاة من مخالب أخطار الدنیا والآخرة فی هذا السفر المنتظر وذکر المواعظ بشأن زاد السفر ومتاعه والالتفات إلی علائم الدلیل ومن ثم إعداد أعذار التقصیر وأسباب الزلل والخطأ، فمثل هذا المسافر لایضل الهدف ولا یتوقف حین یبلغ: «بلی یا زُهْری لَیْسَ ما ظَنَنْتَ وَلکِنَّهُ الْمَوْتُ وَلَهُ کُنْتُ اسْتَعِدُّ وَإنَّمَا الاِْسْتَعْدادُ لِلْمَوْتِ تَجَنُّبُ الْحَرامِ وَبَذْلُ النَدی وَالْخَیْر»(3).

***

ص:292


1- (1) «مطایا» جمع «مطیة» الدابّة.
2- (2) «تشمیر» من مادة «شمر» علی وزن «تمر» تعنی فی الأصل رفع الکم والاستعداد لعمل ثم اطلق علی مطلق الاستعداد والسعی.
3- (3) وسائل الشیعة، ج 6، ص 279، ح 5 من الباب 14، أبواب الصدقات.

الخطبة 224

اشارة

یَتَبَرَّأُ مِنَ الظُّلْمِ (1)

نظرة إلی الخطبة

قال بعض الشرّاح أنّ الإمام علیّاً علیه السلام قال هذا الکلام لما اعترض علیه بعض أصحابه قائلین: إنّ معاویة جمع الناس حوله بما یبذل لهم من بیت المال فلو فعلتَ لرضیَ الناس ولتولّوک، فغضب الإمام وصرّح بأننی... هذا الکلام الذی یتألف فی الواقع من ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: الذی استهله ببحث کلی جامع وقارع فی البراءة من الظلم والجور وقال لست مستعداً لأدنی ظلم وجور وإغضاب اللّه وإسخاطه.

وخاض فی القسم الثانی فی بیان أحد المصادیق الواضحة لذلک المطلب وبین فقر عقیل وما کان یطلب بغیر حق من بیت المال وکیف أجابه بالحدیدة المحماة.

ص:293


1- (1) سند الخطبة: رواها المرحوم الشیخ الصدوق فی کتاب «الأمالی»، کما رواها بعد السید الرضی، سبط ابن الجوزی فی کتاب «التذکرة» عن ابن عباس عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام، والزمخشری فی «ربیع الأبرار»، وابن شهر آشوب فی «المناقب»، ویستفاد من کلام الصدوق فی «الأمالی» أنّ ما أورده المرحوم السیّد الرضی فی هذه الخطبة بعض ما ورد فی خطبة طویلة. (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 159).

وذکر فی القسم الثالث مصداقاً حیّاً آخر عن براءته من الظلم والجور فتطرق إلی قصة الأشعث بن قیس المنافق والحلوی الملفوفة.

واختتم الکلام بعبارات بلیغة وفریدة فی إعلان براءته من الظلم والجور وهضم حقوق الآخرین.

***

ص:294

القسم الأوّل

اشارة

وَاللّهِ لَئِنْ أَبِیتَ عَلَی حَسَکِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِی الأَغْلاَلِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ أَنْ أَلْقَی اللّه وَرَسُولَهُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَیْءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَکَیْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ یُسْرِعُ إِلَی الْبِلَی قُفُولُهَا، وَیَطُولُ فِی الثَّرَی حُلُولُهَا؟!

الشرح والتفسیر: إرتکاب الظلم

کما اشیر فإنّ بعض أصحاب الإمام علیه السلام قالوا للإمام: إنّک عمد العدالة وتساوی بین الصغیر والکبیر إلّاأنّ جماعة نقموا عدالتک بینما یغدق علیهم معاویة الأموال والهدایا حتی التحق به جماعة کثیرة فهلا قرّبتهم بالأموال. فأجابهم الإمام علیه السلام بکلام بعضه هذه الخطبة موضوع البحث(1).

یستفاد من هذا الکلام مدی نقمة الإمام علیه السلام من هذا الانحراف الفکری الذی أصاب جماعة من خاصته، لذلک سعی لإزالة هذه الثقافة الجاهلیة الفاشلة من أفکارهم التی یتبناها الیوم بعض الساسة المحترفین بایضاحات قاطعة وذکر الشواهد وأمثال ذلک ویستبدلها بثقافة القرآن والنّبی الأکرم صلی الله علیه و آله التی تنشد بسط العدل والقسط تجاه الجمیع فقال: «وَ اللّه لَئنْ أَبِیتَ عَلَی حَسَک(2) السَّعْدَانِ(3) مُسَهَّداً(4) ،

ص:295


1- (1) تمام نهج البلاغة، ص 679، الطبعة الثانیة.
2- (2) . «حسک»؛ یعنی الشوک. کما یطلق علی شوک الصحراء أو داخل بدن السمکة.
3- (3) «سعدان» نبات رعاة الإبل له شوک تشبه به حلمة الثدی.
4- (4) «مسهّد» من «السهاد» علی وزن «رقاد» بمعنی السهر و «مسهّد» من لا ینام اللیل.

أَوْ أُجَرَّ فِی الأَغْلاَلِ مُصَفَّداً(1) ، أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ أَنْ أَلْقَی اللّه وَرَسُولَهُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَیْءٍ مِنَ الْحُطَامِ(2)».

أسوأ العذاب بالنسبة للإنسان أن ینام علی أشواک السعدان (الأشواک الثلاثیة أطرافه علی الأرض وطرفه الحاد إلی الأعلی) ویقیدون یده ورجله فی النهار ویجر فی السوق والشارع.

وقد أقسم الإمام علیه السلام باللّه بکلّ حزم فقال: تحمل هذا العذاب أهون علیَّ من أن ألقی اللّه وأنا ظالم لبعض العباد وغاصب لشیء من حطام هذه الدنیا الزائلة فذلک العذاب ابدی وعذاب هذه الدنیا عابر مهما کان، فکیف تتوقعون أن أسلک طریق معاویة الذی لا یقیم وزناً لحساب الآخرة. فأترک الشریعة وألجأ إلی الشرک والجاهلیة.

ثم قال علیه السلام: «وَ کَیْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ یُسْرِعُ إِلَی الْبِلَی قُفُولُهَا(3) ، وَیَطُولُ فِی الثَّرَی(4) حُلُولُهَا؟!».

إشارة إلی أنّ أی عقل لا یقبل بهذا المنطق فی أن یضحی الإنسان بالسعادة الأبدیة من أجل السعادة العاجلة وأولئک الذین لهم هذه الممارسات کمعاویة وبطانته علی خطأ عظیم.

وهکذا یریق الإمام علیه السلام الماء الطاهر فی ید من اقترح علیه الظلم واعتقد بأنّ الغایة تبرر الوسیلة فقد یئس أولئک الذین یظنون أنّهم قادرون علی تغییر نهجه العادل الشاق للغایة.

ص:296


1- (1) . «مصفّد» من مادة «صفد» علی وزن «صید» المقید و «صفاد» علی وزن «عناد» تقال للحبل والقید.
2- (2) «حطام» من مادة «حطم» علی وزن «حتم» بمعنی الکسر ویقال لمتاع الدنیا «حطام».
3- (3) . «قفول» مصدر بمعنی الرجوع والعودة ومفهوم العبارة کما ورد سابقاً طبق هذا المعنی، ولکن احتمل البعض أنّ «قفول» جمع «قفل» ومعنی العبارة کیف أظلم شخصاً تتآکل بسرعة أقفال ووشائج بدنه.
4- (4) «الثری» التراب.

لاینبغی أن ننسی أنّ عهد خلافة الإمام الظاهریة وبمنتهی الأسف، إنّما ابتدأت حین اعتاد المسلمون بکرم عثمان علی طریقة حاتم الطائی من بیت المال والتمییز البغیض والذی أدی بالتالی إلی الخروج علیه وسار معاویة علی نهجه، غیر أنّ الإمام علیه السلام کان یسعی لإعادة الاُمّة إلی عصر النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله.

ورغم عدم تحقیق هذا المشروع، النتیجة التامة؛ لکنّه انطوی علی فائدة مهمّة حفظت الرسالة الإسلامیّة الأصیلة وفضحت المنحرفین.

***

ص:297

ص:298

القسم الثانی

اشارة

وَاللّهِ لَقَدْ رَأَیْتُ عَقِیلاً وَقَدْ أَمْلَقَ حَتَّی اسْتَمَاحَنِی مِنْ بُرِّکُمْ صَاعاً، وَرَأَیْتُ صِبْیَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ، غُبْرَ الأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ، کَأَنَّما سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِی مُؤَکِّداً، وَکَرَّرَ عَلَیَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَیْتُ إِلَیْهِ سَمْعِی، فَظَنَّ أَنِّی أَبِیعُهُ دِینِی، وَأَتَّبِعُ قِیَادَهُ مُفَارِقاً طَرِیقَتِی، فَأَحْمَیْتُ لَهُ حَدِیدَةً، ثُمَّ أَدْنَیْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِیَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِیجَ ذِی دَنَف مِنْ أَلَمِهَا، وَکادَ أَنْ یَحْتَرِقَ مِنْ مِیْسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَکِلَتْک الثَّوَاکِلُ، یَا عَقِیلُ! أَتَئِنُّ مِنْ حَدِیدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِی إِلَی نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ! أتَئِنُّ مِنَ الأَذَی وَلاَ أَئِنُّ مِنْ لَظیً؟!

الشرح والتفسیر: قصة الحدیدة المحماة

کان للإمام علیه السلام فی القسم السابق بحث کلّی بشأن اجتناب الظلم والجور التی تشیر إلی ذروة السلامة من الظلم والجور، وقد رکز هنا علی مصداقین واضحین کشاهدی صدق علی ماذکر. فبیّن أوّلاً قصة عقیل والحدیدة المحماة فشرح نموذجاً من عدله الذی لیس له مثیل ربّما فی تاریخ العالم فقال: «وَاللّه لَقَدْ رَأَیْتُ عَقِیلاً وَقَدْ أَمْلَقَ(1) حَتَّی اسْتَمَاحَنِی(2) مِنْ بُرِّکُمْ(3) صَاعاً(4)».

ص:299


1- (1) «اَمْلَق» من «الإملاق» بمعنی الفقر ومادته الأصلیة «مَلَق» علی وزن «شفق» النعومة ویقال الفرد المتملق کونه یتخذ حالة الذلة والنعومة واستعملت بحق الفقیر لهذه الحالة.
2- (2) «استماحنی» من «الاستماحة» الاستعطاء.
3- (3) «البُرّ» القمح.
4- (4) «صاع» أحد الأوزان وهو أربعة امداد وکل مد أقل من نصف کیلو، سبعمائة وخمسون غراماً تقریباً.

ظاهراً، مراد عقیل «صاع» کحصة یومیة منظمة لتؤمن بصورة کاملة هذه المادة الغذائیة وإلّا لو کان صاعاً لیوم فإنّه لا یحل مشکلته ولیس له قیمة أن یأتی عقیل من ذلک البعد لأخیه.

کما تجدر الاشارة إلی أنّ عقیلاً طلب طلباً آخر بأداء دین ثقیل علیه لکن الإمام اقتصر علی الإشارة إلی الطلب الأوّل. ثم قال: «وَرَأَیْتُ صِبْیَانَهُ شُعْثَ(1) الشُّعُورِ، غُبْرَ(2) الأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ، کَأَنَّما سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ(3)».

وأضاف علیه السلام: «وَ عَاوَدَنِی مُؤَکِّداً، وَکَرَّرَ عَلَیَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَیْتُ(4) إِلَیْهِ سَمْعِی، فَظَنَّ أَنِّی أَبِیعُهُ دِینِی، وَأَتَّبِعُ قِیَادَهُ مُفَارِقاً طَرِیقَتِی».

شرح الإمام علیه السلام هنا جمیع العوامل التی یراها اهل الدنیا تقتضی التمییزبالنسبة لأخیه.

فمن جانب لم یطلب کثیراً.

ومن جانب آخر کان أولاده فقراء ومعدمین.

وأخیراً کان یکثر من تکرار طلبه.

ولکن مع کلّ ذلک کان علی الإمام أن یمیز بین عقیل والآخرین من المحتاجین ویعطی لأخیه من بیت المال العائد لعامة المسلمین ویضفی علیه میزة خاصّة.

قطعاً هذا العمل لا ینسجم مع العدالة الإسلامیّة وسمّو روح الإمام علیه السلام، لذلک وبغیة کفّ عقیل عن التکرار لیقنع بحقّه من بیت المال عامله بما یثبت له عملیاً عاقبة الظلم فقال: «فَأَحْمَیْتُ لَهُ حَدِیدَةً، ثُمَّ أَدْنَیْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِیَعْتَبِرَ بِهَا».

ص:300


1- (1) . «شُعث» جمع «أشعث» المجعد الشعر.
2- (2) «غُبْر» جمع «أغبر» من عَلاه الغبار.
3- (3) «عظلم» نبت یصبغ به ما یراد إسوداده.
4- (4) . «أصغیت» من «الإصغاء» السمع.

عقیل ظاهراً کان مکفوفاً آنذاک ومدّ یده علّه یحصل علی درهم أو دینار ولم یکن یعلم ما الذی ینتظره فلما شعر بالحرارة تقترب من یده: «فَضَجَّ ضَجِیجَ ذِی دَنَف(1) مِنْ أَلَمِهَا، وَکادَ أَنْ یَحْتَرِقَ مِنْ مِیْسَمِهَا(2)».

ثم قال الإمام علیه السلام مواصلاً کلامه: «فَقُلْتُ لَهُ: ثَکِلَتْک الثَّوَاکِلُ(3) ، یَا عَقِیلُ! أَتَئِنُّ مِنْ حَدِیدَة أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا(4) لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِی إِلَی نَا سَجَرَهَا(5) جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ! أتَئِنُّ(6) مِنَ الأَذَی وَلاَ أَئِنُّ مِنْ لَظیً؟!(7)».

«ثواکل» جمع «ثاکلة» الاُم التی مات ولدها وإن اطلق علی کلّ ام فی عزاء.

التعبیر باللعب إشارة إلی أنّ نار الدنیا مهما کانت محرقة إلّاأنّها لیست أکثر من لعبة إزاء نار الآخرة فالنار الحقیقیة هناک، لذلک عبّر الإمام علیه السلام عن الاُولی ب «أذی» والثانیة «لظی».

یستفاد ضمنیاً من تعبیرات الإمام علیه السلام خلافاً لما یظنه بعض الجهّال، فإنّ الإمام علیه السلام لم یضع قط حدیدة محماة فی ید عقیل، بل قربها من یده وحیث کان أعمی خاف وصرخ.

انتشرت هذه القصّة فی جمیع الأوساط حتی وصلت إلی معاویة حسب بعض الروایات فأیقظت العدید من الغافلین وأفادت نهایة الکرم العثمانی من بیت المال علی القرابة والأفراد المقربین. فإذا کانت هذه معاملة الإمام لأخیه إزاء طلب صغیر علی خلاف العدالة فما بال الآخرین، فما علیهم سوی عدم التفکیر بأی امتیاز.

وتطلق هذه المفردة أحیاناً علی جهنم کما ورد فی الآیة 15 من سورة المعارج:

«کَلاَّ انَّهَا لَظَی».

بعبارة اخری أنّ ذلک لم یکن درساً لعقیل فحسب، بل لعامة الناس فی العالم

ص:301


1- (1) «دنف» السقم الشدید.
2- (2) «میسم» اسم آلة من مادة «وسم» الحرارة الشدیدة؛ ولکن یبدو أنّها وردت هنا بصیغة المصدر بمعنی الحرارة.
3- (3) . «ثواکل» جمع «ثاکلة» الاُم فی عزاء ابنها وتستعمل أحیاناً المرأة المعزاة.
4- (4) . «إنسانها» هنا بمعنی: صاحبها.
5- (5) «سجرها» من «السجور» تعنی فی الاصل اشعال نار التنور ثم اطلقت علی کلّ اشعال.
6- (6) «تئن» من مادة «انن» الأنین والتألم.
7- (7) «لظی» شعلة النار الخالصة والتی تکون شدیدة الحرارة.

الإسلامی فأفاد مساواة الجمیع أمام العدالة، ولیس لأحد طلب المزید وإن کان أقرب المقرّبین إلی رئیس الدولة. الطریف ما ورد فی ذیل بعض الروایات أنّ عقیلاً قال للإمام علیه السلام إذا کان الأمر کذلک فسأذهب إلی مَن یکثر من البذل والعطاء. ومراده (معاویة) فردّ علیه علیه السلام: «راشِداً مَهْدِیّاً»(1).

ولنترک الکلام لعقیل یتحدّث عن قصة الحدیده الُمحماة: ثم تلا الآیة: «إِذِ الأَغْلاَلُ فِی أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ یُسْحَبُونَ»(2).

فقال معاویة: «هَیْهاتَ هَیْهاتَ عَقِمَتِ النِساءُ أنْ یَلِدْنَ مِثْلَهُ»(3).

وقد روی المرحوم العلّامة المجلسی فی «بحارالأنوار» قصّة مکملة لما سبق(4).

علی کلّ حال تشیر القرائن إلی أنّ هدف الإمام علیه السلام لم یکن مجرّد بیان قضیة شخصیة وتحذیر عقیل، بل کان الهدف انتشار هذه القضیة فی کلّ مکان وکان کذلک وأن یفکر أصحاب الامتیازات أنّ تکلیفهم أصبح واضحاً بعد أن تصرف الإمام مع عقیل بهذه الطریقة فلا یفکرون قط فی تلک الامتیازات، وبعبارة أخری کان الهدف وضع حد لثقافة عهد عثمان فی بیت المال وإعادة ثقافة العهد النبوی.

تأمّلان

1. نظرة إلی شخصیة عقیل

هو عقیل بن أبی طالب وأخو أمیرالمؤمنین علی علیه السلام لاُمّه وأبیه وکان بنو أبی طالب أربعة وهو أسن من الإمام بعشرین سنة ویکنی أبا یزید.

وکان أبو طالب یحبّه کثیراً فلذلک قال له النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «یا أبا یَزید إنّی أُحِبّک حُبَّیْنِ؛ حُبّاً لِقَرابَتِک مِنّی وَحُبّاً لِما کُنْتُ أعْلَمُ مِنْ حُبِّ عَمّی إیّاک».

ص:302


1- (1) شرح نهج البلاغة للمرحوم مغنیة، ج 3، ص 316.
2- (2) سورة غافر، الآیة 71.
3- (3) شرح نهج البلاغة ابن ابی الحدید، ج 11، ص 253.
4- (4) بحار الأنوار، ج 41، ص 113 و 114 (روی المرحوم العلّامة المجلسی هذا الحدیث عن ابن شهر آشوب).

وورد فی بعض الروایات أنّ النّبی صلی الله علیه و آله قال لعلی علیه السلام: «إِنَّ وَلَدَهُ لَمَقْتُولٌ فی مَحَبَّةِ وَلَدِک فَتَدْمَعُ عَلَیْهِ عُیُونُ الْمُؤمِنینَ وَتُصَلّی عَلَیْهِ الْمَلائِکَةُ الْمُقَرَّبُونَ ثُمَّ بَکی حَتّی جَرَتْ دُمُوعُهُ عَلی صَدْرِه».

شهد عقیل کعمّه العباس بن عبدالمطلب معرکة بدر الکبری مع المشرکین مجبراً فاُسر وعاد إلی مکة بفدیة وأسلم بعد صلح الحدیبیة وهاجر ووصل إلی النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله(1).

2. التسویة بین المسلمین فی بیت المال

لا شک فی أنّ لبیت المال مصادر مختلفة؛ وأحد تلک المصادر، الزکاة، ونعلم أنّ المساواة لیست شرطاً فی الزکاة، بل تصرف الزکاة علی أساس الحاجة کما لا ضرورة لأن ننتظر محتاجاً آخر بحضور محتاج معین، بل لنا أن نعطی المحتاج الحاضر بما فیه الکفایة.

المصدر الآخر: الخمس الذی کان یؤخذ فی صدر الإسلام غالباً من غنائم الحرب، والخمس بید الحاکم الإسلامی لیصل المحتاجین حسبما ورد فی الفقه والروایات ولا یشترط فیه المساواة أیضاً.

الثالث: الغنائم الحربیة التی توزع علی المقاتلین بالسویة؛ لکن للمشاة سهم وللفرسان سهمان حیث کانوا آنذاک هم الذین یشترون الفرس، طبعاً کان النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أحیاناً یستجیز أصحابه فی دفع شیء من الغنائم إلی أفراد معینین لجلبهم إلی الإسلام.

المصدر الرابع والخامس والسادس، المداخل الخیریة وخمس غیر الغنائم والأنفال التی لا یشترط فی توزیعها المساواة أیضاً، ولا مجال لشرحها هنا.

المصدر السابع الذی کان أهم من الکل آنذاک والذی یشکل عمدة بیت المال

ص:303


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 11، ص 250؛ شرح نهج البلاغة للمرحوم التستری، ج 6، ص 523.

وهو دخل أراضی الخراج؛ أی مبالغ الاستئجار أو خراج الأراضی للمناطق المفتوحة والتی توضع فی خزانة الدولة الإسلامیّة، فتلک الأراضی ملک لعامة المسلمین ولیس الجیل القائم آنذاک، بل جمیع الأجیال، وبالطبع فإنّ دخلها یعود إلی الجمیع. بالضبط کالملک المشاع الذی یتساوی فیه الجمیع، ومن الطبیعی أن لیس للدولة الإسلامیّة أن تمیز بین المسلمین فی هذا الدخل. وإن لم یلتزم اغلب الخلفاء بهذا الحکم وبل یتصرفون فی تلک الاموال حسب مایشاؤون.

وماورد فی قصّة عقیل فی هذه الخطبة یتعلق بهذا الأمر الذی یشکل أهم قسم فی بیت المال ولعل عقیلاً أعتقد أنّ تلک الأموال بید الحاکم الإسلامی یتصرف بها کما یشاء ولاسیما أنّه شاهد ما کان یفعله الخلیفة الثالث بتلک الأموال.

***

ص:304

القسم الثالث

اشارة

وَأَعْجَبُ مِنْ ذلِک طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفُوفَةٍ فِی وِعَائِهَا، وَمَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا، کَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِیقِ حَیَّةٍ أَوْقَیْئِها، فَقُلْتُ: أَصِلَةٌ، أَمْ زَکَاةٌ، أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَذَلِک مُحَرَّمٌ عَلَیْنَا أَهْلَ الْبَیْتِ! فَقَالَ: لاَ ذَا وَلاَ ذَاک، وَلکِنَّهَا هَدِیَّةٌ. فَقُلْتُ: هَبِلَتْک الْهَبُولُ! أَعَنْ دِینِ اللّه أَتَیْتَنِی لِتَخْدَعَنِی؟ أَمُخْتَبِطٌ أَنْتَ أَمْ ذُوجِنَّةٍ، أَمْ تَهْجُرُ؟ وَاللّهِ لَوْ أُعْطِیتُ الأَقَالِیمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَکِهَا، عَلَی أَنْ أَعْصِیَ اللّه فِی نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِیرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ، وَإِنَّ دُنْیَاکُمْ عِنْدِی لاََهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِی فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضِمُهَا. مَا لِعَلِیٍّ وَلِنَعِیمٍ یَفْنَی، وَلَذَّةٍ لاَ تَبْقَی! نَعُوذُ بِاللّه مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ، وَقُبْحِ الزَّلَلِ. وَبِه نَسْتَعِینُ.

الشرح والتفسیر: قصة المنافق الأشعث بن قیس

بیّن الإمام علیه السلام فی القسم السابق کما رأینا القصة التاریخیّة لأخیه عقیل والحدیدة المحماة لییأس أصحاب الامتیازات الطامعین فی بیت المال، القصة التی تتجلی فیها ثقافة العدالة الإسلامیّة وتقدیم الضابطة علی الرابطة، ثم أشار هنا إلی مصداق آخر من هذا القبیل فذکر قضیة المنافق الأشعث بن قیس وقال: «وَأَعْجَبُ مِنْ ذلِک طَارِقٌ(1) طَرَقَنَا بِمَلْفُوفَةٍ فِی وِعَائِهَا، وَمَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا(2) ، کَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِیقِ حَیَّة أَوْقَیْئِها».

ص:305


1- (1) . «طارق» من «الطروق» و «طرق» بمعنی الدق ویقال الطارق لمن یذهب لیلاً إلی آخر حیث الباب مغلق عادة ولابدّ أن یدقّه لیدخل.
2- (2) «شنئت» من «الشنئان» علی وزن «غثیان» البغض والکراهیة و «شنئت» کرهت.

المعروف أنّ ذلک الطارق کان الأشعث بن قیس رأس النفاق فی الکوفة شبیه عبداللّه بن أُبیّ رأس النفاق علی عهد النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی المدینة.

أمّا قول الإمام علیه السلام: «مَلْفُوفَةٍ فِی وِعَائِهَا، وَمَعْجُونَة شَنِئْتُهَا، کَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِیقِ حَیَّةٍ أَوْقَیْئِها» حیث کان هدف الأشعث أن یستعطف قلب الإمام لتحقیق غرض دنیوی. (یقال أحیاناً إنّه تنازع مع أحد المسلمین باطلاً علی میاه وملک، ورفع الأمر إلی علی علیه السلام، لعل هذا الرجل الأعمی البصیرة أراد من خلال ذلک أن یستمیل الإمام ویشتری رأیه؛ ولکن الإمام علیه السلام رأی بعینه الملکوتیة باطن تلک الحلوی الذی کان کسم الحیّة، لأنّها کانت بمثابة رشوة).

المفردة «مَلْفُوفَة» رغم أنّها من مادة «لفّ» لتشیر هنا إلی طرف القماش الذی یلف به؛ ولکن حیث قال الإمام علیه السلام کانت تلک الملفوفة فی وعاء وعطف علیها مفردة معجونة فیحتمل أن تکون الملفوفة نوعاً من الحلوی التی کانت معروفة ومرغوبة فی الکوفة(1).

احتمل بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ المفردة «قیء» بمعنی سمّ الحیّة لاقیئها، لأنّها تطرحه من فمها کقیئها وهذا ما یقتضیه المقام والشائع لدینا فی الاستعمال بشأن الطعام. «فَقُلْتُ: أَصِلَةٌ، أَمْ زَکَاةٌ، أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَذَلِک مُحَرَّمٌ عَلَیْنَا أَهْلَ الْبَیْتِ! فَقَالَ: لاَ ذَا وَلاَ ذَاک، وَلکِنَّهَا هَدِیَّةٌ».

طبعاً الزکاة محرمة علی جمیع بنی هاشم والصدقة التی تشیر إلی الإنفاق المستحب وهی لیست حرام حسب المشهور ولعل حرمتها کانت مختصة بأهل البیت علیهم السلام، واحتمل البعض أنّها إشارة إلی الکفارات والصدقات الواجبة غیر الزکاة، هذا أیضاً حرام علی بنی هاشم.

أمّا «صلة» فربّما تعنی الرشوة التی یعبر عنها فی مباحث رشوة القاضی ب «صِلَة

ص:306


1- (1) أشار الشیخ محمد عبدة إلی هذا المعنی فی شرحه لنهج البلاغة (ج 2، ص 218) وقال: کانت الملفوفة نوعاً من الحلواء أهداها إلیه الأشعث بن قیس.

القُضاة» ومن هنا یقال لها «صلة» التی یجعلها الراشی وسیلة للوصول إلی هدفه غیر المشروع.

وقیل «صلة» تعنی «هدیة» أو جائزة ومنه فی جائزة الشاعر، یقال «صلة شاعر» وعلیه فالعبارة: «لاَ ذَا وَلاَ ذَاک، وَلکِنَّهَا هَدِیَّةٌ» إشارة إلی نفی الزکاة والصدقة وإثبات کونها هدیة.

کما احتمل أن تکون العبارة «لا ذا ولا ذاک» نفی للجمیع؛ أی لیست رشوة ولا زکاة ولا صدقة، بل هدیة.

ثم وجّه الإمام علیه السلام أشدّ ضربات التوبیخ والتقریع للمنافق الأشعث بن قیس، وقال: «فَقُلْتُ: هَبِلَتْک الْهَبُولُ!(1) أَعَنْ دِینِ اللّه أَتَیْتَنِی لِتَخْدَعَنِی؟».

إشارة إلی أنّک کأغلب الشیاطین تلبس طلبتک المنکرة لباس الشرعیّة لتحقق غرضک فتسمی الرشوة هدیة وتظن أنّک تغرّ بهذا الظاهر من تری عینه أعماق الوجود. ثم قال: «أَمُخْتَبِطٌ أَنْتَ أَمْ ذُو جِنَّةٍ، أَمْ تَهْجُرُ؟».

إشارة إلی أنّ عاقلاً لا یتصور أنّ أحداً یمکنه خداع شخص کعلی علیه السلام بهدیة تفوح من باطنها رائحة الرشوة فإن جرب ذلک أحدهم فهو مجنون أو مختبط فی عقله لمرض.

«مختبط» من مادة «خبط» بمعنی فقدان التوازن ویستعمل تارة فی التوازن الظاهری وأخری فی التوازن الفکری، والمعنی الثانی هو المراد هنا والعبارة «ذُو جِنّة» إمّا إشارة إلی وساوس الشیطان التی تعدّ من الجنون ویختل إثرها عقل الإنسان، أو إشارة إلی المعروف بین الناس حیث البعض ممن أصابه الجن.

المفردة «تَهْجُر» من مادة «هَجْر» هذیان القول، وعلیه فالفرق واضح بین هذه المفردات الثلاث؛ فالمختبط المختل العقل الذی یفقد توازنه العقلی، وذو جنة، الذی یعانی من نوع من الجنون لعامل باطنی، وتهجر تقال للمجنون ذاتاً ویصاب بالهذیان

ص:307


1- (1) «هبول» صفة مشبهة، المرأة لا یبقی لها ولد فهی کثیرة البکاء.

اثر شدّة المرض.

طبعاً حین تکون هذه المفردات مع بعضها تفید المعنی المذکور بینما إن أتت کلّ مفردة لوحدها أفادت معانٍ أُخری.

ثم أشار الإمام علیه السلام إلی قضیة بمنتهی الأهمّیة بشأن عدالته لعلها لم تسمع من غیره طیلة التاریخ لیفهمه مدی الخطأ الذی إرتکبه ولم یعرفه وهی تحذیر إلی جمیع الزعامات وحکّام المجتمعات الإنسانیة فقال: «وَاللّه لَوْ أُعْطِیتُ الأَقَالِیمَ السَّبْعَةَ(1) بِمَا تَحْتَ أَفْلاَکِهَا، عَلَی أَنْ أَعْصِیَ اللّه فِی نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ(2) شَعِیرَة مَا فَعَلْتُهُ».

ثم تطرق علیه السلام إلی دلیل ذلک فقال: «وَ إِنَّ دُنْیَاکُمْ عِنْدِی لاََهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِی فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضِمُهَا(3)».

وأکد علیه السلام ذلک بالقول: «مَا لِعَلِیٍّ وَلِنَعِیمٍ یَفْنَی، وَلَذَّةٍ لاَ تَبْقَی!».

حیث صرّح الإمام علیه السلام فی هذه العبارات الصریحة والبلیغة، لو أعطیت أعظم الرشاوی المتصورة فی العالم بما فیها ما علی الأرض والقصور والثروات والأموال، لاُمارس أدنی ظلم وهو سلب غطاء حبّة شعیر (لا حبة شعیر) من فم نملة والتی تبدو أصغر المخلوقات، لما فعلت.

ما أکثر الأفراد الذین تستمیلهم المبالغ البسیطة والمتوسطة فی الرشوة أما إذا کان امتیازاً هاماً یعادل جمیع حیاته فذلک ما یهزّه من الأعماق.

وهل هنالک من یسعه الزعم أنّه لن یمارس أدنی خلاف ولو أعطی أعظم امتیاز

ص:308


1- (1) . الأقالیم السبعة، «أقالیم» جمع «إقلیم» جزء من العالم أو البلد وقد قسم قدماء الجغرافیین العالم إلی سبعة أقالیم ولم تکن حدود تلک الأقالیم محددة لعدم وجود الخرائط الجغرافیة الدقیقة عن العالم. علی کلّ حال الأقالیم هی: الإقلیم الأوّل، الهند. الثانی، بعض البلدان العربیة والحبشة، الثالث، مصر والشام، الرابع، ایران. الخامس، الروم. السادس، الترک، السابع، الصین. (قاموس دهخدا، مادة أقلیم). لعل هنالک تقسیماً آخر للجغرافیین وعلی کلّ حال مراد الإمام علیه السلام لو أعطیت کلّ مناطق الکرة الأرضیّة.
2- (2) «جلب» الغطاء الذی یحیط بحبة القمح أو الشعیر کما یطلق «جلب» علی ما یغطی به الجرح بعد أن یبرأ.
3- (3) «تقضمها» من مادة «قضم» علی وزن «هضم» بمعنی العض والمضغ.

ولا یهتز لذلک؟ الإمام یقول أنا ذلک الشخص ویقسم علیه صراحة.

ویمکن توجیه الدلیل الذی ذکره الإمام علیه السلام علی هذا الأمر، فالامتیازات المادیة إنّما تحظی بأهمّیة من الدنیا کبیرة وعظیمة لدیه أمّا من کان فی قمة معرفة اللّه وکل ما سواه لا شیء بالنسبة له والدنیا عنده کورقة نبات فی فم جرادة، فلیس هنالک من داعٍ لأن یعصی اللّه ویرتکب الظلم.

فالإمام علی علیه السلام کان ینظر إلی باطن الدنیا ببصیرته؛ حیث کان یری کلّ تلک الملذات والنعم المادیة آیلة إلی الفناء والزوال ولیس هنالک مایستحق التعلق به أو یفکر بالتعلق به.

ومن هنا إن أردنا أن نقطع دابر الرشوة والظلم والجور والتعدی علی حقوق الآخرین لابدّ أن نجتهد من أجل رفع مستوی معرفة الإنسان باللّه والدنیا.

یفهم ضمنیاً من هذه العبارات بالدلالة الالتزامیة أنّ الظلم والجور والحکم بغیر الحق لمن أسوأ المعاصی لاینبغی إرتکابها حتی لو حصل علی الدنیا برمتها.

ثم اختتم الإمام علیه السلام بعبارة موجزة وموقظة فی الواقع ناظرة لکل مضمون الخطبة فقال: «نَعُوذُ بِاللّه مِنْ سُبَاتِ(1) الْعَقْلِ، وَقُبْحِ الزَّلَلِ. وَبِه نَسْتَعِینُ».

إشارة إلی أنّ العقل إن کان یقظاً واقترن بلطف اللّه لما قارف الإنسان الکبیرة وقلّما یرتکب الصغیرة.

ونختتم هذا الکلام بنقل روایتین: قال الحافظ أبونعیم الاصفهانی أحد علماء العامّة فی کتابه المشهور «حلیة الأولیاء»: «إنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله قال لعلیّ علیه السلام:

«یا عَلیّ! إِنّ اللّه قَدْ زَیَّنَک بِزینَةٍ لَمْ یُزیِّنِ الْعِبادَ بِزینَةٍ أحَبَّ إلَی اللّه مِنْها هِی زینَةُ الْاَبْرارِ عِنْدَاللّه تَعالی وَالزُّهْدُ فِی الدُّنْیا فَجَعَلَک لا تَرْزَءُ مِنَ الدُّنْیا شَیْئاً وَلا تَرْزَءُ مِنْک

ص:309


1- (1) «سبات» من مادة «سبت» علی وزن «وقت» التعطیل لأجل الاستراحة؛ ویطلق «سبات» علی التوقف عن العمل وهذا هو المراد بها فی العبارة وتسمیة السبت لدی العرب کون هذه التسمیة فی الأصل جاءت من الیهود لأنّهم یعطلون أعمالهم فی یوم السبت.

الدُّنْیا شَیْئاً»(1).

وورد فی روایة أُخری أنّ امرأة شجاعة من شیعة علی علیه السلام تدعی «دارمیّة الحجونیّة» أُحضرت عند معاویة فسألها:

هل رأیت علیّاً؟

قالت: أی واللّه رأیته.

قال: کیف رأیتیه؟

قالت: «رَأَیْتُهُ لَمْ یَفْتِنْهُ الْمُلْکُ الَّذی فَتَنَک وَلَمْ تَشْغَلْهُ النِّعْمَةُ الَّتی شَغَلَتْک»(2).

تأمّل: من هو الأشعث بن قیس؟

ذکرنا فی الجزء الأوّل عند تفسیر الخطبة التاسعة عشرة أنّ «الأشعث» کان من المنافقین ثمّ أسلم ظاهراً علی عهد النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله ثم إرتدّ بعد وفاته واُسر فندم عند أبی بکر فعفا عنه، ووقف إلی جانب أعداء أمیرالمؤمنین علی علیه السلام مثل عمرو بن العاص، لبثّ الفرقة والنفاق فی صفوف أصحاب الإمام لیکون مصدراً لکثیر من المفاسد والاضطرابات، وکان صاحب نفوذ فی قبیلته فکان یستعین بهم لتحقیق مآربه، حتی قال بعض المحقّقین: إنّ أغلب مشاکل عصر خلافة أمیرالمؤمنین علی علیه السلام کانت من هذا المنافق اللدود.

للمزید یراجع الجزء الأوّل صفحة 644 فصاعداً.

***

ص:310


1- (1) شرح نهج البلاغة للمرحوم الخوئی، ج 14، ص 297، الطبعة القدیمة.
2- (2) کتاب بلاغات النساء، ص 106 طبق نقل شرح نهج البلاغة للمرحوم التستری، ج 6، ص 541.

الخطبة 225

اشارة

یَلْتَجِئ إلَی اللّه أنْ یُغْنِیَهُ (1)

نظرة إلی الخطبة (الدعاء)

الهدف الأصلی للإمام علیه السلام فی هذا الدعاء کما یتضح من العنوان، طلب الغنی وعدم الحاجة إلی غیره، فالحاجة إلی الآخرین مدعاة أحیاناً لمدح الآخرین، بینما لا یستحقون ذلک المدح، أو ذم المانعین ولعلهم لا یستحقون ذلک الذم، والأسوأ من ذلک مد الید إلی شرار الخلق، فالدعاء فی الواقع تعلیم لجمیع الناس ولاسیما الأتباع، وإلّا فالإمام علیه السلام أسمی مقاماً من أن یتجه صوب الأشرار أو یمدحهم.

***

ص:311


1- (1) سند الخطبة (الدعاء): روی هذا الدعاء باضافات الراوندی فی کتاب «الدعوات» وجاء بعد قوله: «إنَّک عَلی کُلِّ شَیء قَدیر»، «اللهمَّ اجْعَلْ أوّلَ کَریمَةٍ تَنْتَزِعُها مِنْ کَرائِمی وَأوّلَ وَدیعَةٍ تَرْتَجِعُها مِنْ وَدائِعِ نِعَمِک» وتشیر هذه الإضافة إلی أنّ الراوندی اقتبس الدعاء من مصدر آخر غیر «نهج البلاغة». کما ذکره باختلاف صاحب کتاب «الطراز» (السیّد الیمانی) وهذا یدل علی أنّه أخذه من مصدر آخر. وضمّنه الإمام السجاد علیه السلام فی دعاء مکارم الأخلاق باختلاف طفیف یدلّ علی أنّه کان معروفاً عند أهل البیت (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 160).

ص:312

اَللهمَّ صُنْ وَجْهِی بِالْیَسَارِ، وَلاَ تَبْذُلْ جَاهِیَ بِالْاِقْتَارِ، فَأَسْتَرْزِقَ طَالِبِی رِزْقِک، وَأَسْتَعْطِفَ شِرَارَ خَلْقِک، وَأُبْتَلَی بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِی، وَأُفْتَتَنَ بِذَمِّ مَنْ مَنَعَنِی، وَأَنْتَ مِنْ وَرَاءِ ذلِک کُلِّهِ وَلِیُّالاِْعْطَاءِ وَالْمَنْعِ؛ «إِنَّکَ عَلَی کُلِّ شَیْء قَدِیرٌ».

الشرح والتفسیر: الغنی عن شرار الخلق!

ذکر الإمام علیه السلام فی هذا الدعاء القصیر مطالب عمیقة ضمن ثمان عبارات فهو دعاء ودرس فی الأخلاق، فبیّن فی البدایة أصل الدعاء بعبارتین فقال: «اَللهمَّ صُنْ(1) وَجْهِی(2) بِالْیَسَارِ(3) ، وَلاَ تَبْذُلْ جَاهِیَ(4) بِالْاِقْتَارِ(5)».

لیس المراد من «الیسار» الغنی بالمعنی السائد فی العرف، بل المراد الغنی عن الآخرین المقترن بالکفاف والعفاف، وإلّا فالغنی بالمعنی المذکور یؤدی أحیاناً إلی إراقة ماء الوجه، وهنالک تفسیران للعبارة «وَلاَ تَبْذُلْ جَاهِیَ بِالاِْقْتَارِ» بالنظر إلی أنّ «ولا تبذل» من مادة «بذل» و «بذل» له معنیان: أحدهما العطاء والفقدان، والآخر القدم والضیاع: التفسیر الأوّل اللّهم لا تتوفانی علی الفقر، والآخر لا تبتذل شخصیتی بالفقر.

ص:313


1- (1) «صن» من «الصیانة».
2- (2) «وجه» تعنی هنا الکرامة وإن کان معناها الأصلی هو الوجه.
3- (3) «الیسار» من «الیسر» السهولة والغنی وهو المعنی المراد فی العبارة.
4- (4) «جاه» القدر والمقام والشرف.
5- (5) «اقتار» من «القتور» علی وزن «فتور» المشقّة فی الإنفاق.

ثم خاض فی أربع عبارات فی آثار الفقر والحاجة إلی الآخرین فقال:

«فَأَسْتَرْزِقَ طَالِبِی رِزْقِک، وَأَسْتَعْطِفَ شِرَارَ خَلْقِک، وَأُبْتَلَی بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِی، وَأُفْتَتَنَ بِذَمِّ مَنْ مَنَعَنِی».

وقال علیه السلام فی الختام: «وَأَنْتَ مِنْ وَرَاءِ ذلِک کُلِّهِ وَلِیُّ الاِْعْطَاءِ وَالْمَنْعِ؛ «إِنَّک عَلَی کُلِّ شَیْء قَدِیرٌ»».

فقد أشار الإمام علیه السلام فی هذه العبارات الموجزة فی أربعة آثار سیئة للفقر التی تتمّ فی مرحلتین فقال أوّلاً: أدنی ما یترتب علی ذلک أن أمد ید الحاجة إلی المحتاجین إلیک والأسوأ من ذلک أن تقضی الحاجة من قبل السیئین، وحقاً ألیمة للغایة هی الحیاة فی ظلّ تلک الشرائط بالنسبة للأفراد المؤمنین ذوی الشخصیة.

فی المرحلة الثانیة: أی بعد الطلب فإن أجاب الطرف المقابل اضطر الإنسان إلی مدحه وإن تحفّظ عن الاجابة انطلق لسانی بذمّه ولعل لدیه حاجاته الکبیرة، ولکن حیث «صاحِبُ الْحاجَةِ لا یَری إلّاحاجَتَهُ»(1)، فبمجرّد أنّه لم یستجب لی اتّهمته بالبخل، والحال ما أحرانی أن اتّجه إلی اللّه فهو ولی المنع والعطاء وهو القادر علی کلّ شیء!

من البدیهی أنّ روح الإمام علیه السلام السامیة لا تقبل هذه الأمور قط وإن أصابته الحاجة، فالإمام یرید بیان الآثار الطبیعیة للفقر والتی تبدو علی أغلب الناس لیجدوا ویواجهوا الفقر ولا یمدوا أیدیهم إلی الآخرین أبداً.

تأمّل: الآثار السیئة للفقر

رغم ما ورد فی عدّة روایات فی مدح الفقر، کحدیث النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «اَلْفَقْرُ

ص:314


1- (1) . وردت هذه العبارة فی الروایات وتطلق بصیغة مثل معروف بتعبیرات مختلفة، مثل «صاحِبُ الْحاجَةِ لا یَرُومُإلّا قَضاءها» أو «صاحِبُ الحاجَةِ أرعن لا یُریدُ إِلّا قَضاءَها» أو «صاحِبُ الْحاجَةِ أعْمی وَلَو کانَ بَصیراً». (کشف الخفاء، العجلونی، ج 2، ص 18).

فَخْری وَبِهِ أفْتَخِرُ». وروایة الإمام الصادق علیه السلام: إنّ اللّه أوحی إلی موسی علیه السلام: «إذا رَأَیْتَ الفَقْرَ مُقبِلاً فَقُلْ مَرْحباً بِشِعارِ الصّالِحینَ وَاِذا رَأَیْتَ الْغِنی مُقْبِلاً فَقُلْ: ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ»(1). وسائر الروایات، ولکن من الواضح أنّ الفقر بمعنی العوز ولاسیما الذی یحصل بفعل الکسل والتقصیر وضعف الإدارة فانه لیس مدعاة للفخر ولا شعار الصالحین، بل مدعاة للذل والهوان والتلوث بأنواع المعاصی.

المدعاة إلی الفخر، الفقر إلی اللّه، فالکل محتاج إلی اللّه: «یَا أَیُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَی اللّه وَاللّه هُوَ الْغَنِیُّ الْحَمِیدُ»(2) والذی یشبه ما ورد فی حدیث أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال: «کَفی بی عِزّاً أنْ أکُونَ لَک عَبْداً وَکَفی بی فَخْراً أنْ تَکُونَ لی رَبّاً»(3).

أو أنّ المراد بالفقر، الحیاة البسیطة الخالیة من التکلف والتعقید إزاء الثراء الذی یؤدی إلی السکر والغرور والتطاول.

والعبارة «شعار الصالحین» عن الفقر، والتعبیر ب «العقاب المعجل» عن الغنی، شهادة واضحة علی هذا المعنی، لأنّ شعار الصالحین قطعاً مایوجب الصلاح والفلاح؛ کالزهد وبساطة العیش وعقوبة المعصیة ترتبط بالأمر الملوث بالذنب.

کما یحتمل أن تکون بعض الروایات التی أثنت علی الفقر تشیر إلی الفقر المفروض الذی یطال الإنسان إثر القیام بالوظیفة، مثلاً، فی بدایة الدعوة النبویة اضطر العدید من المسلمین إلی الهجرة من مکة إلی المدینة ولم یتمکنوا من حمل ممتلکاتهم معهم فعانوا هناک من فقر شدید أو المسلمون الذین حاصرهم خصوم الدعوة اقتصادیاً فأصبحوا فقراء، الفقر الذی أصابهم بسبب الإیمان باللّه وطاعة أوامره وکان النّبی صلی الله علیه و آله یواسیهم ویبیّن لهم أنّ الفقر مدعاة للفخر وشعار الصالحین.

ص:315


1- (1) . الکافی، ج 2، ص 263، ح 12 من باب فضل فقراء المسلمین.
2- (2) . سورة فاطر، الآیة 15.
3- (3) الخصال، ج 2، ص 420، ح 14.

کما عانی خواص أهل البیت علیهم السلام فی العصور اللاحقة بمضمون المثل المعروف «اَلْبَلاءُ لِلْوِلاءِ» من هذا الفقر المفروض واستمر ذلک حتی عصرنا الحاضر، وهذا الفقر لیس بعیداً عن العیب فحسب، بل هو فخر، والعیب أن یتخلی الإنسان عن الوظیفة من أجل الدنیا والاستسلام للعدو.

وإلی ذلک أشار الحدیث الشریف «مَنْ أَحَبَّنا أهْلَ الْبَیْتِ فَلْیُعدَّ لِلْفَقْرِ جِلْباباً»(1).

وعلیه فالفقر الحاصل من الکسل والهروب من العمل أو سوء الإدارة لیس مطلوباً للإنسان قطّ.

ویشیر کلام الإمام علیه السلام فی هذا الدعاء إلی أنّ سلسلة من الرذائل الأخلاقیّة التی یفرزها الفقر بمعنی العوز والحاجة، فالتواضع للأشرار ومدح وذم من لا یستحق، لمن تلک الرذائل الأخلاقیّة التی تنشأ من الفقر بمعنی العوز.

الجملة «لا تَبْذُلْ جاهی بِالْاِقْتارِ» دلیل علی أنّ الفقر الفردی یزیل ماء وجه الإنسان، والفقر الاجتماعی یزیل ماء وجه المجتمع وهذا ما لا ینسجم أبداً والعزة الناشئة من الإیمان: «وَللّه الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِینَ وَلَکِنَّ الْمُنَافِقِینَ لاَ یَعْلَمُونَ»(2).

قال أمیرالمؤمنین علی علیه السلام: «یا بُنَیَّ الْفَقیرُ حَقیرٌ لایُسْمَعُ کَلامُهُ وَلا یُعْرَفُ مَقامُهُ لَوْ کانَ الْفَقیرُ صادِقاً یُسَمُّونَهُ کاذِباً وَلَوْ کانَ زاهِداً یُسَمُّونَهُ جاهِلاً».

ثم أضاف علیه السلام: «یا بُنَیَّ مَنِ ابْتُلِیَ بِالْفَقرِ ابْتُلِیَ بِأَرْبَعِ خِصالٍ: بِالضَّعْفِ فی یَقینِهِ وَالنُّقْصانِ فی عَقلِهِ وَالرِّقَّةِ فی دینِهِ وَقِلَّةِ الْحَیاءِ فی وَجْهِهِ، فَنَعُوذُ بِاللّه مِنَ الْفَقْرِ»(3).

وإننا لنری الیوم باُم أعیننا أنّ الفقر مصدر ما لا یحصی من المفاسد کالابتلاء بالمخدرات والفحشاء والخیانة والسرقة وخدمة الأجانب وما شابه ذلک، ومن هنا ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «غِنیً یَحْجُزُک عَنِ الظُّلمِ خَیرٌ مِنْ فَقْرٍ یَحْمِلُک

ص:316


1- (1) بحار الأنوار، ج 46، ص 36.
2- (2) سورة المنافقون، الآیة 8.
3- (3) بحار الأنوار، ج 69، ص 47، ح 58، من باب فضل الفقر والفقراء.

عَلَی الْإثْمِ»(1).

ولذلک قال النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «اَلْفَقْرُ سَوادُ الْوَجهِ فِی الدّارَینِ»(2).

وقال صلی الله علیه و آله أیضاً: «کادَ الْفَقْرُ أنْ یَکُونَ کُفراً»(3).

ومن الطبیعی أن تکون تلک العیوب التی اشیر إلیها أعظم خطورة إن عمّ الفقر المجتمع، وإننا نری الیوم المجتمعات الإسلامیّة الفقیرة کیف هوت فی مخالب الأجانب وأعداء الإسلام بما یدعو الإنسان إلی مزید من الأسی والأسف.

ونختتم هذا البحث بدعاء عن الإمام السجاد علیه السلام ضمن أحد أدعیته العمیقة المعانی إذ تضرع: «اللّهمَّ إنّی أسئَلُک خَیْرَ الْمَعیشَةِ مَعیشَةً أقْوی بِها عَلی طاعَتِک وَأبْلُغُ بِها جَمیعَ حاجاتی وَأَتَوَسَّلُ بِها إِلَیک فی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَفی الآخِرَةِ مِنْ غَیْرِ أنْ تُتْرِفَنی فیها فَأطْغی أوْ تَقْتُرَها عَلیّ فَأَشْقی»(4).

***

ص:317


1- (1) وسائل الشیعة، ج 12، ص 17، ح 7.
2- (2) بحار الأنوار، ج 69، ص 30.
3- (3) المصدر السابق.
4- (4) المصدر السابق، ج 87، ص 12.

ص:318

الخطبة 226

اشارة

فی التَّنْفیرِ مِنَ الدُّنْیا (1)

نظرة إلی الخطبة

تتکون هذه الخطبة فی الواقع من ثلاثة أقسام وکل قسم فی مطلب مکمل لمطلب آخر: خاض الإمام علیه السلام فی القسم الأوّل فی التعریف بالدنیا أنّها دار متقلبة ملیئة بالأحداث الألیمة دائمة التغیر وأهلها عرضة لسهام البلاء.

وحذر فی القسم الثانی من أن قبلکم کثیر ممن عمّر الدنیا وکانوا أکثر منکم إمکانات وأقوی لکنهم رحلوا جمیعاً وحلّوا مساکن من التراب والطین والحجر بدل تلک القصور، هی قبورهم.

ص:319


1- (1) سند الخطبة: روی هذه الخطبة المتّقی الهندی من فقهاء العامّة فی کتاب «کنزالعمّال» (ج 16، ص 200، ح 44224) وقال: روی الدینوری وابن عساکر عن عبداللّه بن صالح العجلی عن أبیه أنّ علی بن أبی طالب علیه السلام خطبنا یوماً فحمد اللّه وأثنی علیه وصلّی علی النبیّ ثم قال: «عِبادَ اللّه لا تَغُرَّنَّکُمُ الْحَیاةُ الدُّنْیا فَإِنَّها دارٌ بِالْبَلاءِ مَحْفُوفَةٌ وَبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ...» ورواها بإضافات سبط ابن الجوزی فی «تذکرة الخواصّ» وقال: تعرف هذه الخطبة (لفصاحتها وبلاغتها) ب «الخطبة البالغة». ثم قال: إنّ أبانعیم نقل بعضها فی کتاب الحلیة. وأضاف علیها الخطیب الخوارزمی فی کتاب «المناقب». قال صاحب «مصادر نهج البلاغة» بعد الإشارة إلی هذه المطالب: ولا نری حاجة لذکر رواة الخطبة من علماء الإمامیّة بعد هذه الروایة الواسعة من کتب العامّة. (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 167).

وقال فی القسم الثالث: إنّکم سائرون علی طریقهم وملاقون مصیرهم. وسیحل الیوم الذی تنتهی فیه حیاتکم وتضم القبور أجسادکم وستبعثون من تلک القبور وتظهر لکم أعمالکم التی أسلفتم وعلیکم تبعتها.

***

ص:320

القسم الأوّل

اشارة

دَارٌ بِالْبَلاَءِ مَحْفُوفَةٌ، وَبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ، لاَ تَدُومُ أَحْوَالُهَا، وَلاَ یَسْلَمُ نُزَّالُهَا.

أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَتَارَاتٌ مُتَصَرِّفَةٌ، الْعَیْشُ فِیهَا مَذْمُومٌ، وَالأَمَانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ، وَإِنَّمَا أَهْلُهَا فِیهَا أَغْرَاضٌ مُسْتَهْدَفَةٌ، تَرْمِیهِمْ بِسِهَامِهَا، وَتُفْنِیهِمْ بِحِمَامِهَا.

الشرح والتفسیر: تقلب احوال الدنیا

تناول الإمام علیه السلام کما قیل فی هذا الجانب من الخطبة تقلّب الدنیا وغدرها فقال:

«دَارٌ بِالْبَلاَءِ مَحْفُوفَةٌ، وَبِالْغَدْرِ(1) مَعْرُوفَةٌ، لاَ تَدُومُ أَحْوَالُهَا، وَلاَ یَسْلَمُ نُزَّالُهَا(2)».

والبلاء الذی یصیب الحیاة فی هذه الدنیا کثیر ومتنوع من قبیل الأمراض البدنیّة والنفسیّة والأحداث الاجتماعیة الألیمة والعواصف والزلازل والسیول والغارات والحروب وما یؤدی إلی جرح الإنسان أو موته وفقدان الأعزّة وأمثال ذلک.

والعبارة: «دَارٌ بِالْبَلاَءِ مَحْفُوفَةٌ» إشارة بلیغة لکل ما ذکر، غدر الدنیا وربّما یشیر إلی أهلها الغدرة غالباً فإن أقبلت الدنیا علی أحد أحیوه وإن ولّت ولّوا کأنّهم لم یعرفوه. أو إشارة إلی غدر النعم الدنیویة بینما تری الإنسان سالماً معافی ویظن أن وضعه سیستمر کذلک وإذا بحادث بسیط یقضی علی سلامته، أو تراه جمع أموالاً وثروة طائلة فتفاجأ بحدث أفلسه. وتقلّب الدنیا المبین فی العبارة «لاَ تَدُومُ

ص:321


1- (1) . «غدر» له عدّة معانٍ متقاربة المکر والخداع وعدم الوفاء.
2- (2) «نزّال» جمع «نازل» الضیف أو من یدخل مکاناً.

أَحْوَالُهَا» نتیجة لتلک الحوادث المتنوعة والبلایا التی تصیب الإنسان من کلّ جانب، وعدم أمن سکنتها فی العبارة «وَ لاَ یَسْلَمُ نُزَّالُهَا» بسبب تلک الحوادث المریرة وتقلبات الدنیا.

ثم أکّد علیه السلام ذلک بعبارة موقظة فقال: «أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَتَارَاتٌ(1) مُتَصَرِّفَةٌ(2) ، الْعَیْشُ فِیهَا مَذْمُومٌ، الأَمَانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ».

وتاریخ البشریّة برمته شاهد حی علی هذا الکلام العمیق المعنی وأبعد من ذلک آیات القرآن التی تکشف الستار عن قصص الماضین، والصورة ذات العبرة التی رسمها القران أواخر سورة القصص عن حیاة الثریّ المعروف من بنی إسرائیل قارون الذی ظهر یوماً بین بنی إسرائیل بزینته وخدمه وحشمه ویستعرض قوّته وثراءه أمام الجمیع حتی انبری البعض منهم ممن غرّته زخارف الدنیا لیقولوا: «یَا لَیْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِیَ قَارُونُ» ولم یطلع الغد حتی ابتلعته الأرض بالزلزلة والخسف بکلّ ما یملک فأخذت أصحاب الدنیا الرهبة لیقولوا «لَوْلاَ أَنْ مَّنَّ اللّه عَلَیْنَا لَخَسَفَ بِنَا».

ولا تبدو هذه الحوداث قلیلة فی عصرنا، بل اتسعت للغایة وانتشرت لنری کلّ یوم تلک المشاهد باعیننا.

ثم شبّه الإمام علیه السلام فی ختام هذا المقطع حوادث الدنیا وسکنتها تشبیهاً رائعاً فقال: «وَإِنَّمَا أَهْلُهَا فِیهَا أَغْرَاضٌ مُسْتَهْدَفَةٌ(3) ، تَرْمِیهِمْ بِسِهَامِهَا، وَتُفْنِیهِمْ بِحِمَامِهَا(4)».

نعم فالناس فی هذا العالم أهداف فاقدة للدفاع أمام سهام البلاء المصوبة نحوها من الیمین والشمال والأعلی والأسفل؛ السهام التی قلّما تخطئ وتصیب کبد الهدف فتقضی علیه، وهل من أمن فی المیدان الذی أحاط به الرماة ویستهدفون الإنسان

ص:322


1- (1) . «تارات» جمع «تارة» علی وزن «غارة» بمعنی الزمان وتأتی عادة بمعنی مرّة.
2- (2) «متصرّفة» من «التصرف» التغیر.
3- (3) «مستهدفة» من مادة «هدف» التی یصوب نحوها السهم.
4- (4) «حمام» من مادة «حم» علی وزن «غم» التقدیر ومن هنا یراد به الموت الذی قدره اللّه ویعنی الطیر بالکسر.

کلّ حین؟! ألیست الحیاة مذمومة قبیحة فی هذا الوسط؟ لعل ذلک المیدان ملیئ بالجواهر والألبسة الفاخرة والأطعمة المتنوعة، لکن هل یسع هذه الأمور إسعاد الإنسان فی ذلک الوسط؟! کلا. هنالک قصة معروفة من شأنها تجسید غدر الدنیا.

تأمّل: دار محفوفة بالبلاء

هذا العالم موضع المشاکل والمصائب والآلام والمحن. وإننا نعلم إجمالاً بهذا الموضوع، لکننا غالباً نتأمل فی شرحه وتفصیله.

والآفات التی تهدد سلامة الإنسان أکثر من أن تحصی. تتألف بنیة الإنسان من أعضاء مختلفة لکل منها عدّة شرائط للقیام بوظیفته، وأدنی تغیر فی تلک الشرائط بالنسبة للقلب والکلیتین والعروق والأعصاب والعضلات والعظام یخلق أزمة.

یعتقد بعض الأطباء بأنّ کبد الإنسان یدفع ثلاثمائة نوع من السموم ولو اختل قلیلاً لما وسعه دفع بعضها وهذه أولی الأزمات، وهکذا العین والأذن والأنف واللسان وأمثالها ولو تجاوزنا الآفات الباطنیة فإنّ الآفات الظاهریة کثیرة للغایة ومتنوعة بحیث إنّ موت الإنسان کامن فی عوامل حیاته؛ فالمطر مصدر الحیاة لو زاد عن حدّه لکون سیولاً عظیمة تأتی علی کل شیء، والریاح المهمّة للحیاة لو ازدادت سرعتها لأصبحت عاصفة تجتث الأشجار وتقذف بسقوف المنازل بعیداً، والشمس الذی تفیض بأشعتها الحیاة لو ترکزت هذه الأشعة لأصیب الإنسان بضربة الشمس وهدده خطر الموت، والأرض التی یسکنها الإنسان ومنها جمیع البرکات لو طغت وحدثت الزلازل لأحالت مدناً عمرت بالبناء لسنوات إلی رکام من التراب خلال لحظة.

وآفات النباتات وطغیان البحار وهجوم الأمراض المعدیة من الأرض والهواء والماء والطعام کلّ منها من شأنه تهدید حیاة الإنسان، وإذا صدرت الأوامر لأسراب

ص:323

الجراد بالهجوم وتقدمت بجیشها الجرار من کلّ مکان لأبادت أوراق الأشجار والسیقان والمحاصیل دون أن یسع أحد مواجهتها ولو بأقوی الوسائل المتطورة.

هذا ما یتعلق بالحوادث الطبیعیة أمّا الآفات الاجتماعیة فلیست بأقل منها خطراً، فهنالک الحروب الدمویة کالبراکین التی تحدث کلّ یوم فی منطقة من العالم والتی تهدد علی الدوام حیاة الإنسان، التنافس المحموم للاستیلاء علی المناصب السیاسیة والقضایا الاقتصادیة تمرغ کلّ یوم أنف جماعة فی التراب أو تقضی علی حیاتها الاختلافات الاُسریة التی تؤدی إلی الطلاق وتصدع کیان الاُسرة وعقوق الأبناء وخیانة الشرکاء وأصحاب السوء وضربات المنافقین کلّ منها عامل یهدد حیاة الإنسان واستقراره.

وعلیه فلابدّ أن نقبل بکلّ کیاننا علی کلام «دَارٌ بِالْبَلاَءِ مَحْفُوفَةٌ».

***

ص:324

القسم الثانی

اشارة

وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللّه أَنَّکُمْ وَمَا أَنْتُمْ فِیهِ مِنْ هذِهِ الدُّنْیَا عَلَی سَبِیلِ مَنْ قَدْ مَضَی قَبْلَکُمْ، مِمَّنْ کانَ أَطْوَلَ مِنْکُمْ أَعْمَاراً، وَأَعْمَرَ دِیَاراً، وَأَبْعَدَ آثَاراً؛ أَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُم هَامِدَةً، وَرِیَاحُهُمْ رَاکِدَةً، وَأَجْسَادُهُمْ بَالِیَةً، وَدِیَارُهُمْ خَالِیَةً، وَآثَارُهُمْ عَافِیَةً. فَاسْتَبْدَلُوا بِالْقُصُورِالْمُشَیَّدَةِ، وَالَّنمَارِقِ الْمُمَهَّدَةِ، الصُّخُورَ وَالإَحْجَارَ الْمُسَنَّدَةَ، وَالْقُبُورَ اللاَّطِئَةَ الْمُلْحَدَةَ، الَّتی قَدْ بُنِیَ عَلَی الْخَرَابِ فِنَاؤُهَا، وَشُیِّدَ بِالتُّرَابِ بِنَاؤُهَا؛ فَمَحَلُّهَا مُقْتَرِبٌ، وَسَاکِنُهَا مُغْتَرِبٌ، بَیْنَ أَهْلِ مَحَلَّةٍ مُوحِشِینَ، وَأَهْلِ فَرَاغٍ مُتَشَاغِلِینَ، لاَ یَسْتَأْنِسُونَ بِالاَْوْطَانِ، وَلاَ یَتَوَاصَلُونَ تَوَاصُلَ الْجِیرَانِ، عَلَی ما بَیْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ الْجِوَارِ، وَدُنُوِّ الدَّارِ.

وَکَیْفَ یَکُونُ بَیْنَهُمْ تَزَاوُرٌ، وَقَدْ طَحَنَهُمْ بِکَلْکَلِهِ الْبِلَی، وَأَکَلَتْهُمُ الْجَنَادِلُ وَالثَّرَی.

الشرح والتفسیر: جیران متباعدون

أخذ الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة ید مخاطبیه لیحملهم إلی أعماق تاریخ الماضین لیریهم مصیرهم بعد ذلک العمر الطویل وتلک القوّة والاقتدار ویضع أمسهم مع یومهم فیلهم مخاطبیه وجمیع عباد اللّه من کلّ ملّة ونحلة أعظم وأعمق درس وعبرة فقال: «وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللّه أَنَّکُمْ وَمَا أَنْتُمْ فِیهِ مِنْ هذِهِ الدُّنْیَا عَلَی سَبِیلِ مَنْ قَدْ مَضَی قَبْلَکُمْ».

ثم خاض علیه السلام فی شرح هذا المجمل فقال: «مِمَّنْ کانَ أَطْوَلَ مِنْکُمْ أَعْمَاراً، وَأَعْمَرَ

ص:325

دِیَاراً، وَأَبْعَدَ آثَاراً؛ أَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُم هَامِدَةً(1) ، وَرِیَاحُهُمْ رَاکِدَةً، وَأَجْسَادُهُمْ بَالِیَةً، وَدِیَارُهُمْ خَالِیَةً، وَآثَارُهُمْ عَافِیَةً(2)».

وقد قدّم القرآن فی مختلف السور نماذج واضحة لهؤلاء الأقوام، ومن ذلک قوم عاد وثمود کنموذج واضح فقال فی سورة والفجر «أَلَمْ تَرَ کَیْفَ فَعَلَ رَبُّک بِعَاد * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِی لَمْ یُخْلَقْ مِثْلُهَا فِی الْبِلاَدِ * وَثَمُودَ الَّذِینَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِی الأَوْتَادِ * الَّذِینَ طَغَوْا فِی الْبِلاَدِ * فَأَکْثَرُوا فِیهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَیْهِمْ رَبُّک سَوْطَ عَذَاب»(3).

فقد ذکر علیه السلام ثلاث خصائص تفید رجحان الأقوام السابقة علیهم؛ الاُولی طول العمر (بحیث قیل إنّ بعضهم کان یعمر أربعمائة سنة)(4) وعمارة المدن حتی قال فیهم القرآن: «وَکَانُوا یَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُیُوتاً امِنِینَ»(5). وکانت لهم أراضٍ عامرة وبساتین نضرة ونعمة وافرة وکانوا بارعین فی الزراعة.

وأخری کانت آثارهم أبقی، إشارة إلی أنّ مساکنهم وقصورهم وسائر أعمالهم العمرانیة کانت علی درجة من الإحکام بحیث بقیت لسنین عدیدة، لکن کیف کانت عاقبتهم، سکنت الأصوات والضجیج وسیطر علیها الصمت وتعفنت أجسادهم تحت التراب وبلیت عظامهم وطویت آثارهم.

والعبارة «وَرِیاحُهُم رَاکِدة» بالنظر إلی أنّ ریاح جمع ریح والریح هنا بمعنی الروح والقوّة فمفهوم رکودها أنّهم قعدوا تماماً عن العمل، وفسّره البعض بمعنی سکون ریح الغرور. کما یحتمل أن یکون المراد بها الریح التی تطال رایات الملوک والمقتدرین.

ص:326


1- (1) . «هامدة» من «الهمود» تعنی فی الأصل انطفاء النار وانخفاض الحرارة ثم اطلقت علی انطفاء الصوت وهذا هوالمعنی المراد فی العبارة.
2- (2) «عافیة» من مادة «عفو» زوال آثار الشیء کأن تهب الریح وتزیل ذرات الرمل وتمحوها عن النظر ومنه العفو الذی یعنی إزالة آثار الذنب.
3- (3) سورة الفجر، الآیات 6-13.
4- (4) . شرح نهج البلاغة للعلّامة الخوئی، ج 14، ص 230.
5- (5) . سورة الحجر، الآیة 82.

ثم أشار علیه السلام إلی قضیة مهمّة بعد مغادرتهم لتلک القصور الفارهة والحیاة المترفة وأین حلّوا فقال: «فَاسْتَبْدَلُوا بِالْقُصُورِ الْمُشَیَّدَةِ(1) ، وَالَّنمَارِقِ(2) الْمُمَهَّدَةِ، الصُّخُورَ وَالأَحْجَارَ الْمُسَنَّدَةَ(3) ، وَالْقُبُورَ اللاَّطِئَةَ(4) الْمُلْحَدَةَ(5)».

حقّاً یا له من أمر عظیم أن ینتقل الإنسان من ذروة القدرة وهو یعیش النعمة واللذّة إلی النقطة المقابلة تماماً، فلا بیت ولا شمعة ولا سراج ولا فراش ولا نعمة وبطر. طبعاً هذا الأمر المؤلم بالنسبة لأولئک الذین اعتادوا الحیاة المرفهة والمریحة، أمّا أولئک الذین عاشوا حیاة الزهد والبساطة فلا یعانون من هذا الانتقال، لاسیما أنّ القبر بالنسبة لهم روضة من ریاض الجنّة.

ثم خاض فی بیان وضع قبورهم وسکنتها فقال: «الَّتی قَدْ بُنِیَ عَلَی الْخَرَابِ فِنَاؤُهَا(6) ، وَشُیِّدَ بِالتُّرَابِ بِنَاؤُهَا؛ فَمَحَلُّهَا مُقْتَرِبٌ، وَسَاکِنُهَا مُغْتَرِبٌ، بَیْنَ أَهْلِ مَحَلَّةٍ مُوحِشِینَ، وَأَهْلِ فَرَاغٍ مُتَشَاغِلِینَ».

نعم، إن کانت قصورهم بنیت بمواد قیمة باهضة جمعت بجهد جهید من مختلف المناطق فإنّ قبورهم بنیت بمواد لا قیمة لها فهی حفنة تراب، وسکنة هذه القبور فی حالتین متناقضتین، القرب والبعد، قریبون من حیث المکان وبعیدون من حیث الإرتباط، أو أنّهم منهمکون بأنفسهم إلی درجة عدم الإرتباط بالآخرین، أو لا یؤذنون لهم بالإرتباط، ویبدو أنّ ذلک لیس مهماً لهم، لکنّهم فی الواقع متضجرون

ص:327


1- (1) . «مشیّدة» من مادة «شید» علی وزن «صید» جعل الشیء مرتفعاً و «شید» علی وزن «بید» الجص وماشابه ذلک الذی یطلی به البناء للزینة وعلیه «اصول مشیدة» (بتشدید الیاء) البناء المرتفع والمحکم و «مشید» (علی وزن شدید) أیضاً البناء المحکم وورد فی القرآن المجید، فی سورة الحج، الآیة 45: «وَبِئْر مُّعَطَّلَة وَقَصْر مَّشِید».
2- (2) «نمارق» جمع «نمرقة» علی وزن «سنبلة» الوسادة الصغیرة التی یستند علیها.
3- (3) «مسنّدة» من «السنود» علی وزن «قعود» الاستناد و «مسنّدة» فی العبارة الشیء الذی یتکئ علیه.
4- (4) «لاطئة» ملتصقة بالأرض من «اللطوء» علی وزن «فروع» لصیقة بالأرض.
5- (5) «ملحدة» من مادة «لحد» علی وزن «مهد» دفن المیّت وهو جعل الشق وسط القبر أو جانبه.
6- (6) . «فِناء» الفضاء المفتوح امام البیت وهکذا کانت بیوت الکبار.

لأنّه وإن لم یکن هناک شیء من الأمور الدنیویة، لکنّهم وجلون من أعمالهم بحیث لا یکترثون لغیرهم (طبعاً یحدث کلّ هذا فی الحیاة البرزخیة).

ثم قال علیه السلام فی مواصلة ذلک: «لاَ یَسْتَأْنِسُونَ بِالاَْوْطَانِ، وَلاَ یَتَوَاصَلُونَ تَوَاصُلَ الْجِیرَانِ، عَلَی ما بَیْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ الْجِوَارِ، وَدُنُوِّ الدَّارِ».

العبارة «لاَ یَسْتَأْنِسُونَ بِالاَْوْطَانِ» لعل العبارة لا یستأنسون بالأوطان إشارة إلی أنّهم وإن ناموا سنین متمادیة فی قبورهم؛ لکن لا رغبة لهم بها ولا یأنسون بها، کما احتمل أن یکون المراد ترک إرتباطهم بأوطانهم فی عالم الدنیا فهم لا یفکرون فی الرجوع إلیه، إلّاأنّ المعنی الأوّل بقرینة العبارة (ولا یتواصلون...) أصوب.

وأشار علیه السلام فی الختام إلی هذه النقطة، لم لا یسعهم الإرتباط مع بعضهم: «وَکَیْفَ یَکُونُ بَیْنَهُمْ تَزَاوُرٌ، وَقَدْ طَحَنَهُمْ بِکَلْکَلِهِ(1) الْبِلَی، وَأَکَلَتْهُمُ الْجَنَادِلُ(2) وَالثَّرَی(3)!».

إشارة إلی أنّهم کانوا متلاصقین فی قبورهم، لکنّهم فقدوا کلّ قدرتهم وتحولوا إلی قبضة تراب، وهل من تزاور ولقاء من العظام البالیة والأجساد الخاویة؟

غَریبٌ وَأطْرافُ الْبُیُوتِ تَحُوطُهُألا کُلُّ مَنْ تَحْتَ التُّرابِ غَریبٌ(4)

تأمّل: عاقبة الإنسان بعد الموت

ما ورد فی الجمل المذکورة قرینة من الجمل التی جاءت بعدها والتی ترتبط بجسم الإنسان بعد الموت، لأنّ الأجساد تتحول إلی التراب ولیس فی مقدورها الترابط والتواصل بل تعیش الغربة تماماً.

ص:328


1- (1) «کلکل» بمعنی الصدر.
2- (2) «جنادل» جمع «جندلة» علی وزن «مزرعة» الصخور.
3- (3) «ثری» التراب.
4- (4) البیت للإمام الحسین علیه السلام، لما وضع أخاه الحسن علیه السلام فی لحده، انظر: مناقب آل أبی طالب علیه السلام، ج 3، ص 205؛ بحارالأنوار، ج 44، ص 160، ح 29.

ولا شک أنّ الأرواح لها شأن آخر، فإنّ أرواح المسیئین فی عذاب شدید کما أشار القرآن الکریم إلی نماذج منها مثل عاقبة آل فرعون حیث قال:

«النَّارُ یُعْرَضُونَ عَلَیْهَا غُدُوّاً وَعَشِیّاً وَیَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ»(1).

وأمّا أرواح الأخیار فی الجنّة البرزخیّة وکما قال القرآن الکریم بشأن الشهداء الذین قتلوا فی سبیل اللّه: «فَرِحِینَ بِمَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ»(2).

بل هذا ما یستفاد من بعض الروایات أنّ أرواح الأخیار فی تلاقی وتزاور، بل هم فی حلقات الاُنس والمؤانسة.

فقد روی المرحوم الکلینی فی الجزء الثالث من کتاب «الکافی» فی باب أرواح المؤمنین عن حبّة العرنی قال: خرجت مع أمیرالمؤمنین علیه السلام إلی الظهر، فوقف بوادی السلام کأنّه مخاطب لأقوام، فقمت بقیامه حتی أعییت ثم جلست حتی مللت، ثم قمت، حتی نالنی مثل ما نالنی أوّلاً، ثم جلست حتی مللت، ثم قمت وجمعت ردائی فقلت: یا أمیرالمؤمنین إنی قد أشفقت علیک من طول القیام، فراحة ساعة! ثمّ طرحت الرداء لیجلس علیه، فقال لی: «یا حَبّة، إنْ هُو إلّامُحادثةُ مُؤمن أو مُؤانسته». قال: قلت: یاأمیرالمؤمنین، وإنّهم لکذلک؟ قال: «نَعم، وَلَو کُشِفَ لَکَ لَرأیتَهُم حَلَقاً حَلَقاً مُحبتین یَتَحادَثُون». فقلت: أجسام أم أرواح؟ فقال: «أَرواحٌ، وَما مِن مُؤمنٍ یَموتُ فِی بُقعَةٍ مِن بِقاع الأرضِ، إلّاقِیلَ لِروحِه: إلحَقی بِوادی السّلام، وإنّها لَبُقعةٍ مِنْ جَنّةِ عَدنٍ»(3).

وعلی هذا الأساس فإنّ الإمام علی علیه السلام صرّح فی هذه العبارات إلی عدم انحصار الموت بالحیاة الجسمانیّة للإنسان ولا بعالم الأرواح فقط، وذلک أنّ أغلب الناس

ص:329


1- (1) سورة غافر، الآیة 46.
2- (2) سورة آل عمران، الآیة 170.
3- (3) الکافی، ج 3، ص 243، باب فی أرواح المؤمنین، ح 1.

فی هذه الحیاة یقتصرون علی الجانب المادی والملذات الجسمانیة فقط، بل یحذرهم بأنّ هذه الأجساد إلی أین یکون مصیرها؟ فعلیکم أن تستیقظوا من سباتکم ولا تنغمسوا فی الملذات الجسمانیة والمعاصی والذنوب فقط.

***

ص:330

القسم الثالث

اشارة

وَکَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَی مَا صَارُوا إِلَیْهِ، وَارْتَهَنَکُمْ ذلِکَ الْمَضْجَعُ، وَضَمَّکُمْ ذلِکَ الْمُسْتَوْدَعُ. فَکَیْفَ بِکُمْ لَوْ تَنَاهَتْ بِکُمُ الاُْمُورُ، وَبُعْثِرَتِ الْقُبُورُ: «هُنَالِک تَبْلُو کُلُّ نَفْس مَا أَسْلَفَتْ، وَرُدُّوا إِلَی اللّه مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا کَانُوا یَفْتَرُونَ».

الشرح والتفسیر: المصیر المحتوم

طبق الإمام علیه السلام علی مخاطبیه هنا ما أورده بشأن مصیر الأسلاف کی لا یظنّوا أنّ الوفاة ومغادرة القصور والثروات وإمکانات الحیاة واللحاق بالموسدین تحت التراب الذین لم یحملوا معهم شیئاً ولایتصلوا ببعضهم مقتصر علی أولئک الأسلاف فقال: «وَکَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَی مَا صَارُوا إِلَیْهِ، وَارْتَهَنَکُمْ ذلِکَ الْمَضْجَعُ(1) ، وَضَمَّکُمْ ذلِکَالْمُسْتَوْدَعُ».

نعم فهذا قانون لا استثناء فیه مع أنّ لکل عام ما یخصصه، إلّاأنّ هذه الأمور لا تخصص (أی أنّ تلک القاعدة لها استثناء أنّها لا تعرف الاستثناء فی بعض الموارد).

ثم أشار علیه السلام إلی قضیة مهمّة وهی أنّ مشکلة الإنسان لا تنتهی بالموت، والمشکلة حضوره محکمة القیامة ومسؤولیّته عن صغار أعماله وکبارها فقال:

«فَکَیْفَ بِکُمْ لَوْ تَنَاهَتْ(2) بِکُمُ الاُْمُورُ، وَبُعْثِرَتِ(3) الْقُبُورُ: «هُنَالِک تَبْلُو(4). کُلُّ نَفْس مَا

ص:331


1- (1) «مضجع» الفراش والمنام وتعنی هنا القبر ومن مادة «ضجع» علی وزن «ضرب» النوم علی الجانب.
2- (2) . «تناهت» من «التناهی» الوصول إلی الغایة.
3- (3) «بعثرت» من «البعثرة» علی وزن «مرتبة» تعنی فی الأصل القلب رأساً علی عقب والاستخراج ولما کانت القبور تقلب یوم القیامة عند إحیاء الأموات ویظهر ما بداخلها فقد استعمل فی القیامة.
4- (4) «تبلو» من مادة «بلاء» الامتحان وکون الامتحان سبب العلم فاستعملت بهذا المعنی.

أَسْلَفَتْ، وَرُدُّوا إِلَی اللّه مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا کانُوا یَفْتَرُونَ».

نعم هنالک بعض الأمور المهمّة فی ذلک الیوم؛ فالجمیع حاضرون بین یدی العدل الإلهی ویرون ی أعمالهم أمام أعینهم ولا تنفع جمیع الأعذار الواهیة والکذب لتبریر أسباب المعصیة والانحراف ولیس لأحد من سبیل للهروب من نتیجة أعماله.

حقاً لو تأمّل الإنسان هاتین القضیّتین سیری أنّ الحیاة آیلة للزوال وسیترک کلّ شیء ویلتحق بالنائمین تحت التراب ثم یعقب ذلک الحساب وجزاء الأعمال، الحساب الذی لا مفرّ منه؛ لو فکر فی هذین الأمرین لراقب أعماله قطعاً فی هذه الدنیا ولما بدر منه کلّ هذا الفساد والعصیان.

***

ص:332

الخطبة 227

اشارة

یَلْجَأُ فیهِ إِلَی اللّه لِیَهْدِیَهُ إلَی الرَّشادِ (1)

نظرة إلی الخطبة (الدعاء)

یتألف هذا الدعاء العمیق المعنی ذو المضامین الرفیعة من قسمین:

القسم الأوّل فی حبّ اللّه لعباده والمتوکلین علیه والعلم ببواطنهم.

ویستعیذ علیه السلام فی القسم الثانی باللّه لیرشده فی الحوادث المضلّة ویهدیه لما فیه الخیر ویعامله برحمته لا بعدله.

***

ص:333


1- (1) سند الخطبة (الدعاء): الکتاب الوحید الذی ورد فیه هذا الدعاء ویشیر إلی اقتباسها من مصدر آخر غیر «نهج البلاغة» باضافات یتضح منها أنّه استقاها من مصدر آخر جمعها فی (الصحیفة العلویة الاُولی) للعالم الفاضل السماهجی، کما وردت فی مصباح الشیخ الطوسی أنّ الإمام السجاد علیه السلام کان یدعو به بعد الرکعة الثالثة عشرة والرابعة عشرة یوم الجمعة (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 170) السماهجی هو الشیخ عبداللّه بن صالح بن علی أحمد البحرانی من سماهج قریة فی إحدی جزائر نواحی البحرین من علماء القرن الثانی عشر الهجری، کان آمراً بالمعروف وناهیاً عن المنکر وله مؤلفات منها الصحیفة العلویة الاُولی، توفی سنة 1135 (مصادر نهج البلاغة، ج 1، ص 81).

ص:334

القسم الأوّل

اشارة

اللّهُمَّ إِنَّک آنَسُ الْانِسِینَ لاَِوْلِیَائِک، وَأَحْضَرُهُمْ بِالْکِفَایَةِ لِلْمُتَوَکِّلِینَ عَلَیْک. تُشَاهِدُهُمْ فِی سَرَائِرِهِمْ، وَتَطَّلِعُ عَلَیْهِمْ فِی ضَمَائِرِهِمْ، وَتَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ. فَأَسْرَارُهُمْ لَک مَکْشُوفَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ إِلَیْک مَلْهُوفَةٌ. إِنْ أَوْحَشَتْهُمُ الْغُرْبَةُ آنَسَهُمْ ذِکْرُک، وَإِنْ صُبَّتْ عَلَیْهِمْ الْمَصَائِبُ لَجَأُوا إِلَی الاِْسْتِجَارَةِ بِک، عِلْماً بِأَنَّ أَزِمَّةَ الاُْمُورِ بِیَدِک، وَمَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِک.

الشرح والتفسیر: انس العباد

تضرع الإمام علیه السلام إلی اللّه فی مستهل هذا الدعاء المهذِّب للروح والمربّی للإنسان قائلاً: «اللّهُمَّ إِنَّک آنَسُ(1) الاْنِسِینَ لاَِوْلِیَائِک، وَأَحْضَرُهُمْ بِالْکِفَایَةِ لِلْمُتَوَکِّلِینَ عَلَیْک».

إشارة إلی أنّ من تحلّی بهاتین الصفتین سیشمل بهذه النعمة العظیمة بالأُنس باللّه وقضائه لمشاکله بأن یکون فی عداد أولیاء اللّه أو المتوکلین علیه، وهکذا یعطی الإمام علیه السلام درساً فی تهذیب الإنسان ضمن مناجاته لربه. ولما کان حلّ المشاکل منوط بالعلم بهم قال مواصلاً دعاءه: «تُشَاهِدُهُمْ فِی سَرَائِرِهِمْ، وَتَطَّلِعُ عَلَیْهِمْ فِی ضَمَائِرِهِمْ، وَتَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ. فَأَسْرَارُهُمْ لَک مَکْشُوفَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ إِلَیْک مَلْهُوفَةٌ(2)».

نعم، اللّه عالم بأسرارهم وبواطنهم، فهو أقرب إلینا من حبل الورید: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا

ص:335


1- (1) «آنس» صیغة افعل التفضیل من مادة «اُنس» تعنی هنا أشد الاُنس وحقیقة الاُنس، الهدوء عند الشیء وقال البعض یقال الإنسان: لأنسه بالروح الاجتماعیة.
2- (2) «ملهوفة» المشتاق أو المضطر ومن مادة «لهف» علی وزن «کهف» والمعنی الأوّل أنسب.

الاِْنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِیدِ»(1).

ولعل الفارق بین السرائر والضمائر أنّ السرائر تقال للحالات الخلقیة والضمائر للنیات التی تساور قلب الإنسان ویتحرک إثرها. کما تستعمل هاتان المفردتان بنفس المعنی. وبصائر البشریّة بالإضافة لاکمالها مفهوم هذا الدعاء تکمن فی المراقبة التامة للظاهر والباطن والنیّة والعمل، فاللّه عالم بکلّ هذه الأمور، أسرارهم الخفیة مکشوفة للّه ونیّاتهم ظاهرة له.

والعبارة: «قُلُوبُهُمْ إِلَیْک مَلْهُوفَةٌ» نتیجة لإیمانهم باللّه ومعرفتهم به وتوکّلهم علیه.

فکلما إزداد الإیمان والعلم به إزداد شوقه لمبدأ الرحمة والحبّ والکرم.

ثم أشار علیه السلام إلی نقطة هی أنّ أولیاء اللّه والمتوکلین علیه لا یرکعون قط للمصائب ولا یفقدون ثقتهم باللّه فقال: «إِنْ أَوْحَشَتْهُمُ الْغُرْبَةُ آنَسَهُمْ ذِکْرُک، وَإِنْ صُبَّتْ عَلَیْهِمْ الْمَصَائِبُ لَجَأُوا إِلَی الاِْسْتِجَارَةِ بِک، عِلْماً بِأَنَّ أَزِمَّةَ الاُْمُورِ بِیَدِک، وَمَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِک».

وفی الواقع أنّ کلّ هذه الصفات والحالات ناشئة من الإیمان بالتوحید الأفعالی ویشیر إلی أنّ هذا الغصن من التوحید إن نما فی روح الإنسان أفضی إلی ثمار جمّة، فلا یشعر بالوحدة إزاء المشاکل ولا یشعر بالغربة فی وحدته.

***

ص:336


1- (1) سورة ق، الآیة 16.

القسم الثانی

اشارة

اللهمَّ إِنْ فَهِهْتُ عَنْ مَسْأَلَتِی، أَوْ عَمِیتُ عَنْ طِلْبَتِی، فَدُلَّنِی عَلَی مَصَالِحِی، وَخُذْ بِقَلْبِی إِلَی مَرَاشِدِی، فَلَیْسَ ذلِک بِنُکْر مِنْ هِدَایَاتِک، وَلاَ بِبِدْع مِنْ کِفَایَاتِک.

اللّهمَّ احْمِلْنِی عَلَی عَفْوِک، وَلاَ تَحْمِلْنِی عَلَی عَدْلِک.

الشرح والتفسیر: اللّه کهف الوری

عقب بیان مقدمات الدعاء وإعداد القلب والروح للتضرع إلی اللّه الذی ورد سابقاً، خاض الإمام علیه السلام هنا فی أصل الدعاء فذکر أصلاً کلیاً أوجز فیه طلباته دون الترکیز علی کل واحدة فقال: «اللّهمَّ إِنْ فَهِهْتُ(1) عَنْ مَسْأَلَتِی، أَوْ عَمِیتُ عَنْ طِلْبَتِی، فَدُلَّنِی عَلَی مَصَالِحِی، خُذْ بِقَلْبِی إِلَی مَرَاشِدِی، فَلَیْسَ ذلِک بِنُکْرٍ مِنْ هِدَایَاتِک، وَلاَ بِبِدْعٍ مِنْ کِفَایَاتِک».

فهذا الدعاء ینطوی علی منتهی الآدب أمام اللّه وتلاحظ فیه ضمنیاً شمولیّة لجمیع الطلبات ویشیر إلی هذه الحقیقة وهی أننا مهما علمنا بمصالحنا ومطالبنا مع ذلک تغیب عنّا کثیراً من الأمور أو نخطئ فی تشخیصها؛ إلّاأنّ اللّه أعلم بمفاسدنا ومصالحنا، فنسأله إرشادنا لمصالحنا وما نسأله اللّه ما فیه خیرنا وصلاحنا ولا یستبعد ذلک قط من لطف اللّه.

وأود أن أذکر هنا حدیثاً رائعاً عن الإمام زین العابدین علیه السلام أنّ الحسن البصری

ص:337


1- (1) . «فَهِهتُ» من «الفهاهة» علی وزن «کرامة» العجز والنسیان.

قال: «لَیْسَ الْعَجَبُ مِمَّن هَلَک کَیْفَ هَلَک وَ إنّما الْعَجَبُ مِمَّنْ نَجا کَیفَ نَجا».

فقال الإمام زین العابدین علیه السلام: «لَیْسَ الْعَجَبُ مِمَّنْ نَجا کَیْفَ نَجا وَإنَّمَا الْعَجَبُ مِمَّنْ هَلَک کَیْفَ هَلَک مَعَ سِعَةِ رَحْمَةِ اللّه»(1).

ثم ابتهل علیه السلام فی الختام: «اللّهمَّ احْمِلْنِی عَلَی عَفْوِک، وَلاَ تَحْمِلْنِی عَلَی عَدْلِک».

وکأنّه علیه السلام عدّ العدل والعفو فی هذه العبارة مطیّة، والعدل مطیة مقلقة بینما العفو مطیّة سمحة فسأل اللّه أن یحمله علی تلک المطیة السهلة لنفوز بالقرب هانئین ومرتاحین من العقاب الألیم فی ظل لطفک، وهذا مضمون العبارة التی تورد کدعاء فی الصلاة وغیرها: «إلهَنا عامِلْنا بِفَضْلِک وَلا تُعامِلْنا بِعَدْلِک یا کَریمُ».

قال النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «وَالَّذی نَفْسی بِیَدِهِ ما مِنَ النّاسِ أحَدٌ یَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمِلِهِ».

فقال الأصحاب: «وَلا أنْتَ یا رَسُولَ اللّه؟».

فقال صلی الله علیه و آله: «وَلا أنَا إلّاأنْ یَتَغَمَّدنِی اللّه بِرَحْمَةً مِنْهُ وَفَضْلٍ وَوَضَعَ یَدَهُ عَلی فَوْقِ رَأْسِهِ وَطَوَّلَ بِها صَوْتَهُ»(2).

تأمّل: أدعیة المعصومین علیهم السلام المهذبة

تختزن أدعیة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وأئمّة العصمة علیهم السلام جانباً مهماً من التعالیم الدینیّة، ولقراءة هذه الأدعیة أثر عظیم فی ترسیخ عری الإیمان وتهذیب النفوس وتربیة الفضائل بالاضافة إلی سوق الإنسان إلی القرب من اللّه وإبعاده عن الشیطان ووساوسه وتلطیف الروح. ولما کانت تلک الأدعیة نابعة من الروح السامیة للمعصوم فهی جمیعاً فی مستوی رفیع واحد وإذا تلاها الإنسان عالماً بمضامینها ساقته لذروة المعرفة والکرامة فإذا جمعت هذه الأدعیة - وقد تصدی لذلک أخیراً بعض

ص:338


1- (1) بحار الأنوار، ج 75، ص 153، ح 17.
2- (2) المصدر السابق، ج 7، ص 11.

المحققین (1)- کانت خزانة نفیسة من المعارف الدینیة والدروس الخلقیة ومرآة السیر والسلوک إلی اللّه. وقد وردت علی هامش خطب نهج البلاغة والرسائل.

وقصار الکلمات ما یقارب ثلاثین دعاءً تؤید بأجمعها ما ذهبنا إلیه. فبعض الأدعیة کدعاء الصباح وکمیل وعرفة للإمام الحسین علیه السلام وأدعیة الصحیفة السجادیّة وسائر الأدعیة کالندبة وغیره التی وصلت عن المعصوم علیه السلام کلّ واحد منها شاهد آخر علی هذه الدعوی، ولیت اتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام سبقوا سائر المذاهب الإسلامیّة بهذا الخصوص وألزموا الشبّان بحفظ مقاطع من هذه الأدعیة (مع فهم معانیها) لیُصانوا من هجوم أمواج المعصیة التی تنامت فی عصرنا.

***

ص:339


1- (1) . جمعت وطبعت هذه المجموعة من قبل بعض المحققین فی مؤسسة أبحاث الروضة الرضویة فی خمسة أجزاء.

ص:340

الخطبة 228

اشارة

یُریدُ بِهِ بَعْضَ أصْحابِهِ (1)

نظرة إلی الخطبة

هذا الکلام الموجز تعریف بشخصیة أدّت وظائفها فی عصرها ورحلت طاهرة وجهدت فی حفظ سنّة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وطاعة اللّه. هنالک خلاف بین الشرّاح فی هذه الشخصیة. فالشرّاح من أبناء العامّة کابن أبی الحدید ومحمد عبدة زعموا أنّها إشارة إلی الخلیفة الثانی وزعموا أنّ علیّاً علیه السلام قال هذا الکلام بعد وفاة عمر، فی حین لا ینسجم هذا الکلام مع سائر خطب «نهج البلاغة». فقد شکا علیه السلام کثیراً فی الخطبة الشقشقیة من خلافة الثانی وبث شدّة شکواه من غصب الخلافة فی الخطب وبعض الرسائل، فکیف یمکن تجاهل کلّ ذلک واعتبار هذا الکلام المبهم والمجمل فی الخلیفة الثانی؟

والطریف أنّ الطبری(2) الذی یراه فی عمر إنّما رواه عن المغیرة بن شعبة وهو من

ص:341


1- (1) سند الخطبة: لم ینقل جانب من هذه الخطبة قبل السیّد الرضی عن علی علیه السلام سوی الطبری ضمن قصة عن المغیرة بن شعبة. (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 171).
2- (2) . تاریخ الطبری، ج 3، ص 285، حوادث السنّة 33 من الهجرة.

خصوم علی علیه السلام.

العجیب ما قاله ابن أبی الحدید أنّه رأی فی نسخة من «نهج البلاغة» بخط الرضی أنّه کتب «عمر» تحت کلمة فلان ویدل هذا علی أنّ الرضی له مثل هذا الاعتقاد(1) ، والحال لا یستبعد أبداً أنّ تلک النسخة إن کانت أصلیة تقلّبت لسنوات بید هذا وذاک فکتب بعضهم تلک الکلمة.

والأعجب من ذلک أنّ ابن أبی الحدید روی حدیثاً عن ابن عباس (ج 12، ص 20) ذکرناه سابقاً أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أراد أن یکتب بصراحة اسم علی وصیّه فی مرضه الذی توفی فیه فمنعته.

فهل ینسجم هذا الکلام مع تفسیر ابن أبی الحدید للخطبة التی تبحث؟

ولنفرض أنّ کلام علی علیه السلام کان فی عمر، فلا یبعد هذا الاحتمال أنّه لم یکن جدّیاً وکان تقیة، سیما طبق الروایة المذکورة أنّ المغیرة طرح هذا السؤال بعد وفاة عمر، بالنظر إلی أنّ المغیرة کان طالحاً ولعله أراد بثّ الشر فی صفوف المسلمین.

فأورد الإمام علیه السلام هذا الکلام علی أساس المصلحة الإسلامیّة، وإلّا فرأیه الصریح ما ورد فی الشقشقیة وسائر خطب «نهج البلاغة».

وقوله: فلان، بدل عمر من شأنه تأیید هذا المعنی، فهذا الإبهام علامة علی التقیة، یوقن للشرّاح الإمامیّة أنّ هذا الکلام لیس فی الخلیفة الثانی ویعتقدون بأنّه إشارة إلی مالک الأشتر والبعض الآخر یری أنّه فی سلمان الفارسی یبدو أنّ الاحتمال الأوّل أنسب وینسجم مع موقع مالک ودوره من بین أصحاب أمیرالمؤمنین علیه السلام وإمرته للجیش وفکره الرفیع وعزمه الراسخ.

***

ص:342


1- (1) . شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 12، ص 3.

للّه بِلاَءُ فُلاَنٍ فَلَقَدْ قَوَّمَ الأَوَدَ، وَدَاوَی الْعَمَدَ، وَأَقَامَ السُّنَّةَ، وَخَلَّفَ الْفِتْنَةَ! ذَهَبَ نَقِیَّ الثَّوْبِ، قَلِیلَ الْعَیْبِ. أَصَابَ خَیْرَهَا، وَسَبَقَ شَرَّهَا. أَدَّی إلَی اللّه طَاعَتَهُ، وَاتَّقَاهُ بِحَقِّهِ. رَحَلَ وَتَرَکَهُمْ فِی طُرُق مُتَشَعِّبَةٍ، لاَ یَهْتَدِی بِهَا الضَّالُّ، وَلاَ یَسْتَیْقِنُ الْمُهْتَدِی.

الشرح والتفسیر: مالک الأشتر

لقد اختلف شرّاح الفریقین کما قیل فی تفسیر هذه الخطبة والشخص المعنی بهذا الکلام. فقد ذهب أغلب الشرّاح من أبناءالعامّة (سوی صبحی الصالح) إلی أنّ المراد به الخلیفة الأوّل أو الثانی فی حین لا ینسجم هذا المدح البلیغ مع ذلک الذم الشدید الذی أورده الإمام علیه السلام فی مختلف خطب «نهج البلاغة» ولاسیما الخطبة الشقشقیة، ولکلماته حین دفن الصدیقة الطاهرة فاطمة الزهراء علیها السلام (الخطبة 202) فی ذمّهما واستهجان أعمالهما.

ومن هنا أجمع الشرّاح الشیعة علی أنّ الخطبة إشارة إلی أحد خواص أصحابه ولاسیما مالک الأشتر، خاصة وردت فی بعض العبارات المرویة عنه علیه السلام مثل ذلک المدح البلیغ لمالک التی تشیر إلی جدارته بهذا الکلام، ومن ذلک ما رواه ابن أبی الحدید فی شرحه أنّه علیه السلام قال:

«رَحِمَ اللّه مالِکاً فَلَقَدْ کانَ لی کَما کُنْتُ لِرَسُولِ اللّه صَلَّی اللّه عَلَیْهِ وَآلِهِ»(1).

ص:343


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 15، ص 98.

علی کلّ حال، قال: «للّه بِلاَءُ فُلاَنٍ فَلَقَدْ قَوَّمَ(1) الأَوَدَ(2) ، وَدَاوَی الْعَمَدَ(3) ، وَأَقَامَ السُّنَّةَ، وَخَلَّفَ(4) الْفِتْنَةَ!».

البلاء هنا الامتحان ویشیر هنا إلی ثواب هذا الامتحان ویعنی أنّ اللّه امتحنه کثیراً وقد دعا الإمام علیه السلام لیوفیه أحسن الثواب علی ذلک البلاء.

وردت فی کثیر من النسخ (بلاد) بدل (بلاء) جمع بلد، أی للّه البلد التی ترعرع فیها حتی هذا الشخص وهو کلام شائع الاستعمال لدی العرب فیقال: «للّه دَرُّ فُلان» و «للّه نادی فُلان».

فقد بیّن علیه السلام فی العبارة أربعاً من صفاته، الاُولی أنّه قوم الأوَد ولهذه العبارة معنی واسع یشمل المسائل العقائدیة والأخلاقیّة والاجتماعیة، والکلام فی العبارة الثانیة عن معالجة المرضی یشیر قطعاً إلی الأمراض الأخلاقیّة والاجتماعیة، وإقامة السُنّة بمعنی العودة إلی عصر النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله والتولی عن البدع الکثیرة التی ظهرت بعده صلی الله علیه و آله والعبارة «خَلَّفَ الْفِتْنَةَ» إشارة إلی أنّه ظهرت بعده العدید من الفتن والاختلافات بین المسلمین ومن توفیقاته أنّه لم یتعرض لتلک الفتن.

ثم خاض فی صفات مهمّة أخری فقال: «ذَهَبَ نَقِیَّ الثَّوْبِ، قَلِیلَ الْعَیْبِ. أَصَابَ خَیْرَهَا، وَسَبَقَ شَرَّهَا».

هذه الصفات الأربع تأکید لما ورد فی الصفات الأربع السابقة. وبالطبع فإنّ من یقوّم الاوَد ویداوی العمد ویقیم السُنّة سیکون: «نَقِیَّ الثَّوْبِ، قَلِیلَ الْعَیْبِ وَیُغادرُ الدّنیا مَلِیئاً بِالخیَراتِ».

ص:344


1- (1) . «قوّم» من «القیام» الصواب.
2- (2) «أود» العوج من «الأود» علی وزن «قول» الإنحناء والإعوجاج.
3- (3) «عمد» المرض وفی الأصل من مادة الجرح الذی یحصل فی ظهر الدابة من الرکوب.
4- (4) «خلف» تقال هذه العبارة حین یموت الإنسان قبل الحادثة من مادة «خَلْف».

ثم اختتم علیه السلام الکلام بثلاث صفات أخری فقال: «أَدَّی إلَی اللّه طَاعَتَهُ، وَاتَّقَاهُ بِحَقِّهِ. رَحَلَ وَتَرَکَهُمْ فِی طُرُق مُتَشَعِّبَة(1) ، لاَ یَهْتَدِی بِهَا الضَّالُّ، وَلاَ یَسْتَیْقِنُ الْمُهْتَدِی».

هذا الکلام إشارة إلی الحوادث التی وقعت الواحدة بعد الأخری بعد مالک الأشتر رحمه الله والتی کانت من آثار موقعة صفین والنهروان والتی یثیرها المنافقون وأعداء الإسلام، فلم یمر یوم دون ظهور فتنة ولا اسبوع وشهر دون قتال.

***

ص:345


1- (1) . «متشعبة» مختلفة ولها شعب.

ص:346

الخطبة 229

اشارة

فی وَصْفِ بَیْعَتِهِ بِالْخِلافة (1)

نظرة إلی الخطبة

مضمون الخطبة واضح. أکّد الإمام علی علیه السلام: إنّی لم اطلبکم للبیعة وأنتم من انبریتم لها وتلهفتم علیها واندفعتم حتی أسقطتم ردائی وقطعتم نعلی وعمّ الفرح والسرور المجتمع برمته بهذه البیعة.

تری لِمَ أورد الإمام علیه السلام هذه الخطبة؟ الجواب یکمن فی سائر عبارات الخطبة کون هذه الخطبة جانب من رسالة طویلة رواها الکلینی فی کتاب الرسائل حیث إنّ الإمام علیه السلام لما عاد من النهروان کتب کتاباً وأمر بأن یقرأ علی الناس، حیث تحرک المنافقون وقصدت فئة، الإمامَ وقالت: ما تقول فی أبی بکر وعمر وعثمان؟

فأجاب الإمام علیه السلام: رغم هذه الظروف وقتالنا لأهل الشام فإنّه سؤال حسن

ص:347


1- (1) سند الخطبة: قال المرحوم العلّامة التستری فی شرحه لنهج البلاغة إنّ الأصل فی هذه الخطبة ما ذکره المرحوم الکلینی فی رسائله ثم نقل هذه الخطبة مع إضافات وقال: ذکرها باختلاف طفیف ابن قتیبة فی «الإمامة والسیاسة» وابراهیم الثقفی فی «الغارات» وابن رستم الطبری فی کتابه «المسترشد» (شرح نهج البلاغة للتستری، ج 9، ص 517).

وسأکتب جواباً شافیاً وکافیاً ولیطلع علیه المسلمون.

ثم کتب ذلک الکتاب التاریخی فی ما یقارب من عشرین صفحة وأمر بقراءته فی صلاة الجمعة. فلما بلغ قضیة مقتل عثمان وبیعته التی تضمنت ذلک الهجوم الفرید شرح ذلک بعبارات موجزة عمیقة المعنی فی هذه الخطبة، کما شرح ما حدث من وقائع عقب ذلک حتی یسلب المتذرعین الحجة، وهنالک کلمات رائعة للإمام بشأن اندفاع الناس لبیعته ورد بعضه فی الخطبة الشقشقیة (الخطبة 3) والخطبة 137.

***

ص:348

وَبَسَطْتُمْ یَدِی فَکَفَفْتُهَا، وَمَدَدْتُمُوهَا فَقَبَضْتُهَا، ثُمَّ تَدَاکَکْتُمْ عَلَیَّ تَدَاکَّ الاِْبِلِ الْهِیمِ عَلَی حِیَاضِهَا یَوْمَ وِرْدِهَا حَتَّی انْقَطَعَتِ الْنَّعْلُ، وَسَقَطَ الرِّدَاءُ، وَوُطِیءَ الضَّعِیفُ، وَبَلَغَ مِنْ سُرُورِ النَّاسِ بِبَیْعَتِهِمْ إِیَّایَ أَنِ ابْتَهَجَ بِهَا الصَّغِیرُ، وَهَدَجَ إِلَیْهَا الْکَبِیرُ، وَتَحَامَلَ نَحْوَهَا الْعَلِیلُ، وحَسَرَتْ إِلَیْهَا الْکِعَابُ.

الشرح والتفسیر: الإندفاع العجیب لبیعة الإمام علیه السلام

رکز الإمام علیه السلام فی کلّ هذا الکلام علی قضیة مهمّة هی أنّی لست طالباً قط للحکومة وأنتم الذین أصررتم علیَّ، فأشار هنا إلی موضوعین: الأوّل اندفاع الناس المتلهفة لبیعتی، والثانی سرورهم الفائق وفرحهم الکبیر بذلک العمل.

فقال فی القسم الأوّل: «وَبَسَطْتُمْ یَدِی فَکَفَفْتُهَا، وَمَدَدْتُمُوهَا فَقَبَضْتُهَا، ثُمَّ تَدَاکَکْتُمْ(1) عَلَیَّ تَدَاکَّ الاِْبِلِ الْهِیمِ(2) عَلَی حِیَاضِهَا یَوْمَ وِرْدِهَا حَتَّی انْقَطَعَتِ الْنَّعْلُ، وَسَقَطَ الرِّدَاءُ، وَوُطِیءَ الضَّعِیفُ».

حقّاً لیس هناک من شبه بین بیعة الناس لعلی علیه السلام ومبایعة الخلفاء السابقین، فبیعته تشبه بیعة المسلمین للنّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی فتح مکة فقد سئمت الاُمّة حکومة

ص:349


1- (1) . «تداککتم» من مادة «دک» تعنی فی الأصل الأرض المنبسطة وحیث لابدّ أن تدق بإحکام فهی تعنی الدق وإذا وردت فی باب الأفعال عنت الإزدحام الشدید الذی یسبب التدافع.
2- (2) «هیم» جمع «هائم» الشخص أو الحیوان الشدید العطش وتطلق علی العاشق الذی لا سبیل له للهروب.

عثمان وعانت الأمرّین علی عهده من غیاب العدالة، ومن هنا کانت متعطشة للعدل وحیث رأتها فی ینبوع علی علیه السلام سارعت إلیه بتلک اللهفة والشوق.

ذکر المرحوم مغنیة فی شرحه «فی ظلال نهج البلاغة» قضیة من شأنها ایضاح سبب هجوم الاُمّة لمبایعة علی علیه السلام فقال: قرأت الیوم وأنا أشرح هذه الخطبة نسخة من صحیفة أخبار الیوم المصریة فی 1972/10/21 مقالة بقلم الأستاذ سامی محمود عنوانها «شرح فی خلافة المسلمین» یقول فیها: لما ولی عثمان الخلافة أسرف فیها وطغت بنی أمیة لتفسد هنا وهناک: «الَّذِینَ طَغَوْا فِی الْبِلاَدِ * فَأَکْثَرُوا فِیهَا الْفَسَادَ»(1).

فسلطهم علی المسلمین حتی غرقت الاُمّة فی الفتنة وقامت علی عثمان فقتلته.

أمّا علی علیه السلام وولده سبطی رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان لهم أسلوب واضح وصحیح فلم یفکروا لحظة فی الدنیا وزخارفها، فهجرتهم کانت منذ البدایة للّه ورسوله(2).

وعلیه فلا عجب أن تندفع الاُمّة لبیعة الإمام علی علیه السلام.

وقال فی المرحلة الثانیة: «وَبَلَغَ مِنْ سُرُورِ النَّاسِ بِبَیْعَتِهِمْ إِیَّایَ أَنِ ابْتَهَجَ بِهَا الصَّغِیرُ، وَهَدَجَ(3) إِلَیْهَا الْکَبِیرُ، وَتَحَامَلَ(4) نَحْوَهَا الْعَلِیلُ، وحَسَرَتْ(5) إِلَیْهَا الْکِعَابُ(6)».

عادة ما یلتحق کبار السن للمشارکة فی الأحداث العادیة أو غیر العادیة، أمّا فی الأحداث الفریدة النادرة التی تشهد حضوراً عظیماً فهنالک حضور حتی للعجزة والمعذورین الذین لا یشترکون فی أی تجمع. والإمام رسم بما عهد عنه من فصاحة فریدة حضور الاُمّة فی ذلک المشهد العظیم وتلک البیعة التاریخیّة بأسمی صورة

ص:350


1- (1) سورة الفجر، الآیتان 11 و 12.
2- (2) شرح نهج البلاغة للمرحوم مغنیة، ج 3، ص 332.
3- (3) «هدج» من مادة «هدج» علی وزن «نهج» مشی الضعیف والمضطرب وتستعمل عادة فی الکهول العجزة.
4- (4) «تحامل» من مادة «تحامل» (مصدر باب تفاعل) القیام بعمل بالمشقّة والتکلّف.
5- (5) «حسرت» من مادة «حسر» علی وزن «حصر» تعنی هنا کشف النقاب عن الوجه؛ إلّاأنّ المعنی الأصلی التحفّی وأحیاناً التعب.
6- (6) «کعاب» و «کاعب» الناهدة وتشیر إلی الفتیات.

وأشار إلی موجة الفرح والسرور العارمة التی اجتاحت جمیع أفراد الاُمّة بحیث خرج لها حتی الضعفاء والعجزة وشهدوا ذلک الحدث العظیم.

تأمّل: البیعة الفریدة المطلقة

رغم أنّ نصب الأئمّة المعصومین علیهم السلام زعماء الاُمّة خاضع لانتخاب النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله ومن جانب اللّه کما أنّ اصطفاء النّبی لهذا المقام من جانب اللّه، لکن للبیعة: أی إعلان الوفاء والطاعة دور مهم فی مسیرتهم، ومن هنا أخذ النّبی صلی الله علیه و آله البیعة من الاُمّة کراراً (بیعة العقبة الاُولی والثانیة والحدیبیّة وبیعة المهاجرات فی المدینة).

وعلی هذا الأساس سعی الخلفاء لأخذ البیعة من الناس؛ إلّاأنّ البیعة لم تکن کبیعة الإمام علیه السلام. فبیعة الخلیفة الأوّل فی الواقع حصلت فی السقیفة وشهدها عدد محدود جدّاً وأصبحت الاُمّة أمام أمر واقع فبایعت.

والخلیفة الثانی نصب من جانب الخلیفة الأوّل فجعل الاُمّة أمام فعل حاصل.

وحصلت بیعة الخلیفة الثالث فی الشوری المؤلفة من ستة أفراد التی شکلها عمر ولبنتها الأصلیة التی صوّتت لعثمان ثلاثة أفراد (عبدالرحمن بن عوف، وطلحة، وسعد بن أبی وقاص) ورأت الاُمّة أنّها أمام أمر واقع.

أمّا أمیرالمؤمنین علی علیه السلام - بغض النظر عن کونه منصب من جانب اللّه بواسطة النّبی صلی الله علیه و آله - فقد انتخب من قبل الأکثریة الساحقة ودون مقدمات فبویع بیعة غایة فی النشاط ومفعمة بالفرح والسرور الذی بیّنه علیه السلام بدقة فی هذه الخطبة، وعلیه قد قلنا بضرورة انتخاب الاُمّة والتعویل علی آرائها وأسمینا ذلک بالدیمقراطیة الإسلامیّة فالحاکم الوحید الذی حصل علی هذه الآراء هو أمیرالمؤمنین علی علیه السلام دون من سواه.

***

ص:351

ص:352

الخطبة 230

اشارة

فی مَقاصِدَ أُخْری(1)

نظرة إلی الخطبة

تتکون هذه الخطبة فی الواقع من أربعة أقسام:

تحدّث الإمام علیه السلام فی القسم الأوّل عن أهمّیة الورع والتقوی وآثارهما.

وتناول فی القسم الثانی بعد الفراغ من الوصیة بإتیان العمل الصالح ضرورة ذکر الموت ونهایة الحیاة وفقدان الفرص.

وأکّد ثانیة فی القسم الثالث علی بذل الجهد والسعی للتزود للدار الآخرة فأشار إلی خداع الدنیا مخاطباً المسلمین: احذروا أن تفتنکم الدنیا واعتبروا بما آلت إلیه حیاة أسلافکم وقارنوا بمصیرهم مصیرکم.

ص:353


1- (1) سند الخطبة: ذکر بعضها مع بعض التغییرات عدد من العلماء بعد السیّد الرضیّ بما یفید أنّها أخذت من مصدر آخر غیر «نهج البلاغة»: 1. ابن الأثیر فی عدّة موارد من کتاب «النهایة» ومنها فی مادة «خلس» و «عبل» و «حدم» و «دجی». 2. أورد الآمدی جوانب کثیرة من هذه الخطبة فی کتاب «غررالحکم» مع اختلافات. (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 175-176).

کما أورد فی القسم الرابع والأخیر الذی یبدو منفصلاً عن الخطبة حسب ظاهر کلام السید الرضی، کلمات موجزة عمیقة المعنی فی صفات الزهاد وخصائص معیشتهم وشرح حقیقة الزهد.

***

ص:354

القسم الأوّل

اشارة

فَإِنَّ تَقْوَی اللّه مِفْتَاحُ سَدَادٍ، وَذَخِیرَةُ مَعَادٍ، وَعِتْقٌ مِنْ کُلِّ مَلَکَةٍ، وَنَجَاةٌ مِنْ کُلِّ هَلَکَةٍ. بِهَا یَنْجَحُ الطَّالِبُ، وَیَنْجُو الْهَارِبُ، وَتُنَالُ الرَّغائِب.

الشرح والتفسیر: سرّ السعادة والفلاح

بیّن الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة کسائر أغلب الخطب، أهمّیة التقوی وآثارها لیوجزها فی سبع عبارات قصیرة عظیمة المعنی، فقال فی الاُولی: «فَإِنَّ تَقْوَی اللّه مِفْتَاحُ سَدَاد(1)».

فبالنظر إلی أنّ التقوی هی خشیة اللّه الباطنیّة التی تصد الإنسان عن الفحشاء والمنکر وتسوقه للمعروف والإحسان فإنّه یمکن القول: التقوی مفتاح أبواب السعادة؛ فکما توضع النفائس فی الخزائن وتقفل أبوابها ولا یمکن فتحها سوی بمفاتیحها فإنّ مفتاح التقوی من شأنه فتح خزائن السعادة بوجه الإنسان واستنزال رحمة اللّه المطلقة.

وقال علیه السلام فی العبارة الثانیة: «وَذَخِیرَةُ مَعَادٍ». وهی إشارة فی الواقع لذیل الآیة الشریفة: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوَی»(2). وقال فی الثالثة: «وَعِتْقٌ مِنْ کُلِّ مَلَکَةٍ(3)».

وسعة مفهوم هذه العبارة یشمل التحرر من عبودیة الشیطان واهواء النفس

ص:355


1- (1) «سداد» من مادة «سد» علی وزن «حد» العمل الصحیح والکلام الصائب.
2- (2) سورة البقرة، الآیة 197.
3- (3) «ملکة» تعنی هنا المعاصی التی تؤثر علی الإنسان.

والظلمة. وقال علیه السلام فی العبارة الرابعة: «وَنَجَاةٌ مِنْ کُلِّ هَلَکَةٍ» فهلکة الإنسان فی اتّباع هوی النفس، فإذا کبح الإنسان هوی النفس بالتقوی نجا من الهلکة.

وقال علیه السلام فی الخامسة: «بِهَا یَنْجَحُ الطَّالِبُ» فالتقوی هی الصراط المستقیم البعید عن کل إفراط وتفریط وتقصیر وعدوان، ومن الطبیعی أن یختزل الصراط المستقیم لیوصل الإنسان بأقل مدّة إلی الهدف.

وقال علیه السلام فی السادسة: «وَیَنْجُو الْهَارِبُ» فالعذاب الإلهی یطال عبدة الأهواء، والمتقون بعیدون عن الأهواء، وکما ورد فی الآیتین 71-72 من سورة مریم: «وَإِنْ مِّنْکُمْ إِلَّا وَارِدُهَا کَانَ عَلَی رَبِّک حَتْماً مَّقْضِیّاً * ثُمَّ نُنَجِّی الَّذِینَ اتَّقَوْا وَّنَذَرُ الظَّالِمِینَ فِیهَا جِثِیّاً» وقال علیه السلام فی العبارة السابعة والأخیرة التی تعتبر عصارة العبارات السابقة «وَ تُنَالُ الرَّغائِبُ(1)»، لِمَ عدّ اللّه الأتقی أکرم إنسان عنده. «إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّه أَتْقَاکُمْ»(2) ولم کانت التقوی مفتاح الجنّة «تِلْک الْجَنَّةُ الَّتِی نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ کَانَ تَقِیّاً»(3)، ولِمَ لا ینفک الأنبیاء وأئمة أهل البیت علیهم السلام وأولیاء اللّه عن التأکید علی أنّ أهم شیء هو التقوی ولم کانت ضرورة فی الوصیة بالتقوی فی کلّ صلاة جمعة وفی کلا الخطبتین؟

***

ص:356


1- (1) . «رغائب» جمع «رغیبة» الطلب المهم من مادة رغبة.
2- (2) . سورة الحجرات، الآیة 13.
3- (3) . سورة مریم، الآیة 63.

القسم الثانی

اشارة

فَاعْمَلُوا وَالْعَمَلُ یُرْفَعُ، وَالتَّوْبَةُ تَنْفَعُ، وَالدُّعَاءُ یُسْمَعُ، وَالْحَالُ هَادِئَةٌ، وَالأَقْلاَمُ جَارِیَةٌ. وَبَادِرُوا بِالاَْعْمَالِ عُمُراً نَاکِساً، أَوْ مَرَضاً حَابِساً، أَوْ مَوْتاً خَالِساً. فَإِنَّ الْمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِکُمْ، وَمُکَدِّرُ شَهَوَاتِکُمْ، وَمُبَاعِدُ طِیَّاتِکُمْ. زَائِرٌ غَیْرُ مَحْبُوب، وَقِرْنٌ غَیْرُ مَغْلُوب، وَوَاتِرٌ غَیْرُ مَطْلُوب. قَدْ أَعْلَقَتْکُمْ حَبَائِلُهُ، وَتَکَنَّفَتْکُمْ غَوَائِلُهُ، وَأَقْصَدَتْکُمْ مَعَابِلُهُ. وَعَظُمَتْ فِیکُمْ سَطْوَتُهُ وَتَتَابَعَتْ عَلَیْکُمْ عَدْوَتُهُ، وَقَلَّتْ عَنْکُمْ نَبْوَتُهُ. فَیُوشِک أَنْ تَغْشَاکُمْ دَواجِی ظُلَلِهِ وَاحْتِدَامُ عِلَلِهِ، وَحَنَادِسُ غَمَرَاتِهِ، وَغَوَاشِی سَکَرَاتِهِ، وَأَلِیمُ إِرْهَاقِهِ، وَدُجُوُّ أَطْبَاقِهِ، وَجُشُوبَةُ مَذَاقِهِ. فَکَأَنْ قَدْ أَتَاکُمْ بَغْتَةً فَأَسْکَتَ نَجِیَّکُمْ، وَفَرَّقَ نَدِیَّکُمْ، وَعَفَّی آثَارَکُمْ، وَعَطَّلَ دِیَارَکُمْ، وَبَعَثَ وُرَّاثَکُمْ، یَقْتَسِمُونَ تُرَاثَکُمْ، بَیْنَ حَمِیمٍ خَاصٍّ لَمْ یَنْفَعْ، وَقَرِیبٍ مَحْزُونٍ لَمْ یَمْنَعْ، وَآخَرَ شَامِت لَمْ یَجْزَعْ.

الشرح والتفسیر: المعبر الذی لا مفر منه

أوصی الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة بضرورة استغلال الفرص المتاحة قبل حلول الأجل وأکّد ذلک فقال: «فَاعْمَلُوا وَالْعَمَلُ یُرْفَعُ، وَالتَّوْبَةُ تَنْفَعُ، وَالدُّعَاءُ یُسْمَعُ، وَالْحَالُ هَادِئَةٌ(1) ، وَالأَقْلاَمُ جَارِیَةٌ»(2).

ص:357


1- (1) «هادئة» من مادة «هدوء» السکوت.
2- (2) من عجائب الدهر أنّ المحقق الفاضل صاحب «منهاج البراعة فی شرح نهج البلاغة» المعروف بشرح الخوئی، المرحوم الحاج المیرزا حبیب اللّه هاشمی الخوئی، مرض وتوفی لما بلغ هذه الخطبة، والعبارة «والعمل یرفع» ویدل هذا التزامن علی قبول عمله عنداللّه ورفعه إلیه فواصل المحقق الجلیل الشعرانی الشرح من الجزء الرابع إلی الرابع عشر ثم واصل تلمیذه حسن زادة الأملی شرح الجزء الخامس عشر حتی التاسع عشر وشرح الجزءین الأخرین العشرین والحادی والعشرین بقلم المرحوم الحاج محمد باقر الکمرئی حتی انتهی الشرح.

حیث أشار علیه السلام فی هذه العبارات الموجزة إلی أمر مهم: لدیکم خمس فرص ما دمتم فی الدنیا: أعمالکم الصالحة ترفع إلی اللّه ویسعکم أن تغسلوا المعاصی بماء التوبة. ودعاؤکم یسمع عند اللّه وأنتم وادعون فیمکنکم الإتیان بما تشاؤون من العمل الصالح وأخیراً الملائکة مستنفرون لیکتبوا صالح أعمالکم فی صحیفة أعمالکم، لکن إن مرت هذه الفرصة وکنتم علی أعتاب الموت ستسلبون هذه الفرص ولیس لکم من زاد سوی الحزن والحسرة.

ثم قال علیه السلام موضحاً کلامه ومکمله: «وَبَادِرُوا بِالاَْعْمَالِ عُمُراً نَاکِساً(1) ، أَوْ مَرَضاً حَابِساً، أَوْ مَوْتاً خَالِساً(2)».

فالواقع أنّ الإمام علیه السلام شجّع جمیع مخاطبیه للسبق فی هذه الأمور الثلاثة؛ مدّة الکهولة التی تفقد فیها جمیع الأعضاء قوّتها وقدرتها والتی أسماها القرآن الکریم «أرذل العمر» والأمراض التی تطول أحیاناً وتسلب الإنسان نشاطه وحیویته فلا یقدر علی الإتیان بالعبادات بصورة تامة ولا خدمة المؤمنین وقضاء حوائجهم، والموت الذی شبّهه علیه السلام بالسارق الذی یسرق کلّ شیء من الإنسان خلسة.

ثم وضع حقیقة الموت من خلال ذکره لستّ من خصائصه، الموت الذی لا مهرب منه ولا مفر لأحد من ملاقاته فقال: «فَإِنَّ الْمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِکُمْ، وَمُکَدِّرُ شَهَوَاتِکُمْ، وَمُبَاعِدُ طِیَّاتِکُمْ(3). زَائِرٌ غَیْرُ مَحْبُوب، وَقِرْنٌ(4) غَیْرُ مَغْلُوب، وَوَاتِرٌ(5) غَیْرُ مَطْلُوب».

ص:358


1- (1) . «ناکس» من مادة «نکس» علی وزن «حدس» قلب الشیء.
2- (2) «خالس» الخاطف من مادة «خلس» علی وزن «فلس» خطف الشیء بالحیلة والاختلاس بهذا المعنی.
3- (3) «طیّات» جمع «طیّة» الجانب والجهة والهدف. من مادة «طیّ» علی وزن «حیّ» الجمع والترتیب وتستعمل أحیاناً بمعنی العبور وطی الطریق.
4- (4) «قرن» الکفؤ فی الشجاعة.
5- (5) «واتر» الجانی من مادة «وتر» علی وزن «سفر» رامی السهم.

فقد حذّر علیه السلام من أنّ الزائر الذی یقدم علی الجمیع والرامی المصوب نحو الجمیع والأشوس الذی یعجز عن مواجهته الجمیع. فإن قدم حطم کلّ شیء فطوی بساط العیش وصادر اللّذات والمتع وحمل معه الإنسان، والأهم من کلّ ذلک أنّه لا یعرف من معنی للزمان والمکان. حقّاً أنّ هذه العبارات البلیغة العمیقة المعنی موقظة ومحرکة توقظ الغافلین وتفیق الثملین.

وکما خاض علیه السلام فی ستة خصائص أخری للموت لیکمل کلامه السابق فقال:

«قَدْ أَعْلَقَتْکُمْ حَبَائِلُهُ، وَتَکَنَّفَتْکُمْ(1) غَوَائِلُهُ(2) ، وَأَقْصَدَتْکُمْ مَعَابِلُهُ(3). وَعَظُمَتْ فِیکُمْ سَطْوَتُهُ وَتَتَابَعَتْ عَلَیْکُمْ عَدْوَتُهُ(4) ، وَقَلَّتْ عَنْکُمْ نَبْوَتُهُ(5)».

شبه الإمام علیه السلام الموت فی هذه العبارات الرائعة بصیاد رمی شباکه نحو جمیع الناس وأخری برام لا تطیش سهامه أو سیاف قاطع بسیفه.

نعم، إن شک الإنسان فی کلّ شیء فلن یشک فی الموت ونهایة الحیاة. یرکع له صنادید أبطال العالم ویقع فی شباکه أذکی الأذکیاء وکفی به أنّه لم یستثن حتی الأنبیاء والأولیاء وکما قال تعالی: «کُلُّ نَفْس ذَائِقَةُ الْمَوْتِ»(6).

وأشار علیه السلام إلی سبعة أمور أخری بشأن حملات الموت علی الإنسان والعجز عن مواجهته فقال: «فَیُوشِک أَنْ تَغْشَاکُمْ دَواجِی(7) ظُلَلِه(8) وَاحْتِدَامُ(9) عِلَلِهِ، وَحَنَادِسُ(10)

ص:359


1- (1) . «تکنّف» من مادة «تکنّف» الإحاطة بالشیء.
2- (2) «غوائل» جمع «غائلة» الشرّ والداهیة.
3- (3) «معابل» جمع «معبل» علی وزن «مدخل» النصل الحاد.
4- (4) «عدوة» العدوان.
5- (5) «نبوة» الخطأ فی الضربة بالسیف والسهم ونحوه.
6- (6) سورة آل عمران، الآیة 185.
7- (7) . «دواجی» جمع «داجیة» الظلمة من مادة «دجوّ» علی وزن «غلوّ».
8- (8) «ظلل» جمع «ظلّة» علی وزن «قلّة» السحابة.
9- (9) «الإحتدام» الاشتداد من مادة «حدم» علی وزن «حتم».
10- (10) «حنادس» جمع «حندس» علی وزن «قبرص» الظلمة الشدیدة.

غَمَرَاتِهِ(1) ، وَغَوَاشِی سَکَرَاتِهِ، وَأَلِیمُ إِرْهَاقِهِ(2) ، وَدُجُوُّ(3) أَطْبَاقِهِ(4) ، وَجُشُوبَةُ(5) مَذَاقِهِ».

حیث بیّن علیه السلام بهذه الحملات السبع وبمختلف العبارات وبأدق وصف، اللحظات الرهیبة آخر العمر، لحظات مهولة وموحشة للغایة، لحظات مظلمة ودامیة وصف علیه السلام ظلمتها بأربع مفردات مختلفة (دواجی، حنادس، غواشی ودجو) تکشف مدی بلاغة الإمام علیه السلام وتنوع الألفاظ یضاعف فصاحة کلماته وبلاغتها.

ثم حذّر علیه السلام مخاطبیه من نزول الموت المفاجئ وضرورة الیقظة فی أنّ هذا الموت لا یقبل دائماً بعد مقدمات طویلة وأمراض، بل ما أکثر أن یحلّ ویفنی کلّ شیء بلحظة فقال: «فَکَأَنْ قَدْ أَتَاکُمْ بَغْتَةً فَأَسْکَتَ نَجِیَّکُمْ(6) ، وَفَرَّقَ نَدِیَّکُمْ(7) ، وَعَفَّی(8) آثَارَکُمْ، وَعَطَّلَ دِیَارَکُمْ، وَبَعَثَ وُرَّاثَکُمْ، یَقْتَسِمُونَ تُرَاثَکُمْ».

وموت الفجأة الذی کان وما زال یفاجیء الناس، أعظم عبرة من غیره، حیث لا یعرف صغیراً أو کبیراً ویطال الإنسان کیفما کان، وقد ذکر المرحوم العلّامة التستری فی شرحه لنهج البلاغة عدداً من الأنبیاء ومنهم موسی وداود وسلیمان الذین ماتوا موت الفجأة، نعم، ظاهر القرآن بشأن سلیمان یشهد أنّ ملک الموت توفّاه واقفاً مستنداً علی عصاه «فَلَمَّا قَضَیْنَا عَلَیْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَی مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْکُلُ مِنسَأَتَهُ»(9).

ص:360


1- (1) «غمرات» جمع «غمرة» علی وزن «ضربة» الشدائد و «غمرات الموت» شدائد وصعاب الموت والاحتضار التی تصیب الإنسان فالغمرة تقال للماء الکثیر الذی یأخذ الشیء.
2- (2) «ارهاق» من مادة «رهق» علی وزن «شفق» تغطیة الشیء بالقهر والغلبة ویطلق علی الأعمال الشاقة، جدیر ذکره وردت فی بعض النسخ بدل «ارهاق»، «ازهاق» من مادة «زهوق» الاضمحلال والهلکة و «ازهاق الروح» فصل الروح عن البدن.
3- (3) «الدجوّ» الظلمة کما ورد أعلاه.
4- (4) «اطباق» جمع «طبق» وضع شیء علی آخر کأنّ للظلمة طبقات تتراکم علی بعضها.
5- (5) «الجشوبة» الخشونة؛ سواء فی الطعام أو الکلام وما شابه ذلک.
6- (6) . «النجیّ» المناجی والذی یهمس فی الاُذن من مادة «نجوی».
7- (7) «الندیّ» الجماعة الذین یجتمعون للمشورة أو الأحادیث المتعارفة.
8- (8) «عفّی» أزال الأثر من مادة «عفیّ» له عدّة معانٍ بحکم باب التفعیل منها المحو.
9- (9) شرح نهج البلاغة للمرحوم التستری، ج 11، ص 275.

حتی شوهد البعض وقد توفی وهو یتحدّث، فذکر المبتدأ ولم یبلغ الخبر.

فقد بیّن علیه السلام فی هذه العبارات آثار الموت فی وسط المتبقین حیث لا ینقطع کلامه الظاهری فحسب، بل یخمد حتی الهمس؛ فیتفرق عنه الحاضرون فجأة وسرعان ما تزول آثار الإنسان ویفرغ بیته وینطفئ ضیاؤه وإن کان هنالک من ضجیج فبین الورثة الذین عادة ما یتنازعون علی المیراث وکأنّهم لا یدرون أنّهم سیلتحقون بالموتی عن قریب.

ثم قسّم علیه السلام الورثة فی ختام هذه الفقرة إلی ثلاث؛ فئة من خواص الإنسان؛ إلّا أنّ مودتهم تزول آنذاک: «بَیْنَ حَمِیم خَاصٍّ لَمْ یَنْفَعْ».

والثانیة، القرابة المحزونة والملتاعة التی لا یسعها دفع الموت «وَ قَرِیبٍ مَحْزُونٍ لَمْ یَمْنَعْ». والثالثة، العدو الشامت الذی لا یجزعه موت «وَآخَرَ شَامِت لَمْ یَجْزَعْ».

وأشار الإمام علیه السلام فی المقطع الأخیر من کلامه إلی موت الفجأة؛ السکتة القلبیة أو الدماغیة والحوادث الألیمة المتنوعة التی تفنی الإنسان فی لحظة، الموت الذی لا یأبه بمکانة الأشخاص ولا بعمرهم فیطال کما مضی حتی الأنبیاء، ویالها من عبرة یختزنها هذا الموت الذی یحدث کثیراً ویزداد یوماً بعد آخر، ففی لحظة آنیة ینتهی کلّ شیء ویتفرق الجمع ویغتنم الصدیق ویفرح العدو - ویالهم من غافلین أولئک الذین یتجاهلون هذه الحوادث وینهمکون بالذنوب والمعاصی ویقارفون أنواع الآثام بغیة الحصول علی المال. نعم إنّ هؤلاء المغفلین ینسون طبیعة ظروف حیاتهم.

ورد فی کتاب «الإمامة والسیاسة» لابن قتیبة: فلما کانت سنة إحدی وخمسین، مرض الحسن بن علیّ مرضه الذی مات فیه، فکتب عامل المدینة ا لی معاویة یخبر بشکایة الحسن، فکتب إلیه معاویة: إن استطعت ألّا تمضی یوم یمرّ بی إلّایأتینی فیه خبره فافعل،: فلم یزل یکتب إلیه بحاله حتی توفی (الإمام الحسن علیه السلام)، فکتب إلیه بذلک، فلما أتاه الخبر أظهر فرحاً وسروراً حتی سجد وسجد من کان معه، فبلغ ذلک عبداللّه بن عباس وکان بالشام یومئذٍ، فدخل علی معاویة، فلمّا جلس قال معاویة:

ص:361

یا ابن عباس هلک الحسن بن علی، فقال ابن عباس: نعم، هلک «إنّا للّهِ إنّا إلیهِ راجِعُون»(1) ترجیعاً مکرراً، وقد بلغنی الذی أظهرت من الفرح والسرور لوفاته، أمّا واللّه ما سدّ جسده حفرتک، ولا زاد نقصان أجله فی عمرک، ولقد مات وهو خیر منک ولئن أُصبنا لقد أصبنا بمن کان خیراً منه، جدّه رسول اللّه صلی الله علیه و آله فجبر اللّه مصیبته، وخلف علینا من بعده أحسن الخلافة، ثم شهق ابن عباس وبکی، وبکی من حضر فی المجلس، وبکی معاویة فما رأیت یوماً أکثر باکیاً من ذلک الیوم(2).

وجاء فی «تاریخ الطبری»: عندما وصل خبر وفاة علی علیه السلام إلی معاویة فرح فرحاً شدیداً، وکذلک لما انتهی الخبر إلی عائشة قتل علی علیه السلام وقالت:

فَأَلقَتْ عَصاها وَاستَقرّتْ بِها النَّویکَما قَرَّ عَیناً بِالإیابِ المُسافرِ

فقالت زینب بنت أبی سلمة: ألعلیّ تقولین هذا، فقالت: إنّی أنسی فإذا نسیت فذکّرونی(3).

نعم، فمثل هؤلاء الأشخاص الغفلة ینسون ما هم علیه من العیش الدونی والانحراف وحبّ الدنیا والقدرة.

***

ص:362


1- (1) . سورة البقرة، الآیة 156.
2- (2) الإمامة والسیاسة، ابن قتیبة، ص 175.
3- (3) تاریخ الطبری، ج 4، ص 115.

القسم الثالث

اشارة

فَعَلَیْکُمْ بِالْجِدِّ وَالاِْجْتِهَادِ، وَالتَّأَهُّبِ والاِْسْتِعْدَادِ، وَالتَّزَوُّدِ فِی مَنْزِلِ الزَّادِ.

وَلاَ تَغُرَّنَّکُمُ الْحَیَاةُ الدُّنْیَا کَمَا غَرَّتْ مَنْ کَانَ قَبْلَکُمْ مِنَ الاُْمَمِ الْمَاضِیَةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِیَةِ، الَّذِینَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا، وَأَصَابُوا غِرَّتَهَا، وَأَفْنَوْا عِدَّتَهَا، وَأَخْلَقُوا جِدَّتَهَا. وَأَصْبَحَتْ مَسَاکِنُهُمْ أَجْدَاثاً، وَأَمْوَالُهُمْ مِیرَاثاً. لاَ یَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ، وَلاَ یَحْفِلُونَ مَنْ بَکَاهُمْ، وَلاَ یُجِیبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ. فَاحْذَرُوا الدُّنْیَا فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ، مُعْطِیَةٌ مَنُوعٌ، مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ، لاَ یَدُومُ رَخَاؤُهَا، وَلاَیَنْقَضِی عَنَاؤُهَا، وَلاَ یَرْکُدُ بَلاَؤُهَ.

الشرح والتفسیر: الدنیا الغرارة!

متابعة لبحث الإمام علیه السلام فی شدائد الموت وفناء الحیاة فی المقطع السابق خاطب الجمیع فأوصاهم بالتزود من الدنیا ما دامت الفرصة قائمة وعدم الاغترار بزخارفها ولذاتها والاعتبار بالماضیین فقال: «فَعَلَیْکُمْ بِالْجِدِّ وَالاِْجْتِهَادِ، وَالتَّأَهُّبِ (1)وَالاِْسْتِعْدَادِ، وَالتَّزَوُّدِ فِی مَنْزِلِ الزَّادِ».

قال بعض الشرّاح فی الفارق بین الجد والاجتهاد أنّ الجد یشیر إلی مرحلة العزم علی الإتیان بالفعل والاجتهاد مرحلته العملیة، والتأهب إشارة إلی النیّة علی الاستعداد والاستعداد جانبها العملی(2).

ص:363


1- (1) . «التأهّب» الاستعداد للشیء من «الاُهبة» وله أحیاناً معنی المصدر والاسم الجامد.
2- (2) شرح نهج البلاغة للعلّامة الخوئی، ج 14، ص 419.

لکن لم یذکر لذلک أی دلیل من اللغة أو القرائن المتصلة والمنفصلة ولا یبعد أن یکون الجد حین یقترن بالاجتهاد إشارة إلی أنّه ینبعث من الإنسان نفسه ولعل الفارق بین التأهب والاستعداد کذلک، طبعاً لا یستبعد احتمال التأکید.

ثم قال: «وَلاَ تَغُرَّنَّکُمُ الْحَیَاةُ الدُّنْیَا کَمَا غَرَّتْ مَنْ کَانَ قَبْلَکُمْ مِنَ الاُْمَمِ الْمَاضِیَةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِیَةِ».

نعم، یمکننا مشاهدة مصیر حیاتنا بصورة شفافة فی مرآة حیاة الآخرین وهذه حقیقة أکدها الإمام علیه السلام فی عدّة خطب من «نهج البلاغة» فتأخذ بأیدینا لتضعنا فی تاریخ الماضین؛ التاریخ التکوینی لا التدوینی الذی یتجلی فی أطلال قصورهم الخربة والآثار الباقیة من معیشتهم المترفة.

ولحسن الحظ فإنّ المتاحف التی تضم الکثیر من آثار الماضین یمکنها أن ترشدنا؛ فعرش الملک الفلانی وتاجه هنا والمهند المرصع وجواهر الآمر الکبیر هناک وفی زاویة الأجساد المحنطة للفراعنة، مع أنّ طلاب الدنیا شوهوا هذا الموضوع المهم وأحالوه إلی صورة أخری من الاستغراق فی الدنیا؛ فأصبحت المتاحف وسیلة تدر الأرباح علی أصحابها.

وقال الهیثم بن عدی، عن رجاله: بینا حذیفة بن الیمان وسلمان الفارسی یتذاکران أعاجیب الزمان، وتغیّر الأیّام، وهما فی عرصَة أیوان کسری، وکان أعرابی من غامد یرعی شویهات له نهاراً، فإذا کان اللیل صیرهنّ إلی داخل العرصة، وفی العرصة سریر رخام کان کسری ربّما جلس علیه، فصعدت غنیمات الغامدی علی سریر کسری، فقال سلمان: ومن أعجب ما تذاکرنا صعود غنیمات الغامدی علی سریر کسری(1).

أتَبنِی بِناءَ الخالِدِینَ وَإِنّما

ص:364


1- (1) البیان والتبیین، ج 3، ص 148.

ثم تناول علیه السلام حال الماضین ببضع عبارات موجزة فقال: «الَّذِینَ احْتَلَبُوا (1)دِرَّتَهَا(2) ، وَأَصَابُوا غِرَّتَهَا(3) ، وَأَفْنَوْا عِدَّتَهَا، وَأَخْلَقُوا(4) جِدَّتَهَا(5). وَأَصْبَحَتْ مَسَاکِنُهُمْ أَجْدَاثاً(6) ، وَأَمْوَالُهُمْ مِیرَاثاً. لاَ یَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ، وَلاَ یَحْفِلُونَ(7) مَنْ بَکَاهُمْ، وَلاَ یُجِیبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ».

العبارات: «الَّذِینَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا، وَأَصَابُوا غِرَّتَهَا...» والعبارات... إشارة إلی الأشخاص الذین تمتّعوا بجیمع ملذات الدنیا. وکان لبناً فی ثدی الدنیا فحلبوه وشربوه إلی آخره واستغلوا کلّ متع الدنیا ولکنهم کأن لم یلبثوا فیها فکانوا طبق العبارة «وَأَصْبَحَتْ مَسَاکِنُهُمْ أَجْدَاثاً».

ولهذه العبارة القیمة معنیان؛ الأوّل: انتقلوا من قصورهم إلی القبور، والآخر: إنّ قصورهم تهدمت علیهم بفعل بعض الحوادث المهوله کالزلزلة فأضحت قبورهم.

وبیّن علیه السلام بالدقة فی العبارات الخمس الأخیرة التی تبدأ ب (أصبحت) أنّهم اغتربوا عن الدنیا بحیث لم یعودوا یعرفون من یزورهم ویبکیهم من قرابتهم ومعارفهم ولا یسمعون صراخهم.

طبعاً هذا بخصوص أصحاب الدنیا الذین نسوا اللّه ولم تکن حصیلة أعمارهم سوی التهافت علی الدنیا، أما المؤمنون الصالحون حسب ما ورد فی الروایة فیعرفون من یقف علی قبورهم ویأنسون بهم ویغتمون لانصرافهم.

قال أحد أصحاب الکاظم علیه السلام إسحاق بن عمار: سألته عن المؤمن یعرف من یزوره فی قبره؟ فقال: «نَعَمْ وَلایَزالُ مُسْتَأْنِساً بِهِ مادامَ عِندَ قَبْرِهِ فَإذا قامَ وَانْصَرَفَ

ص:365


1- (1) . «احتلبوا» من «حلب» علی وزن «طرب» و «حلب» علی وزن «حرب» بمعنی استخراج الحلیب.
2- (2) . «درّة» اللبن أو الحلیب الکثیر.
3- (3) «غرّة» الغفلة والسهولة.
4- (4) «أخلقوا» من مادة «اخلاق» القدم من مادة «خلق» علی وزن «ورق» التآکل.
5- (5) «جدّة» جدید ولهذه المفردة معنی الاسم.
6- (6) . «أجداث» جمع «جدث» علی وزن «هوس» القبر.
7- (7) «لا یحفلون» لا یبالون من مادة «حفل» علی وزن «حرب» الاهتمام.

مِنْ قَبْرِهِ دَخَلَهُ مِنْ إنْصِرافِهِ عَنْ قَبْرِهِ وَحْشَةً»(1). ثم استنتج علیه السلام عقب ذلک «فَاحْذَرُوا الدُّنْیا».

ثم أورد ثمان صفات للدنیا (أو عشرة علی قول) کأدلة دامغة علی الحذر من الدنیا فقال: «فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ، مُعْطِیَةٌ مَنُوعٌ، مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ(2) ، لاَ یَدُومُ رَخَاؤُهَا، وَلاَیَنْقَضِی عَنَاؤُهَا، وَلاَ یَرْکُدُ(3) بَلاَؤُهَا».

والمفردات «غَدَّارَةٌ غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ» وإن کانت متقاربة من حیث المعنی لکنها فی الواقع تختلف فی الدقّة؛ غدارة من مادة غدر نقض العهد، وغرارة من غرور، الخدوع من خدعة الحیلة وتعلم أنّها متفاوتة وإن کانت غالباً من قبیل اللازم والملزوم، نعم، فالدنیا لا تفی لأحد وزخارفها تغرّ العدید من الناس ومختلف مناظرها ومشاهدها خدعة، العبارة «مُعْطِیَةٌ مَنُوعٌ» تعود لصفة؛ أی لا تکاد تعطی الإنسان شیئاً حتی تسترده، فلا یمضی عهد الشباب حتی تحل الکهولة ولا یذوق السلامة حتی تطاله الأمراض.

وذهب بعض الشرّاح إلی أنّ هاتین الصفتین منفصلتان وقال: الدنیا تعطی الأشیاء التافهة وتمنع الأشیاء القیمة، فلا قیمة لعطائها ولا یطاق منعها.

کما هنالک تفسیران للعبارة «مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ»: الأوّل: إنّه وصف مفهومه أنّ الدنیا تکسو الإنسان لباساً جمیلاً من القدرة والعظمة وتنزعه بعد مدّة قلیلة من قبل الآخرین، أو المراد أنّها تلبس ثیاباً تافهة وتنزع ثیاباً قیمة والتفسیر الأوّل یبدو أصح فی کلتا العبارتین.

وهنالک اختلاف واضح بین المفردات (رَخَاء) و (وعناء) و (بلاء) فالرخاء، الهدوء الذی قلما یحصل فی الدنیا، والعناء، المتاعب والمصاعب التی تطال دائماً أهلها،

ص:366


1- (1) . الکافی، ج 3، ص 228 باب زیارة القبور، ح 4.
2- (2) . «نزوع» من مادة «نزع» علی وزن «نذر» الفصل.
3- (3) «لایرکد» من مادة «رکود» السکون وانعدام الحرکة.

والبلاء، الحوادث الألیمة سواء الحوادث الطبیعیة کالزلازل والسیول والعواصف أم البلایا التی یصنعها الإنسان کالحروب، وزبدة الکلام: الدنیا دار لا تدوم.

***

ص:367

ص:368

القسم الرابع

اشارة

مِنْها فی صِفَةِ الزُّهّادِ: کانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْیَا وَلَیْسُوا مِنْ أَهْلِهَا، فَکَانُوا فِیهَا کَمَنْ لَیْسَ مِنْهَا، عَمِلُوا فِیهَا بِمَا یُبْصِرُونَ، وَبَادَرُوا فِیهَا مَا یَحْذَرُونَ، تَقَلَّبُ أَبْدَانُهُمْ بَیْنَ ظَهْرَانَیْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَیَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْیَا یُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ وَهُمْ أَشَدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْیَائِهِمْ.

الشرح والتفسیر: الزهاد الحقیقیون

قال الإمام علیه السلام فی الجانب الآخر من هذه الخطبة الذی یشیر تعبیر السید الرضی أنّه مستقل عمّا سبق لأنّه یقول (منها فی صفة الزهاد). «کانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْیَا وَلَیْسُوا مِنْ أَهْلِهَا، فَکَانُوا فِیهَا کَمَنْ لَیْسَ مِنْهَا».

هذه هی الصفة الاُولی من الصفات الخمس التی ذکرها الإمام علیه السلام للزهاد فی هذه العبارة. من الواضح أن لا تناقض قط فی العبارة، فالمراد أنّ جسمهم فی الدنیا لکن روحهم وقلبهم معلق بالآخرة.

وقد جرب ذلک کلّ شخص فی حیاته أنّ قلبه حین ینشغل بقضیة مهمّة یکون فکره متعلق بموضوع آخر وإن کان وسط أی جماعة، وتؤدی هذه الصفة إلی اختلاف أعمال الزهاد مع أصحاب الدنیا، فهؤلاء یجدون فی التزود من الدنیا وأولئک فی التزود لها، ودلیل ذلک واضح أنّ الزهاد لا یرون الدنیا سوی ممر والحیاة الواقعیّة حسب القرآن هی الدار الآخرة «وَإِنَّ الدَّارَ الاْخِرَةَ لَهِیَ الْحَیَوَانُ لَوْ کَانُوا یَعْلَمُونَ»(1).

ص:369


1- (1) سورة العنکبوت، الآیة 64.

ثم أشار علیه السلام إلی الصفة الثانیة «عَمِلُوا فِیهَا بِمَا یُبْصِرُونَ».

ومن ثم قال علیه السلام: «وَ بَادَرُوا(1) فِیهَا مَا یَحْذَرُونَ». فهؤلاء یرون ببصیرتهم سبل النجاة ویقفون علی عناصر السعادة والفلاح، ومن هنا یلهثون وراءها دائماً، ویعرفون من جانب آخر عوامل البؤس والشقاء، لذلک یسعون للهروب منها وعدم التلوث بها.

وقال فی الصفة الرابعة: «تَقَلَّبُ أَبْدَانُهُمْ بَیْنَ ظَهْرَانَیْ(2) أَهْلِ الْآخِرَةِ». نعم فهم یعیشون مع الجمیع ظاهریاً؛ إلّاأنّ معاشریهم الحقیقیین أهل الآخرة، کونهم یعلمون أنّ معاشرتهم لأصحاب الدنیا تمیت قلوبهم، فلا شیء فی مجالسهم سوی الدنیا ولذاتها، فهم فی الواقع أموات بصورة أحیاء.

ثم قال فی الصفة الخامسة والأخیرة: «وَ یَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْیَا یُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ وَهُمْ أَشَدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْیَائِهِمْ».

یستفاد من الصفات الخمس المذکورة أنّ معنی الزهد وحقیقته لیس فی کون الإنسان فقیراً ومعدماً أو یتخلی عن الحیاة الاجتماعیة والتقوقع فی زاویة للعبادة؛ بل حقیقة الزهد أن یری الأولویة للدار الآخرة فی کلّ شیء وحیثما کان ولا یکون أسیر زخارف الدنیا والأهواء والشهوات، وجاء فی خطبة أخری للإمام علیه السلام.

«أیُّهَا النّاسُ الزَّهادَةُ قَصْرُ الاْمَلِ وَالشُّکْرُ عِنْدَ النِّعَمِ وَالتَّوَرُعُ عِنْدَ الْمَحارِمِ»(3).

وقد بحثنا بما فیه الکفایة حقیقة الزهد فی تلک الخطبة.

***

ص:370


1- (1) . «بادروا» من «المبادرة» الاسراع فی العمل أحیاناً وأخری السبق (تتعدی الاوّلی بدون «الی» وتتعدی الثانیة ب «إلی»).
2- (2) . «ظهرانی» یعنی وسط شخصین أو أشخاص والأصل «ظَهْرین» تثنیة «ظَهر» وکان للإنسان داعم من أمامه وخلفه إن کان وسط جماعة ثم أضیف له الألف والنون للتأکید ونون التثنیة حذفت عند الاضافة لتصبح «بین ظهرانی» وعلیه «بین ظهرانی» أن یکون الإنسان بین أفراد یحمونه. (راجع مادة ظهر فی لسان العرب).
3- (3) نهج البلاغة، الخطبة 81.

الخطبة 231

اشارة

خَطَبَها بِذی قار(1) وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَی الْبَصْرَةِ، ذَکَرَهَا الْواقِدی(2) فی کِتابِ «الْجَمَلِ»: (3)

نظرة إلی الخطبة

یفید مستهل الخطبة أن ما ورد ذکره من جانب من خطبة مفصلة أوردها الإمام علیه السلام فی ذی قار ولا یبدو مستبعداً أن تکون هذه الخطبة متمّمة للخطبة 104 والتی تبدو امتداداً للخطبة 33 والتی قیلت فی ذی قار.

علی کلّ حال أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی أمرین مهمین؛ الأوّل: إنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أبلغ ما أمر به وأتی بوظیفته بأکمل وجه.

والآخر: إنّ إحدی المهام الرئیسیة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله توحید الصفوف وتکوین المجتمع الإسلامی الموحد وحصد العداوات من الصدور.

ص:371


1- (1) . «ذی قار» منطقة قرب البصرة وقعت فبها الحرب بین العرب والفرس قبل الإسلام.
2- (2) محمّد بن عمر الواقدی من مفسّری ومؤرّخی القرن الهجری الثانی والمتوفی سنة 207 هجریة.
3- (3) سند الخطبة: رغم أنّ المرحوم السید الرضی نقل هذه الخطبة من کتاب «الجمل» للواقدی إلّاأنّ صاحب «مصادر نهج البلاغة» ذکر أنّه رواها ابن عبد ربه المالکی فی «العقد الفرید» والمرحوم المفید فی «الإرشاد». ورواها ابن أبی الحدید بصورة مفصلة فی شرحه لنهج البلاغة (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 176).

ص:372

فَصَدَعَ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَبَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ، فَلَمَّ اللّه بِهِ الصَّدْعَ، وَرَتَقَ بِهِ الْفَتْقَ، وَ أَلَّفَ بِهِ الشَّمْلَ بَیْنَ ذَوِی الأَرْحَامِ، بَعْدَ الْعَدَاوَةِ الْوَاغِرَةِ فِی الصُّدُورِ، وَالضَّغَائِنِ الْقَادِحَةِ فِی الْقُلُوبِ.

الشرح والتفسیر: النّبی صلی الله علیه و آله حصد العداء من الصدور

قال الإمام علیه السلام بعد بیانه لمقدمات فی خطبته بذی قار: «فَصَدَعَ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَبَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ».

بالنظر إلی أنّ (صدع) من مادة (صدع) علی وزن (صبر) تعنی لغةً الشق أو الشق فی الأجسام المحکمة أو شق الشیء فیظهر باطنه، فإنّ هذه المفردة تعنی الظهور والوضوح وقد استعملت هنا کون إبراز حقیقة التوحید فی ذلک الوسط الجاهلی الملیئ بالشرک بمثابة شق تلک الحجب الضخمة للکفر والانحراف، والواقع انها اقتباس من الآیة 94 من سورة الحجر «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ».

ولعل الفارق بین هذه العبارة والعبارة «وَبَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ» أنّ فی «بلغ» مفهوم التأکید والتکرار. وعلیه فمفهوم العبارتین أنّ النّبی أظهر الحق وأکّد علیه.

ثم خاض علیه السلام فی إحدی أهم وأمثل خدمات النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فقال: «فَلَمَّ اللّه بِهِ الصَّدْعَ، وَرَتَقَ بِهِ الْفَتْقَ، وَأَلَّفَ بِهِ الشَّمْلَ(1) بَیْنَ ذَوِی الأَرْحَامِ، بَعْدَ الْعَدَاوَةِ الْوَاغِرَةِ(2)

ص:373


1- (1) . «الشمل» الجمع وله أحیاناً معنی اسم المصدر ویعنی الاجتماع.
2- (2) «الواغرة» الحارة والساخنة من مادة «وغر» علی وزن «فقر» شدّة الحرارة وهی تستعمل بمعنی البغض والعداء الشدید.

فِی الصُّدُورِ، وَالضَّغَائِنِ(1) الْقَادِحَةِ(2) فِی الْقُلُوبِ».

فقد ذکر الإمام علیه السلام فی وحدة الکلمة التی بثها النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله بین صفوف الاُمّة رغم کلّ تلک الاختلافات ثلاثة تعابیر:

الأوّل: التعبیر ب «لمّ» علی وزن (غم) بمعنی الجمع أو الجمع المقرون بالإصلاح ویصبح مفهومه أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله ردم تلک الهوة فی ظل التعالیم الإسلامیّة بحیث لم یعد هنالک من أثر للماضی.

الثانی: التعبیر ب «رتق» الذی یعنی ترقیع القطع الممزقة ولعله تأکید علی العبارة السابقة أو إشارة إلی الموارد التی کانت متصلة سابقاً وانفصلت، ثم وصلها.

الثالث: التعبیر ب «تألیف» الذی یعنی الجمع المقترن بالاُنس والإنسجام الذی ذکر بخصوص ذوی الأرحام، فکثیراً ما کان الأب والابن أو الأخ یتنازعون علی بعض المصالح البسیطة فی الجاهلیة، وقد ألف بینهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی هدی الإیمان ومبادئ الإسلام.

النتیجة: إنّ الألفاظ الثلاثة یمکن أن تکون تأکیداً لبعضها البعض الآخر ویمکن أن یکون کل تعبیر فی نوع من الاختلاف فی المجتمع. کما یحتمل أن تکون العبارة (تألیف الشمل) مرتبط باختلافات الاُسرة والقرابة، ورتق إشارة لزوال الاختلافات القبلیة و (لم) إشارة لرفع الاختلافات عن المجتمع وتوحید صفوفه.

علی کلّ حال لم یکن یصدق أحد أن یتحول یوماً ذلک المجتمع الصغیر فی العصر الجاهلی رغم کلّ تلک الاختلافات العجیبة والرهیبة إلی مجتمع موحد کبیر الذی قصم بوحدته ظهر الأعداء وکان بحق معجزة ربانیة کما قال القران: «هُوَ الَّذِی أَیَّدَک بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِینَ * وَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِی الأَرْضِ جَمِیعاً مَا أَلَّفْتَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَکِنَّ اللّه أَلَّفَ بَیْنَهُمْ»(3).

ص:374


1- (1) «الضغائن» جمع «ضغینة» العداوة الشدیدة وتعنی فی الأصل التغطیة المقرونة بالانحراف.
2- (2) «القادحة» المشتعلة من مادة «قدح» علی وزن «مدح» إشعال النار.
3- (3) سورة الأنفال، الآیتان 62 و 63.

الخطبة 232

اشارة

کَلَّمَ بِهِ عَبْدَاللّه بْنِ زِمْعَة(1) ، وَهُوَ مِنْ شیعَتِهِ، وَذَلِک أَنَّهُ قَدِمَ عَلَیْهِ فِی خِلافَتِهِ یَطْلُبُ مِنْهُ مالاً، فَقَالَ علیه السلام(2)

نظرة إلی الخطبة

کما ورد فی عنوان هذا الکلام فإنّ عبد اللّه بن زمعة طلب مالاً من الإمام علیه السلام وکان من شیعته فلم یجبه، حیث کان المال من الغنائم الحربیة ولا حق فیه سوی للمقاتلین ولم یکن له حق لأنّه لم یشترک فی القتال.

***

ص:375


1- (1) . عبداللّه بن زمعة بن الأسود من أعدی أعداء النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله. عبداللّه ابن اخت ام سلمة وصهرها وقد قتل الإمام علیه السلام أباه وعمه وأخاه فی بدر (راجع دائرة المعارف الشیعیة للمرحوم الأعلمی: ج 12 ص 305 وشرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید: ج 13 ص 10؛ وتهذیب التهذیب لابن حجر العسقلانی، ج 5، ص 192).
2- (2) سند الخطبة: المصدر الوحید الذی عثر علیه صاحب کتاب المصادر فی هذه الخطبة غیر نهج البلاغة، غررالحکم للآمدی فی حرف الألف باختلاف یفید أنّه أخذها من مصدر آخر. (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 178).

ص:376

إِنَّ هذَا الْمَالَ لَیْسَ لِی وَلاَ لَک، وَإِنَّمَا هُوَ فیءٌ لِلْمُسْلِمِینَ، وَجَلْبُ أسْیَافِهِمْ، فَإِنْ شَرِکْتَهُمْ فِی حَرْبِهِمْ، کَانَ لَک مِثْلُ حَظِّهِمْ، وَإِلاَّ فَجَنَاةُ أَیْدِیهِمْ لاَ تَکُونُ لِغَیْرِ أَفْوَاهِهِمْ.

الشرح والتفسیر: غنائم المقاتلین

رغم أنّ المراد بهذا الکلام شخص معین؛ أی عبد اللّه بن زمعة الذی اعتنق الإسلام وکان من شیعة علی علیه السلام بخلاف أبیه وجدّه اللذین لم یعتنقا الإسلام وکانا من الأعداء، إلّاأنّ مضمون الکلام موضوع یصدق علی جمیع المسلمین، وهو أنّ أی مال من بیت مال المسلمین لابدّ أن یصرف فی الموارد التی عینها الشارع ولا ینبغی تقدیم الروابط علی الضوابط بهذا الشأن.

وتشیر قرائن الکلام إلی أنّ عبد اللّه طلب سهماً من الأموال التی کانت بین یدی الإمام وتعتبر من غنائم الحرب، إلّاأنّ الإمام علیه السلام قال له: «إِنَّ هذَا الْمَالَ لَیْسَ لِی وَلاَ لَک، وَإِنَّمَا هُوَ فیءٌ لِلْمُسْلِمِینَ، وَجَلْبُ أسْیَافِهِمْ».

لابدّ من الالتفات رغم أنّ مفردة (الفیئ) إن کانت مقابل الغنیمة فلها معنیان مختلفان؛ فالفیئ یطلق علی الأموال التی تقع فی أیدی جند الإسلام دون قتال وتتعلق حسب الموازین الشرعیّة ببیت المال؛ أمّا الغنیمة فهی الأموال التی یجنیها المقاتلون بواسطة القتال، لکن إن استعملت الفیئ بمفردها اطلقت أحیاناً علی الغنیمة، وعلیه فقوله علیه السلام: «هُوَ فیءٌ لِلْمُسْلِمِینَ، وَجَلْبُ أسْیَافِهِمْ»، لا ینافی مفهوم الفیئ.

ص:377

ثم قال علیه السلام: «فَإِنْ شَرِکْتَهُمْ فِی حَرْبِهِمْ، کَانَ لَک مِثْلُ حَظِّهِمْ، وَإِلَّا فَجَنَاةُ(1) أَیْدِیهِمْ لاَ تَکُونُ لِغَیْرِ أَفْوَاهِهِمْ».

وقوله علیه السلام لیس لی من سهم فی هذه الأموال ربّما یرتبط بالمعارک المحدودة التی یخوضها بعض قوّاد الإمام ولیس الإمام علیه السلام، صحیح أنّ خمس الغنائم الحربیة لبیت المال، وصحیح أنّ عبد اللّه بن زمعة کان من بنی المطلب (المطلب أخو هاشم) ولیس بنی هاشم، ویری البعض أنّ بنی المطلب یستحقون الخمس(2).

لکن ربّما لم یکن فقیراً لیعطیه شیئاً من الخمس، علی کلّ حال یشیر هذا الکلام إلی أنّ الإمام علیه السلام کان فی غایة الدقّة فی الأموال ولا یسمح بإعطاء حق مسلم لآخر وإن کان من صحبه الأوفیاء، بخلاف عهد عثمان الذی یعتقد المؤرخون بأنّ بیت المال لم یکن خاضعاً لحساب وکتاب، وما أجدر أن یکون کلام الإمام علیه السلام جدول عمل لجمیع زعماء الاُمّة الإسلامیّة والالتزام بالحق والعدل فی بیت المال حتی بالنسبة لحاشیتهم ومقربیهم.

کما یستفاد من الکلام أنّ عبداللّه بن زمعة لم یکن تام المعرفة بالإمام لیطلب منه ذلک ولم یکن یعلم أنّ الإمام علیه السلام عامل أخاه عقیل کذلک وإلّا لما طلب منه.

***

ص:378


1- (1) . «جناة» الثمار التی تقطف من الشجرة وهی مفرد من مادة «جنا» علی وزن «جفا».
2- (2) انظر: جواهرالکلام، ج 16، ص 106؛ المعتبر المحقق الحلّی، ج 2، ص 631، کتاب الخمس.

الخطبة 233

اشارة

بَعْدَ أنْ أقْدَمَ أحَدُهُمْ عَلَی الْکَلامِ فَحَصَرَ، وَهُوَ فی فَضْلِ أهْلِالْبَیْتِ، وَوَصْفِ فَسادِ الزَّمانِ(1)

نظرة إلی الخطبة

تتألف هذه الخطبة من قسمین:

الأوّل: بشأن أهمّیة التکلم وحرمان البعض من هذه النعمة. ومن ثم أشار إلی تمامیّة هذه النعمة العظیمة فی أهل البیت علیهم السلام.

وشرح فی القسم الثانی الوضع علی عهده والذی انحدر فیه الناس إلی الفساد إثر تولیهم عن تعالیم الإسلام فذلّ أصحاب الحق وکل أصحاب الصدق وساءت أخلاق الشبّان وأثم الکهول وغدا عالِمهم منافق والصدیق خائن.

ص:379


1- (1) سند الخطبة: لما بلغ ابن أبی الحدید هذه الخطبة فی شرحه لنهج البلاغة قال: اعلم أنّ هذا الکلام بیّنه أمیرالمؤمنین علیه السلام فی حادثة اقتضت ذلک حیث أمر ابن اخته جعدة بن هبیرة المخزومی أن یخطب بالناس، فصعد المنبر لکن (لجلالة الإمام وعظم الجماعة) لم یستطع الکلام ونزل. فصعد أمیرالمؤمنین علیه السلام المنبر وأورد هذه الخطبة الطویلة التی ذکر السید الرضی هنا بعضها (ویتضح من هذا الکلام أنّه أخذها من مصدر آخر). ورواها باختلاف المرحوم الکلینی فی «روضة الکافی» والآمدی فی «غررالحکم» کما رواها الزمخشری فی الجزء الأوّل من کتابه «ربیع الابرار» (مصادر نهج البلاغة: ج 3، ص 179).

ومن هنا حثّهم علی العودة إلی طریق الحق والیقظة قبل أن یصیبهم العذاب الإلهی.

***

ص:380

القسم الأوّل

اشارة

أَلاَ وَإِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الاِْنْسَانِ، فَلاَ یُسْعِدُهُ الْقَوْلُ إِذَا امْتَنَعَ،

وَلاَ یُمْهِلُهُ النُّطْقُ إِذَا اتَّسَعَ. وَإِنَّا لاَُمَرَاءُ الْکَلاَمِ، وَفِینَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ، وَعَلَیْنَا تَهَدَّلَتْ غُصُونُهُ.

الشرح والتفسیر: نحن امراء الکلام

أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی أمرین:

الأوّل: یتلعثم البعض حین الخطابة وینطلق بها البعض الآخر فقال: «أَلاَ وَإِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ(1) مِنَ الاِْنْسَانِ، فَلاَ یُسْعِدُهُ الْقَوْلُ إِذَا امْتَنَعَ، وَلاَ یُمْهِلُهُ النُّطْقُ إِذَا اتَّسَعَ».

قطعة اللحم هذه المسماة باللسان من عجائب خلق اللّه، فبحرکات سریعة للغایة ودقیقة ومنظمة یصنع الحروف الثمانیة والعشرین أو الاثنین والثلاثین فیصفها خلف بعضها لیبیّن بمجموعها جمیع هواجسه ورغباته المادیة والمعنویة، فیفصح بها عن المحاسن والمساوئ والجمیل والقبیح، والطریف أنّ لکل قوم لغتهم فهنالک أکثر من ألف لغة فی العالم، وقد منحت هذه النعمة للإنسان وحده لیجید الکلام فهی علی درجة من الأهمّیة بحیث ذکرها اللّه فی طلیعة سورة الرحمن التی شرحت نعم اللّه:

«الرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الاِْنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَیَانَ»(2) طبعاً لا ینبغی أن ننسی أنّ

ص:381


1- (1) «بضعة» (بفتح الباء) و «بضعة» (بکسر الباء) القطعة من کلّ شیء ویقال أحیاناً حین یکون الشخص شدید القرب من آخر: «هو بضعة منی».
2- (2) . سورة الرحمن، الآیات 1-4.

المهم إمرة الروح بالنسبة للسان، فإن کانت هذه الإمرة جاهزة انطلق اللسان بالفصاحة والبلاغة بسهولة وإن غابت هذه الجاهزیة تلعثم اللسان، والامتناع والاتساع الذی نسب فی العبارة للسان المراد منه فی الواقع امتناع واتساع روح الإنسان.

فالحق لقد بیّن الإمام علیه السلام سبب نجاح أو فشل الإنسان فی الخطابة من خلال هذا الکلام ضمن إشارته لأهمیة اللسان والنطق.

ثم قال علیه السلام: «وَإِنَّا لاَُمَرَاءُ الْکَلاَمِ، وَفِینَا تَنَشَّبَتْ(1) عُرُوقُهُ(2) ، وَعَلَیْنَا تَهَدَّلَتْ (3)غُصُونُهُ».

فقد شبّه الکلام فی هذه العبارة الرائعة بالشجرة الضخمة ذات الأغصان والجذور وأضاف أنّ هذه الشجرة المورقة متجذرة فی أرض وجودنا واظلتنا أغصانها ومن هنا سمی أهل بیت الوحی «اُمراء الکلام».

وکلنا نعلم أنّ ذلک لیس مجرّد ادّعاء، بل حقیقة یعترف بها العدو والصدیق فقد کان النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أفصح العرب، وکیف لا یکون کذلک وعلی لسانه جری کلام اللّه الذی بلغت فصاحته الاعجاز، وفصاحة أمیرالمؤمنین علیه السلام أشهر من نار علی علم وخطب «نهج البلاغة» ممّا تتناقله الألسن، حتی کان الأساتذة یوصون تلامذتهم فی الماضی إن أرادوا الفصاحة والبلاغة فی حدیثهم بحفظ خطب «نهج البلاغة».

کما کانت خطب سیّدة النساء العالمین فاطمة الزهراء علیها السلام من أفصح الخطب وأبلغها، وقد فعلت خطب ربیبی هذا البیت الرسالی زینب وزین العابدین علیهما السلام فعلها فی الکوفة والشام لتؤثر علی العدو والصدیق.

ص:382


1- (1) . «تنشّبت» من «النشوب» التثبت فی الشیء.
2- (2) «عروق» جمع «عرق» علی وزن «صدق» أصل الشیء وأساسه.
3- (3) «تهدّلت» من مادة «هدل» علی وزن «جدل» المعلقة بضعف وتطلق علی الغصون النازلة والمعلقة.

وعلیه لابدّ من الإذعان بأنّ التسمیة باُمراء الکلام تلیق بأهل هذا البیت.

تأمّلان

1. عجائب اللسان

اللسان الظاهری أی هذه القطعة اللحمیة فی فم الإنسان وتتولی الأمور الهامة والمعقدة وکذلک اللسان الفکری الذی یعنی القدرة علی أداء الکلمات وترتیب العبارات وبیان المطالب، لمن النعم الإلهیّة العظیمة، ومن هنا عدّ الفلاسفة والأعلام، النطق (اللسانی والفکری) الفصل الممیز وعرفوا الإنسان بأنّه حیوان ناطق. وکلما أمعنا فی هذین الأمرین واجهنا المزید من العجائب.

الطریف أنّ هذا اللسان ملأ تقریباً جمیع فضاء الفم تحت الأسنان، وحین تناول الطعام یرسل المواد الغذائیة بسرعة تحت الأسنان وینسحب بمهارة دون أن یصیبه أذی.

یقول الأطباء: هنالک أربعة أنواع من الهضم للطعام: الهضم الأوّل فی الفم حیث یرطب تماماً ویمزج بلعاب الفم فتجری علیه تغییرات فیزیائیة وکیمیائیة شتی، ثم یتجه إلی المعدة وبالطبع فاننا ننتفع باللسان صباح مساء دون أن نقف علی دوره المهم عند تناول الطعام.

والوظیفة الأهم للسان صنع الکلمات ومقاطع الحروف وصف العبارات وبیان جمیع المقاصد الصغیرة والکبیرة والبسیطة والصعبة والمعقدة للغایة التی تعد من عجائب الخلیقة.

إلّا أنّ المهم عدم مهارة الجمیع فی ذلک، فالمهارة فی الکلام تتوقف علی عدّة عوامل أحدها وأهمّها الممارسة والتدریب، والثقة بالنفس وعدم خشیة الآخرین، ورباطة الجاش والایحاء إلی النفس من بین تلک العوامل المهمّة، ومن تلک العوامل أیضاً حضور مجالس أساتذة الکلام والانفتاح علی تجاربهم واستخدامهم القضایا الظریفة إزاء مخاطبیهم.

طبعاً المطالعات المسبقة وإمتلاک الرصید العلمی من العوامل المهمّة وهذا ما

ص:383

یفسّر براعة البعض فی الخطابة فی التجمعات الکبری، وإعیاء البعض الآخر فی التجمعات الصغری، کما أنّ حالات الإنسان الروحیة من قبیل الحزن والسرور والعافیة والسقم والهدوء والاضطراب لمن الأمور التی لها غایة التأثیر فی هذه القضیّة، وهذا ما أشار إلیه الإمام علیه السلام فی الخطبة بعبارة الامتناع والاتساع.

وقد ذکر ابن أبی الحدید نماذج رائعة فی الأشخاص الذی ارتقوا المنبر وتلعثموا فی الخطابة وعیوا فی الألفاظ فهبطوا من المنبر، فنقل عن کتاب «البیان والتبیین» للجاحظ موارد منها:

إنّ عثمان صعد المنبر وتوقف عن الکلام فقال هذا الکلام، ونزل: «أنتم إلی إمامٍ عادلٍ أحوج منکم إلی إمام خطیب» (ترکیز عثمان علی مسألة العدالة رائعة للغایة).

وروی أنّ عدی بن أرطاة رقی المنبر ولم تکد تقع عینه علی الناس حتی توقف فقال: (الحمد للّه الذی یطعم هؤلاء ویسقیهم) ثم نزل.

کما صعد روع بن حاتم، المنبر فلما رأی الناس یتطلعون إلیه نادی: إخفضوا رؤوسکم وأغمضوا أعینکم فرکوب الدابة صعب أول الأمر فإن فتح اللّه شیئاً سهل.

وقیل: أراد مصعب بن حیان أن یلقی خطبة فی النکاح فقال: لقّنوا موتاکم لا إله إلّا اللّه. فقامت له ام العروس وقالت: عجّل اللّه موتک ألهذا دعوناک! وسائر الموارد من هذا القبیل(1).

2. امراء الکلام

ما ذکره الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة (وإنّا لاُمراء الکلام) حقیقة لا تنکر یعترف بها العدو قبل الصدیق. وما خلّفه هذا البیت من تراث خیر شاهد علی ذلک؛ کأحادیث النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله التی نشرت تحت عنوان (نهج الفصاحة، ونهج البلاغة) بأجزائه الثلاثة والأدعیة کدعاء کمیل والصباح الذی ینتهی سنده للإمام علی علیه السلام وخطبتی

ص:384


1- (1) انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 13، ص 13 و 14.

سیّدة نساء العالمین فاطمة الزهراء علیها السلام ودعاء عرفة المسند للإمام الحسین علیه السلام وخطب أهل بیته فی الکوفة والشام ثم المدینة عقب واقعة کربلاء وأدعیة الصحیفة السجادیة کدعاء أبی حمزة الثمالی الذی ینتهی سنده للامام السجاد علیه السلام وأمثال ذلک.

کما ینبغی الالتفات إلی إذعان الأعداء بهذه الحقیقة. وروی ابن أبی الحدید فی الجزء الأوّل من شرحه لنهج البلاغة أنّ محقن بن أبی محقن دخل علی معاویة فسأله من أین جئت؟

قال: «جِئْتُک مِنْ عِنْدِ أَعْیَی النّاسِ». فقال له معاویة: «وَیْحَک کَیْفَ یَکُونُ أعْیَی النّاسِ فَوَاللّه ما سَنَّ الْفَصاحَةَ لِقُرَیْش غَیْرُهُ»(1).

وروی عن عبدالحمید الکاتب: حفظت سبعین خطبة من نهج البلاغة ففاضت ثم فاضت(2).

وروی المرحوم السید الرضی فی مقدمته الرائعة علی نهج البلاغة قائلاً:

قال ابن أبی الحدید کما ذکرنا فی الجزء الأوّل ذیل الخطبة 221 بعد شرحه لجانب من کلام المولی فی عالم البرزخ: «لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة فی مجلس وتلی علیهم، أن یسجدوا له کما سجد الشعراء لقول عدی بن الرقاع ومطلعها: «قلم أصاب...»، فلما قیل لهم فی ذلک قالوا: نعرف مواضع السجود فی الشعر کما تعرفون مواضع السجود فی القرآن»(3).

ولمزید من المعلومات بهذا الشأن یراجع کتاب «فی رحاب نهج البلاغة» للشهید المطهری ومقدمة الجزء الأوّل من «نفحات الولایة».

***

ص:385


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 1، ص 24.
2- (2) السابق طبق نقل المرحوم العلّامة المطهری فی رحاب نهج البلاغة، ص 28.
3- (3) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 11، ص 153.

ص:386

القسم الثانی

اشارة

وَاعْلَمُوا رَحِمَکُمُ اللّه أَنَّکُمْ فِی زَمَانٍ الْقَائِلُ فِیهِ بِالْحَقِّ قَلِیلٌ، وَاللِّسَانُ عَنِ الصِّدْقِ کَلِیلٌ، وَاللاَّزِمُ لِلْحَقِّ ذَلِیلٌ. أَهْلُهُ مُعْتَکِفُونَ عَلَی الْعِصْیَانِ، مُصْطَلِحُونَ عَلَی الاِْدْهَانِ، فَتَاهُمْ عَارِمٌ، وَشَائِبُهُمْ آثِمٌ، وَعَالِمُهُمْ مُنَافِقٌ، وَقَارِنُهُمْ مُمَاذِقٌ. لاَ یُعَظِّمُ صَغِیرُهُمْ کَبِیرَهُمْ، وَلاَ یَعُولُ غَنِیُّهُمْ فَقِیرَهُمْ.

الشرح والتفسیر: خصائص البیئة الملوثة

تناول الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة، المفاسد التی ظهرت آنذاک إثر سیاسات الخلافة السابقة والتی سرت تقریباً إلی جمیع المجتمعات، لیرسم صورة واضحة لذلک المجتمع بإحدی عشرة عبارة موجزة غایة فی الدقّة بحیث لم ینس شیئاً (وهذا مفهوم الفصاحة والبلاغة والخطابة المعجزة) فقال: «وَاعْلَمُوا رَحِمَکُمُ اللّه أَنَّکُمْ فِی زَمَان الْقَائِلُ فِیهِ بِالْحَقِّ قَلِیلٌ، وَاللِّسَانُ عَنِ الصِّدْقِ کَلِیلٌ(1) ، وَاللاَّزِمُ لِلْحَقِّ ذَلِیلٌ».

فقد شخّص علیه السلام بهذه الصفات الثلاث، الجذور الأصلیة لفساد المجتمع، سکوت أهل الحق خشیة المعارضین أو إزدیاد الأزمات، وصمت الصادقین بفعل ضغوط البیئة والهیئة الحاکمة أو مخافة زوال مصالحهم الشخصیة أو التلوث بالکذب والإفتراء عوض الصدق وکذلک أولئک الذین ینشدون الحق ویطلبونه ینحون أو ینسحبون من المجتمع ولیس هنالک من یسمع مقالتهم الحقة، وزبدة القول ینسی

ص:387


1- (1) . «کلیل» من مادة «کلّ» علی وزن «حلّ» التعب والعجز والضعف والکلیل التعبان والعاجز والضعیف.

الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ویهجر إرشاد الجاهل وتنبیه العاقل.

ثم أشار علیه السلام إلی صفتین هما فی الواقع نتیجة للصفات الثلاث السابقة فقال:

«أَهْلُهُ مُعْتَکِفُونَ عَلَی الْعِصْیَانِ، مُصْطَلِحُونَ(1) عَلَی الاِْدْهَانِ(2)».

لا شک فی أنّ هناک معاصٍ فی کلّ مجتمع ومداهنة ومسایرة، إلّاأنّ البؤس والشقاء فی حرکة عامة نحو الذنب والمعصیة وبصورة مستمرة ودائمیة، کما أنّ المصیبة والتعاسة فی اصطفاف المداهنین واتحادهم علی هذا الأمر.

ثم قال علیه السلام فی الصفة السادسة والسابعة: «فَتَاهُمْ عَارِمٌ(3) ، وَشَائِبُهُمْ(4) آثِمٌ».

من البدیهی فی الوسط الذی یصمت فیه أصحاب الحق ویغیب فیه الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر أن تتلوث الأوساط الاُسریة فینشأ الشبّان فی هذه الأوساط سیئی الخلق وفاقدی الأدب، کما أنّه من الواضح أنّ هؤلاء الشبّان حین یشیخون لا یفارقون الاعتیاد علی المعصیة ویغفلون عن أنّ عمرهم اقترب من نهایته وسیحل أجلهم فیغطون فی بحر المعاصی بسبب تلک الغفلة.

وقال فی الصفة الثامنة والتاسعة: «وَعَالِمُهُمْ مُنَافِقٌ، وَقَارِئُهُمْ مُمَاذِقٌ(5)».

نعم، فعلماء ذلک الوسط الذین أقبلوا علی الدنیا إنّما یرون النفاق سبیلاً لنیلها، کما ورد فی الخطبة 194: «وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ وَقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ وَفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَیَاءُ».

وردت المفردة «قارئهم» فی أغلب نسخ «نهج البلاغة» وهذا ما رجحه أغلب الشرّاح کونه یناسب العبارة السابقة، فالکلام هناک عن العلماء وهنا عن قراء القرآن والعابدین. بینما وردت فی بعض النسخ (قارن) من مادة قرین بمعنی الصدیق

ص:388


1- (1) «مصطلحون» اتفاق الأفراد علی شیء، من مادة «صلح».
2- (2) «إدهان» تعنی فی الأصل التدهین. ثم استعملت فی الخداع والمساومة علی أمر مرفوض.
3- (3) «عارم» سییء الخلق من «العرامة» الخشونة وسوء الخلق والسیول الجارفة والموانع التی تقام لصدها فی الودیان.
4- (4) «شائب» الکهل والعجوز من مادة «شیب» علی وزن «غیب» الکهولة.
5- (5) «مماذق» المرائی من مادة «مذق» علی وزن «حذف» مزج اللبن بالماء.

ویصبح مفهوم العبارة أنّ الأصدقاء آنذاک منافقون؛ ولکن من الواضح أنّ النسخة الاُولی أکثر تناسباً مع مجموع کلام الإمام علیه السلام.

وأخیراً قال فی الصفتین العاشرة والحادیة عشرة من صفات أهل ذلک الزمان:

«لاَ یُعَظِّمُ صَغِیرُهُمْ کَبِیرَهُمْ، وَلاَ یَعُولُ(1) غَنِیُّهُمْ فَقِیرَهُمْ».

واضح أنّ الشبّان والیافعین تربوا بعیداً عن الأدب والخجل والحیاء لا یحترمون کبارهم، کما أنّ الکبار الذین غرسوا هذه البذور یتجرعون مرارة ثمارها.

ومن الواضح أیضاً أنّه إن غابت الفضائل الإنسانیة عن المجتمع وحلّ مکانها الفساد والتکالب علی الدنیا فإنّ الأغنیاء سوف لن یرحموا الفقراء وینسون حقیقة أنّ اللّه جعل للفقراء حقاً فی أموالهم، ومن هنا یرون أنّ جمیع تلک الأموال لهم فینفقونها فی ملذاتهم. هذا إن کانت تلک الأموال جمعت من الحلال، وإلّا إن کانت من الحرام ولا یعلم أصحابها، فهی جمیعاً للفقراء والمحتاجین.

وهنا یرد هذان السؤالان؛ الأوّل: لم عمّت کلّ هذه المفاسد المجتمع الإسلامی علی عهد حکومة الإمام علی علیه السلام؟ ولا تبدو الإجابة صعبة إن عدنا قلیلاً إلی الوراء وتأملنا عصر الخلیفة الثالث وماذا فعل وبطانته ببیت المال والمناصب الحساسة الحکومیة التی أغدقها علی خاصته وقرابته، فالتاریخ یفید أنّ الفساد بلغ درجة بحیث قام المسلمون علی الخلیفة وقتلوه بمرأی ومسمع المهاجرین والأنصار وقلّما کان له ناصر.

السؤال الآخر: أین الجذور الأصلیة لتلک المفاسد الإحدی عشرة؟ لو تأملنا بدقة لرأینا أنّ أغلبها إن لم نقل جمیعها ناشئة من فساد الخلافة، وکون الناس غالباً علی دین حکامهم یواصلون تلک المسیرة، وأحیاناً یترسخ الفساد بحیث یشق الإصلاح علی من یخلفهم، کما شق علی الإمام علیه السلام.

حقّاً لو دعوا الإمام یتسلّم زمام الأمور بعد النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله ویقود المجتمع

ص:389


1- (1) «لا یعول» من مادة «عول» علی وزن «قول» کفالة الشخص، ومنه العیال.

الإسلامی بذلک العدل والزهد والدرایة بالمسلمین لکان للإسلام والمسلمین مسار آخر. الطریف أننا لو نظرنا إلی البلدان المعاصرة التی تسودها حکومات فاسدة لرأینا بوضوح کلّ هذه المفاسد التی أشار لها الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة.

***

ص:390

الخطبة 234

اشارة

رَوی ذِعْلَبُ الیَمامی [الیَمانی] عَنْ أحْمدَ بنَ قُتَیبَة، عَنْ عَبْداللّه بنِ یَزیدِ، عَنْ مالِک بْنِ دَحْیَة، قالَ: کُنّا عِنْدَ أمیرِالْمُؤْمِنینَ علیه السلام،

وَقَدْ ذُکِرَ عِنْدَهُ اخْتِلافُ النّاسِ فَقالَ(1):

نظرة إلی الخطبة

محور البحث فی کلام الإمام علیه السلام عوامل اختلاف الناس مع بعضهم وظاهر هذا الکلام أنّ نقص الناس وکمالهم فی العقول والغرائز مرهون بمدی طهارة طینتهم التی جبلت علیها طبیعتهم، وإن رأینا ظاهریاً تقارب البعض وانسجامهم أو تباعدهم وتفرقهم فبسبب قرب أرضهم (طبعاً یختزن هذا الکلام أسئلة متتالیة سنخوض فی طرحها والرد علیها باذن اللّه فی الشرح والتفسیر).

***

ص:391


1- (1) سند الخطبة: رواه الزمخشری فی الجزء الأوّل من کتاب «ربیع الأبرار». (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 181).

ص:392

إِنَّمَا فَرَّقَ بَیْنَهُمْ مَبَادِئُ طِینِهِمْ وَذَلِک أَنَّهُمْ کَانُوا فِلْقَةً مِنْ سَبَخِ أَرْضٍ وَعَذْبِهَا، وَحَزْنِ تُرْبَةٍ وَسَهْلِهَا، فَهُمْ عَلَی حَسَبِ قُرْبِ أَرْضِهِمْ یَتَقَارَبُونَ، وَعَلَی قَدْرِ اخْتِلاَفِهَا یَتَفَاوَتُونَ، فَتَامُّ الرُّوَاءِ نَاقِصُ الْعَقْلِ، وَمَادُّ الْقَامَةِ قَصِیرُ الْهِمَّةِ، وَزَاکِی الْعَمَلِ قَبِیحُ الْمَنْظَرِ، وَقَرِیبُ الْقَعْرِ بَعِیدُ السَّبْرِ، وَمَعْرُوفُ الضَّرِیبَةِ مُنْکَرُ الْجَلِیبَةِ، وَتَائِهُ الْقَلْبِ مُتَفَرِّقُ اللُّبِّ، وَطَلِیقُ اللِّسَانِ حَدِیدُ الْجَنَانِ.

الشرح والتفسیر: أساس الاختلاف

لا شک فی أنّ الناس مختلفون من الناحیة الجسمیة وکذلک من الناحیة الروحیة والفکریة والأخلاقیّة کما لا ریب فی أنّ هذا الاختلاف یمکن تغییره عن طریق التربیة والتعلیم. وعلیه فالاختلاف لا یقود قط إلی سلب الاختیار ومسألة الجبر.

إلّا أنّ الکلام فی أصل هذه الاختلافات؟ لم البعض طویل القامة والآخر قصیر، البعض جمیل الوجه والآخر غیر جمیل، فئة ذات استعداد عالی واُخری ضعیفة وعاجزة، وطائفة کریمة وأخری بخیلة.

نسب الإمام علیه السلام هذه الاختلافات إلی مواد خلق منها جسم الإنسان وقال: «إِنَّمَا فَرَّقَ بَیْنَهُمْ مَبَادِئُ(1) طِینِهِمْ وَذَلِک أَنَّهُمْ کَانُوا فِلْقَةً(2) مِنْ سَبَخِ(3) أَرْضٍ

ص:393


1- (1) . «مبادیء» جمع مبدأ بدایة کلّ شیء والمراد هنا العناصر التی تکون طینتهم.
2- (2) «فلقة» القطعة من الشیء من مادة «فلق» علی وزن «حلق» الشق وبما أنّ الشق یقسم القطع وردت فلقة بمعنی القطعة.
3- (3) «سبخ» الأرض المالحة.

وَعَذْبِهَا(1) ، وَحَزْنِ(2) تُرْبَةٍ وَسَهْلِهَا(3) ، فَهُمْ عَلَی حَسَبِ قُرْبِ أَرْضِهِمْ یَتَقَارَبُونَ، وَعَلَی قَدْرِ اخْتِلاَفِهَا یَتَفَاوَتُونَ».

وعلی ضوء هذا الکلام فإنّ هذه الاختلافات ناشئة من تباین مواد الأرض المختلفة، وبالنظر إلی اختلاف بقاع الأرض والمواد التی تترکب منها واختلاف ترکب الناس من تلک المواد، والتأثیر لاختلاف تلک المواد علی اختلاف روحیاتهم وأفکارهم وأخلاقهم کان هناک اختلافات بین الناس. وهنا یرد سؤالان: الأوّل: إنّ أبانا آدم علیه السلام خلق من التراب وولد الناس لاحقاً من نطفة آدم وأولاده، ولیس من التراب.

والآخر: ألا یقوی هذا الکلام مذهب الجبر الذی یرغم أنّ کلّ إنسان مجبر علی الأفعال ولا یمکن تغییر ذلک؟ ونترک الإجابة عن السؤال الثانی لمبحث التأملات فی آخر الخطبة. وهناک سبیلان للاجابة عن السؤال الأوّل:

الأوّل: إنّ الناس وإن ولدوا بعد آدم من نطفته؛ إلّاأنّ النطفة تترکب من مواد مختلفة تعود الجوانب الرئیسیة فیها للأرض وتتغذی فی رعرعتها علی غذاء الاُم لتبلغ مرحلة الکمال حتی تلد، وغذاء الاُم مهما کان یتألف من مواد الأرض، فالنباتات تخرج من الأرض والحیوانات تتناول النباتات وعلیه فنمو الجنین منذ کونه نطفة حتی تحوله إلی الکمال یستند جمیعاً إلی مواد الأرض.

وربّما یتضح الموضوع أکثر بهذا المثال وهو أنّ الأشجار المثمرة التی تنمو فی أراضٍ مختلفة وکذلک الحیوانات وبذور الأطعمة مختلفة تماماً؛ مثلاً، العنب الذی ینمو فی بقعة أحلی وألطف من الآخر فی بقعة أخری وهکذا سائر الثمار، والناس کذلک، وحیث إنّ رابطة الجسم والروح بالنسبة لبعضها قریبة جدّاً فإنّ تفاوت هذه

ص:394


1- (1) . «عذب» الحلو.
2- (2) «حزن» إن استعملت فی الأرض عنت المتموجة و «حزن» تعنی الغم من هذه المادة.
3- (3) «سهل» إن استعملت عنت المستویة المنبسطة ومنه أیضاً السهل أی البسیط.

المواد یؤثر فی روحیات الإنسان وخلقیاته.

الجواب الآخر: بغضّ النظر عما قیل، إن رکزنا علی خلق جسم آدم من التراب فمن الممکن أیضاً أن تحصل عدّة نطف من المواد المرکبة لوجود آدم حین تتکون النطفة، ففی بعض الحالات، المادة الفلانیة ترد أکثر من النطفة وفی بعضها الآخر أقل، ومن هنا یختلف حتی الأولاد الذین یلدون من نفس الأب والاُم وفی مناخ واحد وحتی التغذیة الواحدة للوالدین؛ فهذا أشجع وذاک أکرم وهذا أضعف وذاک أذکی، والقضیّة المهمّة أیضاً أنّ المناخ یکوّن جانباً من وجود الإنسان؛ لکن الإمام علیه السلام ذکر هنا أساس الاختلاف لیقتصره علی اختلاف مواد الأرض ولم یتطرق إلی المناخ، إمّا لقلة تأثیره علی مواد الأرض أو أنّه یتأثر بها أیضاً، فالماء مالح فی الأراضی السبخة والهواء ملوث، بینما الماء حلو والهواء لطیف فی الأراضی السهلة.

طبعاً لا یخفی التأثیر الذی تلعبه أشعة الشمس، ولذلک تری أغلب الأفراد فی المناطق الاستوائیة من ذوی البشرة السوداء وبعکسها فی المناطق المعتدلة، وبالطبع لا یقتصر ذلک التأثیر علی لون البشرة، بل هناک تأثیر خاص للموقع الجغرافی بسبب اختلاف أشعة الشمس أو المناخ والأرض.

علی کلّ حال، استناداً لما قیل یمکن التسلیم لکلام الإمام علیه السلام حسب دلالة ظاهرة والذی ینسجم تماماً مع القواعد العلمیة المعاصرة، ولا حاجة إلی أن نقول المراد من (مبادئ طینهم) أرواح ونفوس الناس وتحمل سائر ألفاظ الإمام علیه السلام علی اختلاف الأرواح؛ لا علی اختلاف الأجسام التی لها تأثیرها فی تفاوت الأخلاق والروحیات کما یفهم من کلمات ابن أبی الحدید فی شرحه لنهج البلاغة.

ثم بیّن الإمام علیه السلام عدّة نماذج لتأثیر الجسم علی الأخلاق والفکر والفضائل النفسانیّة لیختتم هذا البحث بذکره لسبعة نماذج من العلاقة بین الجسم والروح والترکیب الظاهری بالخلق والطبع الباطنی فقال: «فَتَامُّ الرُّوَاءِ(1) نَاقِصُ الْعَقْلِ، وَمَادُّ

ص:395


1- (1) . «رواء» من مادة «ریّ» علی وزن «حی» تعنی فی الأصل الإرتواء ومن هنا یطلق رواء علی الفرد الحسن المنظرکأنّه کالنبات الذی ارتوی من الماء وحسن منظره.

الْقَامَةِ قَصِیرُ الْهِمَّةِ، وَزَاکِی الْعَمَلِ قَبِیحُ الْمَنْظَرِ، وَقَرِیبُ الْقَعْرِ(1) بَعِیدُ السَّبْرِ(2) ، وَمَعْرُوفُ الضَّرِیبَةِ مُنْکَرُ الْجَلِیبَةِ، وَتَائِهُ(3) الْقَلْبِ مُتَفَرِّقُ اللُّبِّ، وَطَلِیقُ اللِّسَانِ حَدِیدُ الْجَنَانِ».

وما ورد بشأن العلاقات السبع بین الجسم والروح والمادة الجسمانیة والأخلاق فی کلام الإمام علیه السلام قطعاً بصیغة قاعدة کلیة لا یطالها الاستثناء، بل واردة فی أغلب الأفراد، ومن هنا لمسنا بأعیننا استثناءاتها.

العبارة «قَرِیبُ الْقَعْرِ بَعِیدُ السَّبْرِ» وبالنظر إلی أنّ القعر هنا إشارة إلی قصر القامة، حیث لیست هناک من فاصلة بین الرأس والأقدام لدیهم وکانت مفردة «وَقَرِیبُ الْقَعْرِ» مناسبة لهم، وبالنظر إلی أنّ السبر یعنی التعمق والاختبار فإنّ العبارة «بعید السبر» إشارة إلی عمق الفکر وسعة الاطلاع.

کما یحتمل أن تکون العبارة «بَعِیدُ السَّبْرِ» إشارة إلی أنّ أولئک الأفراد یصعب معرفتهم. وهو المعنی الذی أقرّه ابن أبی الحدید وابن میثم وبعض الشرّاح.

والعبارة «وَمَعْرُوفُ الضَّرِیبَةِ» بالنظر إلی أنّ الضریبة تعنی السجیّة والخصلة والطبیعة والجلیبة ما یقوم به الإنسان من عمل خلاف طبعه وکأنّه یجلبه من الخارج، فإنّ المفهوم هو أنّ طائفة من أولئک الناس الطاهری الطبع یتعاملون خلاف طبعهم بفعل بعض العوامل الخارجیة من قبیل التربیة السیئة والوسط الملوث والدعایة السامة التی تفرز الدواعی الشیطانیة.

والعبارة «وَتَائِهُ الْقَلْبِ» ذات مفهوم جربناه عادة فی حیاتنا وحیاة الآخرین وهو أنّ الأفراد الذین یعیشون الاضطراب إثر مختلف العوامل یفقدون قدرة التفکیر المنظم فتضطرب بالطبع أفکارهم بحیث یتضح قلق قلوبهم من خلال اضطراب أفکارهم.

ص:396


1- (1) . «قعر» تعنی هنا الباطن ویطلق القعر علی آخر نقطة فی الشیء.
2- (2) «السبر» الاختبار والامتحان ویقال لمن یصعب الوقوف علی أسراره بسهولة «بعید السبر».
3- (3) . «التائه» الحیران من مادة «تیه» علی وزن «سعی» و «تیه» علی وزن «جیم» الحیرة والضلال.

والعبارة «وَطَلِیقُ اللِّسَانِ» ذات مفهوم مجرّب هو أنّ الخطباء الماهرین هم الأفراد ذوو القلوب الصلبة الذین لا یهابون شیئاً ویتسمون بالشجاعة ومن هنا کانوا ماهرین فی الخطابة.

تأمّلان

1. صلة الروح بالجسم

صرّح أغلب الأعلام والفلاسفة بأنّ لروح الإنسان صلة بجسمه بحیث تنعکس خصائص کلّ منهما علی الآخر، وعلیه فلیس من العجب أن تکون هنالک علاقة بین شکل الإنسان وقامته وسائر میزاته البدنیة وبین روحیاته وأخلاقه.

وقد ذکر المفکرون منذ قدیم الأیّام ولحد الآن تلک الصلات فی مصنفاتهم حتی انشق علم معرفة الهیئة، لکنهم یعترفون بأنّ تلک الصلات (صلة الأخلاق بالهیئات الجسمانیّة المختلفة) لیست کلّیة، فهنالک العوامل الأخری المؤثرة فی روحیة الإنسان وخلقه بحیث یغلب تأثیرها أحیاناً ویربک العلاقة السابقة؛ مثلا خلق الأب والأم وطبعهما، وتأثیر المناخ المحلی والتعامل مع مختلف الأشیاء حسب العمل والمهنة وأمثال ذلک، من شأنه التأثیر فی خلقیات الإنسان فیربک أحیاناً کلیة صلات علم معرفة الهیئة.

علی کلّ حال، فما ورد فی کلام الإمام علیه السلام آنفاً إشارة إلی جانب من علاقة الروح بالجسد ذکره کرد علی سؤال بعض أصحابه بشأن اختلاف روحیات الناس، وما مر علینا بالطبع مبدأ کلی ولا یخلو من استثناء.

ومن هنا یتضح ما یری من مطالب فی بعض الروایات علی خلاف ما ذکر، علی أنّه من تلک الاستثناءات کالحدیث النبوی القائل «أُطْلُبِ الْخَیْرَ عِنْدَ حِسانِ الْوُجُوهِ»(1).

ص:397


1- (1) وسائل الشیعة، ج 14، ص 37، ح 4.

فی حین ورد فی بعض الروایات ضمن خطبة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «أیُّهَا النّاسُ إیّاکُمْ وَخَضْراءُ الدِّمَنِ. قیلَ: یا رَسُولَ اللّه وَما خَضْراءُ الدِّمَنِ؟ قالَ: الْمَرأةُ الْحَسْناءُ فی مَنْبَتِ السُّوء»(1).

2. الاختیار وصلة الروح بالجسد

السؤال الآخر الذی یرد هنا: إننا إن قبلنا العلاقة بین ملوحة التربة وحلاوتها وطبیعة الإنسان وإرتباط الهیئات الجسمانیة بخلقیات البشر، فنتیجة ذلک لیس للأخیار قدرة إتیان المساوئ، ولا السیئین إتیان المحاسن وهذا هو مذهب الجبریة، والمعلوم علی هذا الأساس إنکار الثواب والعقاب وعبثیة بعثة الأنبیاء، وبالتالی نفی عدالة اللّه تبارک وتعالی.

ولا تبدو الاجابة علی هذا السؤال صعبة، فلیس هناک من یزعم أنّ الکیفیات الجسمانیة علة تامة لتلک الخلقیات فی الطبیعة البشریّة، وأنّها مجرّد أرضیة مساعدة. ویمکن ایضاح ذلک بهذا المثال. فالکل یقول بتأثیر الوسط الاُسری أو البیئة علی أعمال الإنسان، إلّاأنّ ذلک لا یعنی سلب إرادة الإنسان، وما ذلک سوی أرضیة، ومن هنا نری الکثیر ممن تربّی فی اسرة سیئة لکنهم کانوا اناساً صالحین ومؤمنین. وبالعکس نری بعض الأفراد السیئین ممن تربّی فی وسط صالح، بعبارة أخری، فإنّ الجزء الأخیر للعلة التامة إرادة الإنسان التی تؤدی إلی التأثیر الغائی.

کما تجدر الإشارة إلی أنّ من عاش وسطاً سیئاً وأجواء خلقیة شاذة وسلک الطریق السلیم فإنّ أجره وثوابه یفوق نظیره الذی یعیش وسطاً وبیئة صالحة.

***

ص:398


1- (1) بحار الأنوار، ج 100، ص 236، ح 22.

الخطبة 235

اشارة

قَالَهُ وَهُوَ یَلِی غُسْلَ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله وَتَجْهِیزَهُ (1)

نظرة إلی الخطبة

أورد الإمام علیه السلام کما قیل، هذا الکلام حین وَلی غسل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وتجهیزه، کلمات ملتاعة تثیر الحزن وتعکس غایة لوعة الإمام علیه السلام آنذاک، فی حین ترک الآخرون جسد النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله واجتمعوا فی سقیفة بنی ساعدة لیتآمروا علی سلب خلافة النّبی صلی الله علیه و آله.

***

ص:399


1- (1) سند الخطبة: رواه عدد ممن عاش قبل السید الرضی ومنهم: أ) محمد بن حبیب (المتوفی سنة 245) أی قبل ولادة السید الرضی ب. 114 سنة فی «الأمالی». ب) أبو اسحاق إبراهیم الزجاج (المتوفی سنة 311 أی 48 سنة قبل الرضی فی کتابه «الأمالی» عن برید المبرد. ج) رواها الشیخ المفید فی کتابه «الأمالی» بسنده عن ابن عباس. قال صاحب «مصادر نهج البلاغة»: لا شک أنّ هذا کلام علی علیه السلام وإن نسبت لغیره فی زهر الأداب فذلک من الوهم (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 182-183).

ص:400

بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی یَا رَسُولَ اللّه لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوتِک مَا لَمْ یَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَیْرِک مِنَ النُّبُوَّةِ وَالاِْنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ. خَصَّصْتَ حَتَّی صِرْتَ مُسَلِّیاً عَمَّنْ سِوَاک وَعَمَّمْتَ حَتَّی صَارَ النَّاسُ فِیک سَوَاءً. وَلَوْ لاَ أَنَّک أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ، وَنَهَیْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لاََنْفَدْنَا عَلَیْک مَاءَ الشُّؤُونِ وَلَکَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً وَالْکَمَدُ مُحَالِفاً، وَقَلَّا لَک! وَلَکِنَّهُ مَا لاَ یُمْلَک رَدُّهُ، وَلاَ یُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ! بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی! اذْکُرْنَا عِنْدَ رَبِّک، وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِک.

الشرح والتفسیر: عظم مصیبة رحیل النّبی صلی الله علیه و آله

خاطب علیه السلام الجسد الطاهر للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله فقال: «بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی یَا رَسُولَ اللّه لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِک مَا لَمْ یَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَیْرِک مِنَ النُّبُوَّةِ وَالاِْنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ».

الجملة «بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی». المتداولة لدی العرب عند ابداء الحبّ لأحد، إشارة إلی أنّی أفدیک بأبی واُمی أعزّ أعزائی، لعل أب القائل واُمّه لیسا علی قید الحیاة حین قوله ذلک الکلام کما الأمر کذلک فی هذه الخطبة، فذلک لا یقدح بمفهوم الکلام، فلهذه العبارة جانب کنائی ویشیر إلی أنّ المخاطب عزیز إلی درجة أنّ الإنسان یفدیه بأعزّ خاصته.

ورد فی بعض الروایات أنّ هذه العبارة عقوق للوالدین إن کانا علی قید الحیاة ومؤمنین(1).

ص:401


1- (1) وسائل الشیعة، ج 2، ص 653، ح 1.

إلّا أنّ ظاهر هذه الروایة حین لا یکون المخاطب النّبی أو الإمام، لأنّ هذه العبارة إزاءهم مدعاة للفخر فضلاً عن أنّها لیست إهانة وعقوق.

ومن هنا کثیراً ما تشاهد هذه العبارة فی أغلب الزیارات، فی حین أنّ أغلب والدی الزائرین أحیاء.

المفردات «نبوة»، «إنباء» و «أخبار السماء» ذات مفاهیم مختلفة: فالنبوّة إشارة إلی مقامه صلی الله علیه و آله، والإنباء أسلوب النبیّ العملی فی إبلاغ الرسالة والوحی، وأخبار السماء تلک التی لا ترتبط بالمسائل الشرعیّة من قبیل الأخبار الغیبیّة والحوادث المستقبلیّة والملاحم.

علی کلّ حال العبارات المذکورة أخبار صریحة فی خاتمیة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله، ودلیل بیّن علی عدم نزول الوحی بعد النّبی صلی الله علیه و آله وقد انقطعت هذه النعمة العظیمة التی عمّت العالم فی ظلّ وجود النبیّ برحیله، وهذا سرّ حزن أمیرالمؤمنین علیه السلام.

ثم أشار علیه السلام إلی أمرین فقال: «خَصَّصْتَ حَتَّی صِرْتَ مُسَلِّیاً(1) عَمَّنْ سِوَاک وَعَمَّمْتَ حَتَّی صَارَ النَّاسُ فِیک سَوَاءً».

کیف لا تکون مصیبة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله شاملة وهو رحمة للعالمین ووسیلة نجاة البشریّة من مختلف أنواع الانحرافات، فهو للجمیع ویهتم بالجمیع، فلابدّ أن یبکیه الجمیع فی مصابه.

ومن جانب آخر أنّ المصاب یبدو أجلّ وأعزّ کلما کان الفقید أعظم قدراً وأثراً، ولما کان النّبی صلی الله علیه و آله أکرم إنسان وأعز مخلوق کانت مصیبته تفوق جمیع المصائب، وبعبارة أخری تهون سائر المصائب إزاء مصابه.

وهذا ما أشار إلیه الإمام علیه السلام حین مصابه بالزهراء علیها السلام فخاطب النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«قَلَّ یَا رَسُولَ اللّه عَنْ صَفَیِّتِک صَبْرِی وَرَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِی إِلَّا أَنَّ فِی التَّأَسِّی لِی بِعَظِیمِ فُرْقَتِک وَفَادِحِ مُصِیبَتِک مَوْضِعَ تَعَزٍّ»(2).

ص:402


1- (1) . «مسلّیاً» من مادة «سلو» علی وزن «غلو» الهدوء بعد الشدة.
2- (2) نهج البلاغة، الخطبة 202.

قال الإمام الباقر علیه السلام: «إنْ اصِبْتَ بِمُصیبَةٍ فی نَفْسِک أوْ فی مالِک أوْ فی وَلَدِک فَاذْکُرْ مُصابَک بِرَسُولِ اللّه فَإنَّ الْخَلائِقَ لَمْیُصابُوا بِمِثْلِهِ قَطُّ»(1).

ثم أشار علیه السلام إلی قضیة أخری فقال: «وَ لَوْ لاَ أَنَّک أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ، وَنَهَیْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لاََنْفَدْنَا(2) عَلَیْک مَاءَ الشُّؤونِ، وَلَکَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً وَالْکَمَدُ مُحَالِفاً، وَقَلَّا لَک!».

وبالنظر إلی أنّ شؤون، جمع شأن التی تعنی هنا غدد الدموع فمراد الإمام علیه السلام لولا أنّک نهیتنا عن البکاء والجزع لبکیناک حتی ینضب ماء عیوننا، لکننا تعلمنا منک الصبر والجلد، فقد بکیت ولدک إبراهیم حین توفی لکنک لم تجزع، وهذا ما فعلته بمصاب عمّک حمزة ومن هنا علمتنا الصبر.

و «المماطل»: المدین الذی یؤخر أداء الدین، ویقال: داء المماطل للمرض الذی لا علاج له والذی یشبه ذلک المدین.

و «الکمد»: الحزن الباطنی، والمحالف: من یعاهد غیره ویفی بالعهد، فکمد محالف بإشارة إلی الحزن الباطنی الثابت.

ویشیر ضمیر المثنی فی (قَلّا لک) إلی ذلک الداء والکمد؛ أی أنّ ألم مصابک وحزنه الدائم لا شیء أیضاً إزاء عظمة مصیبتک.

ثم قال علیه السلام: «وَلَکِنَّهُ مَا لاَ یُمْلَک رَدُّهُ، وَلاَ یُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ!». فالبکاء والجزع لا یجدی نفعاً ولابدّ من الصبر والرضا برضی اللّه.

ثم عبر فی الختام أیضاً عن حبّه للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله وتعلقه به فقال: «بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی! اذْکُرْنَا عِنْدَ رَبِّک، وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِک(3)».

ومفهوم هذه العبارة أنّ روحک الطاهرة عرجت إلی الملکوت الأعلی جوار الربّ. فادع لنا هناک واسأل اللّه قضاء حوائجنا واستحضرنا علی الدوام.

ص:403


1- (1) الکافی، ج 3، ص 220، ح 2.
2- (2) «انفدنا» من «النفاد» انتهاء الشیء و «انفاد» مصدر باب افعال الانتهاء.
3- (3) «البال» الخاطر والقلب والحال.

تأمّلان

1. البکاء علی الأعزّة

یستفاد من هذه الخطبة والروایات، عدم المنع من البکاء علی مصاب الأعزّة.

والمنع یقتصر علی الجزع والجحود، فقلب الإنسان بؤرة العواطف والتی تؤثر علیه سیما حین تشتد. فإذا فقد عزیزاً اضطرب القلب وجرت الدموع ویختنق الإنسان بعبرته وینطلق اللسان لبیان شوقه ولهفته للعزیز الفقید، هذه الأمور جمیعاً لیست ممنوعة، بل ممدوحة شریطة اقترانها بالصبر، والممنوع أن یجزع الإنسان ویضرب رأسه بالجدار ویخمش وجهه وینطلق لسانه بالباطل.

ففی الخبر: لما بلغ النّبی صلی الله علیه و آله استشهاد جعفر بن أبی طالب وزید بن حارثة (فی موقعة مؤتة) بکاهما وقال: «إِنِّهُما کَانا یُحدِّثانِی وَکُنتُ آنسُ بِهِما فَماتَا مَعاً»(1).

کما ورد فی غزوة احد أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله لما رجع إلی المدینة وکان یسمع کلّ بیت یبکی قتیله سوی بیت عمّه حمزة، غضب وقال: «وَلَکِن حَمزةَ لابَواکِی لَهُ».

فلما سمع أهل المدینة ذلک أقسموا أن لا یبکوا أحداً حتی یبکوا علی حمزة. وقد استمرت هذه السّنّة حتی الیوم (حین حدیث الإمام الباقر علیه السلام)(2).

کما وردت عن المعصومین علیهم السلام عدّة روایات فی النهی عن الجزع، ومنها أنّ أمیرالمؤمنین علی علیه السلام قال: «إنَّک إنْ صَبَرْتَ جَرَتْ عَلَیْک الْمَقادیرُ وَأنْتَ مَأجُورٌ وَ إنْ جَزِعْتَ جَرَتْ عَلَیْک الْمَقادیرُ وَأنْتَ مَعْذورٌ»(3).

لا ینبغی أن ننسی أنّ الجزع ناهیک عن کونه نوعاً من جحود اللّه، فهو ینطوی علی آثار سیئة تصیب أعصاب الإنسان وتسوقه أحیاناً إلی حدّ الجنون.

ص:404


1- (1) من لا یحضره الفقیه، ج 1، ص 177، ح 527.
2- (2) المصدر السابق، ص 183، ح 553.
3- (3) مستدرک وسائل الشیعة، ج 2، ص 431، ح 40.

2. تجهیز النّبی صلی الله علیه و آله

لا خلاف فی یوم وفاة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله حیث أجمعوا علی وفاته یوم الاثنین ومشهور مذهب أهل البیت علیهم السلام أنّه دفن بعد ثلاثة أیّام.

ورغم ما یستفاد من الروایات باستحباب التعجیل فی دفن المیت؛ إلّاأنّ القضیّة تختلف حین یکون المتوفی شخص کرسول اللّه صلی الله علیه و آله ویرید المسلمون أن یصلّوا علیه فوجاً فوجاً ویودعوه.

وکما یستفاد من الأخبار أنّهم کانوا یدخلون علیه عشرة عشرة ویصلّون علیه، ثم دفن هناک فی حجرته، حیث کان لکلٍّ رأیه فی دفن النّبی صلی الله علیه و آله فمنهم من قال: فی مکة، وآخر المدینة (فی البقیع أو فی صحن المسجد) فقال أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:

«إنَّ اللّه لَمْ یَقْبِضْ نَبِیّاً إلّافی أطْهَرِ الْبِقاعِ فَیَنْبَغی أنْ یُدْفَنَ فِی الْبُقْعَةِ الَّتی قُبِضَ فیها».

فَاتَّفَقَتِ الْجَماعَةُ عَلی قَوْلِهِ علیه السلام وَدُفِنَ فی حُجْرَتِهِ(1). کما قیل فیمن دخل القبر أنّه دخل علی علیه السلام والفضل ابن العباس وشخصان آخران(2).

علی کلّ حال، فمما لا شک فیه أنّ تجهیز النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله بما فی ذلک غسله وتکفینه والصلاة علیه کان علی ید علی علیه السلام بینما سارع الآخرون إلی سقیفة بنی ساعدة وانهمکوا بالحدیث عن الخلافة حتی قیل إنّ معزّی السقیفة لم یوفّقوا للصلاة علی النّبی صلی الله علیه و آله. وللوقوف علی المزید بهذا الشأن یراجع کتاب بحار الأنوار: ج 22، ص 504.

***

ص:405


1- (1) . تهذیب الأحکام، ج 6، ص 2-3.
2- (2) بحار الأنوار، ج 22، ص 525.

ص:406

الخطبة 236

اشارة

اقْتَصَّ فیهِ ذِکْرَ ما کانَ مِنْهُ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِی صلی الله علیه و آله ثُمَّ لِحاقُهُ بِه (1)

نظرة إلی الخطبة

لا حاجة هنا لشرح الخطبة وفق نظرة کون کلامه علیه السلام غایة فی القصر والایجاز.

***

ص:407


1- (1) سند الخطبة: رواه ابن الأثیر فی «النهایة» فی مادة «وطأ» «مصادر نهج البلاغة» ج 3، ص 234.

ص:408

فَجَعَلْتُ أَتْبَعُ مَأْخَذَ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله فَأَطَأُ ذِکْرَهُ، حَتَّی انْتَهَیْتُ إِلَی الْعَرَجِ.

الشرح والتفسیر: ذکر الحبیب

هذا الکلام کما ذکر المرحوم السید الرضی جانب موجز من خطبة مفصلة للإمام علیه السلام فصّله الرضی لما رأی فیه من ظرافة فی عباراته من حیث الفصاحة والبلاغة. ویفهم من کتاب «تمام نهج البلاغة» أنّ هذا الکلام کان فی خطبة بیّن فیها الإمام مکانته من النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وشرح فی کلّ جانب منها صلته الوثیقة بالنبی صلی الله علیه و آله ولطفه به والذی تتضح فیه تماماً مکانة أهل البیت علیهم السلام(1).

وهذا الکلام - کما أشرنا آنفاً - فی هجرة النّبی صلی الله علیه و آله إلی المدینة بعد لیلة المبیت وبقاء الإمام فی مکة لأداء ودائع النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله إلی الناس وانطلاقته خفیة إلی المدینة بعیداً عن أنظار خصوم الدعوة الإسلامیّة.

فالإمام علیه السلام الذی عاش تلک المرحلة العصیبة إبان فراق زعیمه وأستاذه العزیز کان یعانی من فراقه الذی شقّ علیه وکلامه هنا یعکس ذلک حیث قال: «فَجَعَلْتُ أَتْبَعُ مَأْخَذَ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله فَأَطَأُ ذِکْرَهُ، حَتَّی انْتَهَیْتُ إِلَی الْعَرَجِ».

یشیر هذا الکلام إلی مدی لوعة الإمام علیه السلام علی فراق النّبی صلی الله علیه و آله خلال تلک الفترة الوجیزة، فلا ینفک عن ذکره ویفصح عن مدی لوعته کمن فقد أعزّ أعزّته؛ لکن لا حیلة، فلابدّ أن یبقی ویؤدی إلی الناس ودائعهم عند رسول اللّه صلی الله علیه و آله التی ائتمنوه

ص:409


1- (1) کتاب تمام نهج البلاغة، ص 246، خطبه 19 (وردت هذه العبارة فی تتمة الخطبة، ص 249).

علیها، فانطلق بعیداً عن أعین الأعداء إلی المدینة، ویستفاد من التواریخ الإسلامیّة أنّ جروحاً بلیغة أصابت جسد الإمام إثر إمطاره بالحجارة لیلة هجرة النّبی وقد نام علی فراشه؛ لکنّه تناسی کل تلک الجراح وکان لا یفکر سوی بحبیبه رسول اللّه صلی الله علیه و آله.

قال المرحوم السید الرضی فی ختام هذا الکلام:

إنّ قوله علیه السلام: «فَأَطَأُ ذِکْرَهُ» مِنَ الْکَلامِ الَّذی رَمی بِهِ إلی غایَتَی الاْیجازِ وَالْفَصاحَةِ، أراد أنّی کُنْتُ أعْطی خَبَرَهُ صلی الله علیه و آله مِنْ بَدْءِ خُرُوجی إلی أنِ انْتَهَیْتُ إلی هذَا الْمَوْضِعُ، فَکَنّی عَن ذلِک بِهذِهِ الْکِنایَةِ الْعَجیبَةِ.

فللإمام علیه السلام نکته ظریفة ودقیقة فی العبارة «فَأَطَأُ ذِکْرَهُ» والتی تابعها السید الرضی وهی أنّ الإمام علیه السلام جعل ذکر النّبی صلی الله علیه و آله کالطیف الجمیل الساحر الذی یعطر الأجواء، وکان الإمام یعیش ذلک الجو لیله ونهاره، کمن یقول لآخر: إنّ ذکرک هو بیتی وحیاتی، ذکرک أزقة مدینتی.

تأمّل: قصّة الهجرة

إنّ قصة هجرة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله من أروع القصص التاریخیّة فی الإسلام، وذلک عندما أحس رؤوساء قریش بالخطر المغدق بهم إثر دعوته الشریفة، وخصوصاً لو استمرت هذه الدعوة بین أوساط الناس وبهذه الصورة الجدیّة، فیؤدی لا شک إلی انکسار شوکتهم وقدرتهم وتحطم أوثانهم بل وتتحول مکة إلی سجن کبیر لهم، وعلیه اختاروا طریق القضاء علیه وعلی دعوته الرسالیة، اختاروا فی التصدی لدعوته أحد الطرق الثلاثة، إمّا یسجنوه، أو ینفوه من مکة أو یقتلوه وهذا ما أشارت إلی الآیة 30 من سورة الأنفال.

ولکن أجمعوا علی قتله لیلاً لأنّهم محصوا هذا الرأی واتفقوا علیه، ولکنّهم واجهوا مشکلة بنی عبدمناف فی طلب الثأر له وبذلک تقع فتنة عظیمة وصراع کبیر

ص:410

بین قبائل مکة، ولهذا دعوا جمیع القبائل ورؤوساء قریش وثبت رأیهم علی علی أن یضربوه بأسیافهم من أیدی جماعة من بطون مختلفة لیضیع دمه فی بطون قریش فلا تطلبه نبو عبدمناف وبالتالی یرضوا بالدیة، فحاصروا بیت النبی صلی الله علیه و آله وانتظر الصبح إلی أن ینجلی ظلام اللیل، ثم یحملوا علیه حملة رجل واحد.

فخرج النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بأمر من اللّه تعالی من محاصرة القوم بصورة إعجازیة ورحل لیلاً إلی المدینة (ولکن عن طریق غیر طریق مکة والمدینة حتی لا تستطیع الأعداء اقتفاء أثره) وأمر علی بن أبی طالب علیه السلام أن یبیت فی فراشه وذلک لأنّهم کانوا یترصدون البیت فعاینوا فیها شخصاً مسجی بالبرد الحضرمی الأخضر، فلم یشکوا أنّه هو فرصدوه ورمه ببعض الأحجار لیطمئنوا علی أنّه لازال فی فراشه.

ولما أصبحوا دخلوا علیه الدار وسلوا بسیوفهم وحملوا علیه ظنّاً منهم أنّه رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأحاطوا بفراشه وفجأة وجدوا علیّاً علیه السلام فی فراشه فلمّا دنوا منه عرفوه فقالوا له: أین صاحبک؟ فقال علیه السلام: لا أدری أو رقیباً کنت علیه؟

فعندما فشلت خطتهم غضبوا غضباً شدیداً لأنّهم انتظروه إلی الصباح وألقوا اللائمة علی أبی لهب الذی منعهم من الهجوم لیلاً (لأنّ الهجوم لیلاً کان عندهم مع وجود الأطفال والذراری عیباً کبیراً).

وتحرک النبی من مکّة جهة الشمال إلی المدینة بدلاً عن الجنوب ووصل إلی جبل غار ثور واختفی فیه حتی لا تصل إلیه أیدی الأعداء والمشرکین، فخرج رجال قریش تبحث عنه فی أطراف مکّة ولکنّهم فشلوا ورجعوا إلی مکّة دون أن یعثروا علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقد خرج من أیدیهم وهاجر إلی المدینة(1).

***

ص:411


1- (1) انظر للمزید من الاطلاع: شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید فی شرح ذیل الخطبة، وتفسیر الإمام الحسن العسکری علیه السلام وکتاب «فروغ أبدیة» لآیة اللّه جعفر السبحانی.

ص:412

الخطبة 237

اشارة

فِی الْمُسارَعَةِ إِلَی الْعَمَل (1)

نظرة إلی الخطبة

یستفاد من کتاب «تمام نهج البلاغة» أنّ هذه الخطبة - جانب من الخطبة الغرّاء - تعدّ من عجائب خطب الإمام علیه السلام حیث شیّع جنازةً ووسّد المیت فی اللحد وکان أهله یبکوه فخطب تلک الخطبة(2).

وتتألف الخطبة فی الواقع من قسمین؛ الأوّل: عن المسارعة فی العمل واستغلال الفرص، فلعل الموت یفاجئ الإنسان وتفوت الفرصة ویغلق باب التوبة.

والقسم الثانی: وصایا فی مجاهدة هوی النفس وکیفیة الانتفاع بفرص الحیاة، فالخطبة بمجموعها ذات فائدة قصوی لسالکی سبیل السعادة.

***

ص:413


1- (1) سند الخطبة: کل ما ورد فی کتاب «مصادر نهج البلاغة» بالإضافة إلی «نهج البلاغة» فی سند الخطبة أنّ الآمدی روی العبارة الاُولی من الخطبة فی «غررالحکم» باختلاف ویفید أنّه کان لدیه مصدر آخر ولو کان مصدره الوحید «نهج البلاغة» لما کان ذلک الاختلاف (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 185).
2- (2) شرح الخطبة الغرّاء طبق نقل السیّد الرضی ذیل الخطبة 83.

ص:414

القسم الأوّل

اشارة

فَاعْمَلُوا وَأَنْتُمْ فِی نَفَسِ الْبَقَاءِ، وَالصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ، وَالتَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ، وَالْمُدْبِرُ یُدْعَی وَالْمُسِیءُ یُرْجَی، قَبْلَ أَنْ یَخْمُدَ الْعَمَلُ، وَیَنْقَطِعَ الْمَهَلُ، وَیَنْقَضِیَ الأَجَلُ، وَیُسَدَّ بَابُ التَّوْبَةِ، وَتَصْعَدَ الْمَلاَئِکَةُ.

الشرح والتفسیر: اغتنام الفرصة

شجّع الإمام علیه السلام بهذه العبارات الموجزة العمیقة المعنی جمیع مخاطبیه علی اغتنام الفرص وحذّر من أنّ هذه الفرص عابرة زائلة عاجلاً أم أجلاً، ولابدّ من السعی قبل الیأس والحسرة.

فأشار فی کیفیة اغتنام الفرص إلی خمسة أمور:

قال فی الأوّل: «فَاعْمَلُوا وَأَنْتُمْ فِی نَفَسِ الْبَقَاءِ».

والعبارة «نَفَسِ الْبَقَاءِ» إشارة لطیفة إلی أنّ البقاء کأنّما یشبه فی الدنیا بالکائن الحی الذی یتنفس ولابدّ من استغلاله قبل أن ینقطع نفسه.

وقال فی الثانی: «وَ الصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ(1)».

إشارة إلی إمکانیة الإضافة والإصلاح والتعدیل ما دامت الصحیفة مفتوحة.

وفی الثالث: «وَالتَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ».

إشارة إلی أنّ العودة قائمة ویمکن إطفاء نیران الذنوب المستعرة بماء التوبة مادامت أبوابها مفتوحة وتحصیلها واسع، فیلجأ الإنسان إلی اللّه ویفصح عن ندمه

ص:415


1- (1) «المنشورة» الواسعة والمفتوحة من مادة «نشر» البسط.

ویسکب الدموع التی تفرزها التوبة النصوح والخالصة فیطفئ بها نیران الذنوب.

ورد فی «الکافی» عن الإمام الباقر أو الصادق علیهما السلام أنّه قال: «إِنَّ آدَم علیه السلام قَالَ یارَبِّ سَلّطتَ عَلیَّ الشَّیطانَ وَأَجرَیتَهُ مِنّی مَجری الدَّمِ، ما جَعَلتَ لِی شَیئاً، فَقَالَ: یا آدَمُ جَعَلتُ لَکَ أَنَّ مَن هَمَّ مِنْ ذُرّیّتِکَ بِسَیئةٍ لَم تُکتَبْ عَلَیهَ، فَإنّ عَمِلَها کَتَبتُ عَلَیهِ سَیئةً، وَمَنْ هَمّ مِنهُم بِحَسنَةٍ فَإن لَم یَعمَلهَا کَتَبتُ لَهُ حَسنةً فَإن هُو عَمِلَها کَتَبتُ لَهُ عَشراً، قَالَ: یارَبِّ زِدنِی، قَالَ: جَعَلتُ لَکَ أَنَّ مَن عَمِلَ مِنهُم سَیئةً ثُمّ استَغفَرَ لَهُ غَفَرتُ لَهُ، قَالَ: یارَبِّ زِدنِی، قَالَ: جَعَلتُ لَهُ التّوبَةَ - أو قال بسطت لهم التوبة - حَتّی تَبلُغَ النَّفس هَذِهِ، قَالَ: یارِبِّ حَسبِی»(1).

وقال فی الأمر الرابع والخامس: «وَالْمُدْبِرُ یُدْعَی وَالْمُسِیءُ یُرْجَی».

إشارة إلی الدعوة والأمل الذی تضمنته الآیة الکریمة، قال تعالی: «قُلْ یَا عِبَادِی الَّذِینَ أَسْرَفُوا عَلَی أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَّحْمَةِ اللّه إِنَّ اللّه یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ»(2).

وقال تعالی: «وَأَنِیبُوا إِلَی رَبِّکُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ یَأْتِیَکُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ»(3).

وقال فی العبارة السادسة والسابعة والثامنة: «قَبْلَ أَنْ یَخْمُدَ(4) الْعَمَلُ، وَیَنْقَطِعَ الْمَهَلُ(5) ، وَ یَنْقَضِیَ الأَجَلُ».

نعم، فما دام هنالک العمر فالعمل قائم والمهلة مبذولة والفرصة سانحة وکل ذلک یفنی حین مغادرة الإنسان لهذا العالم.

وقال فی التاسعة والعاشرة: «وَیُسَدَّ بَابُ التَّوْبَةِ، وَتَصْعَدَ الْمَلاَئِکَةُ».

ص:416


1- (1) الکافی، ج 2، ص 440، ح 1.
2- (2) سورة الزمر، الآیة 53.
3- (3) سورة الزمر، الآیة 54.
4- (4) . «یخمد» من «الخمود» علی وزن «جحود» تعنی فی الأصل إنطفاء النار. ثم اطلقت علی انتهاء کلّ شیء ومنهانهایة الحیاة.
5- (5) «مهل» جمع «مهلة» وتستعمل هذه الکلمة عادة فی أمور الخیر.

القسم الثانی

اشارة

فَأَخَذَ امْرُؤٌ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَأَخَذَ مِنْ حَیّ لِمَیِّتٍ، وَمِنْ فَانٍ لِبَاقٍ، وَمِنْ ذَاهِبٍ لِدَائِمٍ. امْرُؤٌ خَافَ اللّه وَهُوَ مُعَمَّرٌ إِلَی أَجَلِهِ، وَمَنْظُورٌ إِلَی عَمَلِهِ. امْرُؤٌ أَلْجَمَ نَفْسَهُ بِلِجَامِهَا، وَزَمَّهَا بِزِمَامِهَا، فَأَمْسَکَهَا بِلِجَامِهَا عَنْ مَعَاصِی اللّه، وَقَادَهَا بِزِمَامِهَا إِلَی طَاعَةِ اللّه.

الشرح والتفسیر: کیفیة اغتنام الفرصة

وعظ الإمام علیه السلام فی المقطع السابق من هذه الخطبة بعشر عبارات موجزة وعمیقة المعنی، الجمیع باغتنام الفرص قبل فوات الأوان.

ثم ذکر فی عشر أخری طرق کیفیة الاغتنام لتلک الفرص، فالقسم الأوّل فی الواقع وعظ وتحذیر والثانی أسلوب للعمل. قال: «فَأَخَذَ امْرُؤٌ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ،، وَأَخَذَ مِنْ حَیٍّ لِمَیِّتٍ ومِنْ فَانٍ لِبَاقٍ، وَمِنْ ذَاهِبٍ لِدَائِمٍ».

تکرر الفعل الماضی (أخذ) فی هذه العبارات الأربع مرتین؛ لکنّه عنی الأمر. فقد أمر علیه السلام فی العبارة الاُولی بضرورة استفادة کلّ إنسان من رصید وجوده لإدخار الحسنات، حیث وهب اللّه الإنسان إمکانات وطاقات إن وظفها فی المسار الصحیح وفّرت له أسباب السعادة.

ورد عنه علیه السلام فی «غررالحکم» أنّه قال: «إنّ اللّیْلَ وَالنَّهارَ یَعْمَلانِ فیک فَاعْمَلْ فیهِما وَیَأخُذانِ مِنْک فَخُذْ مِنْهُما»(1).

ص:417


1- (1) غررالحکم، الرقم 2462.

وقد ورد نفس هذا المعنی فی العبارة الثانیة بصیغة أخری، «وَأَخَذَ مِنْ حَیٍّ لِمَیِّتٍ».

وأشار فی العبارة الثالثة والرابعة إلی إمکانیة التزود من هذه الدار الفانیة إلی تلک الدار الباقیة ومن هذه الحیاة الزائلة إلی تلک الخالدة، ثم واصل کلامه قائلاً: «امْرُؤٌ خَافَ اللّه وَهُوَ مُعَمَّرٌ إِلَی أَجَلِهِ، وَمَنْظُورٌ(1) إِلَی عَمَلِهِ».

حیث بیّن علیه السلام فی هاتین العبارتین ما ذکره فی العبارات السابقة بصیغة أخری ووعظ الجمیع بالانتفاع بهذه المهلة التی منحهم اللّه ضرورة خشیته والابتعاد عن التقصیر.

ثم قال: «امْرُؤٌ أَلْجَمَ نَفْسَهُ بِلِجَامِهَا، وَزَمَّهَا بِزِمَامِهَا، فَأَمْسَکَهَا بِلِجَامِهَا عَنْ مَعَاصِی اللّه، وَقَادَهَا بِزِمَامِهَا إِلَی طَاعَةِ اللّه».

فقد شبّه علیه السلام نفس الإنسان بالدابة الجموح إن لم یکن زمامها کما ینبغی أقحمته فی وادی المعصیة وحرفته عن مسار الطاعة عادة ما یستفاد من وسیلتین للسیطرة علی الدابّة الجامحة؛ إحداهما، اللجام وهو حبل یوضع فی فم الدابة ویوثق لیکون بید راکب الدابّة، والزمام، الذی یوضع فی أنفها ویمسکه الراکب بحبل، ولما کان فم الدابة وأنفها من المواضع الحساسة فإنّه یمکن من خلالها إیقاف الدابّة أو سوقها إلی جهة من خلال تحریکه إلی تلک الجهة.

والعبارة «لجام» و «زمام» إشارة إلی ضرورة تهیئة اللجام والزمام الذی یلیق بالنفس الجامحة بحیث یمکن بواسطته صدها عن الذنب والمعصیة وسوقها إلی طاعة اللّه، وما أکثر الأفراد الذین یلجمون أنفسهم بلجام ضعیف وهزیل بحیث یفقدون هذا اللجام حین إثارة الشهوات فیقارفون أنواع المعاصی.

ولکن ما هی الوسیلة اللازمة للسیطرة علی النفس؟ یمکن الظفر بالجواب فی ما ورد من کلمات الإمام علی علیه السلام فی «غررالحکم» و «بحارالأنوار». فقد ذکر علیه السلام أنّ

ص:418


1- (1) «منظور» الممهل من مادة «نظر» التی لها معنیان: الأوّل الالتفات إلی الشیء والثانی الامهال.

القناعة عامل إصلاح النفس فقال: «اَعْوَنُ شَیء عَلی صَلاحِ النَّفْسِ الْقَناعَةُ»(1).

وفی موضع آخر عدّ التعصب وسیلة لإصلاحها فقال: «إذا صَعِبَتْ عَلَیْک نَفْسُک فَاصْعَبْ لَها تَذِلُّ لَک»(2).

***

ص:419


1- (1) غرر الحکم، ح 8984.
2- (2) المصدر السابق، ح 4820.

ص:420

الخطبة 238

اشارة

فی شَأْنِ الْحَکَمَیْنِ وَذَمِّ أَهْلِ الشّام (1)

نظرة إلی الخطبة

تتکون هذه الخطبة فی الواقع من قسمین، ذم الإمام علیه السلام فی القسم الأوّل أهل الشام ونعتهم بالجفاة القساة الذین ینبغی أن یؤدَّبوا ویربَّوا ویخضع القاصر منهم لولایة العالِم، إنّهم لیسوا من المهاجرین والأنصار (العارفین بتعالیم الإسلام والحریصین علی بقائه).

وأشار علیه السلام فی القسم الثانی إلی قضیة التحکیم فبیّن أنّ أهل الشام اختاروا لهذه

ص:421


1- (1) سند الخطبة: قال صاحب کتاب «مصادر نهج البلاغة»: «ذکرنا مصادر هذه الخطبة فی ذیل الخطبة 26 والخطبة فصل من کتاب کتبه الإمام وأمر بقراءته فی مختلف المناطق» وإذا عدنا إلی مصادر الخطبة (الخطبة 26) نجده قال هناک: هذه الخطبة جزء من خطب طویلة اقتطف السید الرضی بعضها وذکرها جماعة من قبل السید بما یختلف مع ما ذکره ومنهم «إبراهیم بن هلال الثقفی» فی کتاب «الغارات»، «ابن قتیبة» فی کتاب «الإمامة والسیاسة»، «الطبری» فی کتاب «المسترشد» و «الکلینی» فی کتاب الرسائل وقال هناک: «الخطبة 236 هی عندنا جزء من الخطبة 238 والدافع من الرسالة أنّه سئل عمن سبقه من الخلفاء. فکتب لهم هذه الرسالة وأوصاهم برص صفوفهم» (الغارات، ج 1، ص 312؛ الإمامة والسیاسة، ص 135 و 176؛ المسترشد، ص 426) (مصادر نهج البلاغة، ج 1، ص 390).

القضیة عمرو بن العاص وهو أفضل من یحقق أطماعهم ومآربهم، واخترتم أبو موسی الأشعری أبعدهم عن هدفکم، وکان علیکم أن توجهوا قبضة ابن عباس إلی صدر عمرو بن العاص لا بواسطة الضعفاء کأبی موسی الأشعری.

***

ص:422

القسم اوّل

اشارة

جُفَاةٌ طَغَامٌ، وَعَبِیدٌ أَقْزَامٌ، جُمِعُوا مِنْ کُلِّ أَوْبٍ، وَتُلُقِّطُوا مِنْ کُلِّ شَوْب، مِمَّنْ یَنْبَغِی أَنْ یُفَقَّهَ وَیُؤَدَّبَ، وَیُعَلَّمَ وَیُدَرَّبَ، وَیُوَلَّی عَلَیْهِ، وَیُؤْخَذَ عَلَی یَدَیْهِ.

لَیْسُوا مِنَ الْمُهَاجِرِینَ وَالأَنْصَارِ، وَلاَ مِنَ الَّذِینَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالاِْیمَانَ.

الشرح والتفسیر: أتباع معاویة

خاض الإمام علیه السلام هنا کما ذکرنا فی ذم أهل الشام وذکر صفاتهم التی تکشف عن مدی جهلهم وخبثهم فاستهل ذلک بخمس من صفاتهم قائلاً: «جُفَاةٌ(1) طَغَامٌ(2) ، وَعَبِیدٌ أَقْزَامٌ(3) ، جُمِعُوا مِنْ کُلِّ أَوْب(4) ، وَتُلُقِّطُوا(5) مِنْ کُلِّ شَوْب(6)».

ثم أضاف علیه السلام: «مِمَّنْ یَنْبَغِی أَنْ یُفَقَّهَ وَیُؤَدَّبَ، وَیُعَلَّمَ وَیُدَرَّبَ(7) ، وَیُوَلَّی عَلَیْهِ، وَیُؤْخَذَ عَلَی یَدَیْهِ».

واختتم علیه السلام قائلاً: «لَیْسُوا مِنَ الْمُهَاجِرِینَ وَالأَنْصَارِ، وَلاَ مِنَ الَّذِینَ تَبَوَّؤُا(8) الدّارَ والاِْیمانَ».

ص:423


1- (1) . «جفاة» جمع «جافٍ» غلیظ وفظّ جاهل.
2- (2) «طغام» جمع «طغامة» الأوغاد والأوباش والأشرار وترد أحیاناً بمعنی المفرد.
3- (3) «أقزام» جمع «قزم» علی وزن «خشن» الأفراد الأراذل.
4- (4) «أوب» الناحیة.
5- (5) «تلقّطوا» من مادة «تلقّط» جمع الشیء من هنا وهناک.
6- (6) «شوب» خلط الشیء بآخر. ولها معنی اسمی؛ أی الأشیاء المخلوطة والمراد فی العبارة معناها الاسمی.
7- (7) . «یدرّب» من «التدریب» التمرین والتعوید لتعلم الشیء.
8- (8) . «تبوّؤا» من «التبوّأ» السکن فی مکان بقصد البقاء والدوام من مادة «بَوأ» بمعنی تساوی أجزاء المکان.

وکما أشرنا سابقاً فإنّ هذا الکلام بعض کتاب کتبه الإمام علیه السلام لیطلع المسلمین علی جمیع الأحداث فی عصره وما سبقه لیکون تعلیمات تبعث لجمیع المناطق والتعریف بأهل الشام وأتباع معاویة الذین تمردوا علی إمام المسلمین وأجّجوا نیران صفّین وإیضاح سوء نیّتهم وکیفیة اجتماعهم.

تأمّل: جهل أهل الشام

ما أورده الإمام علیه السلام بشأن جهل وحمق عسکر معاویة (رغم کثرة الأفراد الداعین فی أهل الشام) لمن القضایا التی تؤیدها سیرة معاویة ومن ذلک هاتان الواقعتان اللتان نقلهما المسعودی فی «مروج الذهب».

الواقعة الاُولی: إنّ رجلاً من أهل الکوفة علی بعیر له قدم إلی دمشق فی حال منصرفهم عن صفّین فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتی أخذت منّی بصفّین، فارتفع أمرهما إلی معاویة وأقام الدمشقی خمسین رجلاً بیّنة یشهدون أنّها ناقته فقضی علی الکوفیّ وأمره بتسلیم البعیر إلیه.

فقال الکوفیّ: أصلحک اللّه إنّه جمل ولیس بناقة.

فقال معاویة: هذا حکم قد قضی، ودسّ إلی الکوفیّ بعد تفرّقهم فأحضره وسأله عن ثمن البعیر فدفع إلیه ضعفه وبرّ وأحسن إلیه وقال له: أبلغ علیّاً أنّی اقاتله بمائة ألف ما فیهم من یفرّق بین الناقة والجمل.

الواقعة الثانیة: ولقد بلغ من أمرهم من طاعتهم له (لمعاویة) أنّه صلّی بهم عند مسیرهم إلی صفّین الجمعة فی یوم الأربعاء وأعاروه رؤوسهم عند القتال. (وقَبل الناس وصلّوا الجمعة فی یوم الأربعاء وهذا کان من جهل أهل الشام)(1).

کما ورد فی الحدیث أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال لعمار: (تقتلک الفئة الباغیة)، وقد

ص:424


1- (1) مروج الذهب، ج 2، ص 72 مطابق لما نقله المرحوم العلّامة الأمینی فی الغدیر، ج 10، ص 195.

شهد عمار صفّین مع علی علیه السلام حتی قتل، فلما اجتمع بعض الصحابة عند قتل عمار، وأنّ معاویة هو وأصحابه هم الفئة الباغیة الذین قتلوا عمّار، قال عمرو بن العاص:

إنّ علیّاً هو الذی قتل عمار بن یاسر حین أخرجه لنصرته(1).

والعجیب أنّ البعض قبل هذا الرأی.

***

ص:425


1- (1) الغدیر، ج 10، ص 196.

ص:426

القسم الثانی

اشارة

أَلاَ وَإِنَّ الْقَوْمَ اخْتَارُوا لاَِنْفُسِهِمْ أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا تُحِبُّونَ، وَإِنَّکُمُ اخْتَرْتُمْ لاَِنْفُسِکُمْ أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا تَکْرَهُونَ. وَإِنَّمَا عَهْدُکُمْ بِعَبْدِ اللّه بْنِ قَیْس بِالاَْمْسِ یَقُولُ: «إِنَّهَا فِتْنَةٌ، فَقَطِّعُوا أَوْتَارَکُمْ، وَشِیمُوا سُیُوفَکُمْ». فَإِنْ کَانَ صَادِقاً فَقَدْ أَخْطَأَ بِمَسِیرِهِ، غَیْرَ مُسْتَکْرَهٍ، وَإِنْ کَانَ کَاذِباً فَقَدْ لَزِمَتْهُ التُّهَمَةُ.

فَادْفَعُوا فِی صَدْرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِعَبْدِ اللّه بْنِ الْعَبَّاسِ، وَخُذُوا مَهَلَ الأَیَّامِ، وَحُوطُوا قَوَاصِیَ الاِْسْلاَمِ. أَلاَ تَرَوْنَ إِلَی بِلاَدِکُمْ تُغْزَی، وَإِلَی صَفَاتِکُمْ تُرْمَی؟

الشرح والتفسیر: أفضل اختیار وأسوأه

خاض الإمام علیه السلام فی القسم السابق فی التعریف بأهل الشام الذین اجتمعوا حول معاویة لیصفهم بأنّهم جهّال وأوباش وأشرار، وقال هنا رغم جهلهم وانحطاطهم لکنهم تفوقوا علیکم فی الجانب السیاسی، فقد اختاروا للتحکیم من یضمن مصالحهم اللامشروعة (عمرو بن العاص) بینما إخترتم (أبو موسی الأشعری) من یتحرک ضد مصالحکم ومصالح المسلمین، فهلمّوا وتلافوا أخطاءکم: «أَلاَ وَإِنَّ الْقَوْمَ اخْتَارُوا لاَِنْفُسِهِمْ أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا تُحِبُّونَ، وَإِنَّکُمُ اخْتَرْتُمْ لاَِنْفُسِکُمْ أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا تَکْرَهُونَ».

ثم خاض علیه السلام فی التعریف بأبی موسی الأشعری ورکز علی آخر فتنه دون الإشارة إلی سوابقه السیئة فقال: «وَاِنَّمَا عَهْدُکُمْ بِعَبْدِ اللّه بْنِ قَیْسٍ بِالاَْمْسِ یَقُولُ:

ص:427

«إِنَّهَا فِتْنَةٌ»، فَقَطِّعُوا أَوْتَارَکُمْ(1) ، وَشِیمُوا(2) سُیُوفَکُمْ».

ثم واصل علیه السلام کلامه قائلاً: «فَإِنْ کَانَ صَادِقاً فَقَدْ أَخْطَأَ بِمَسِیرِهِ غَیْرَ مُسْتَکْرَه، وَإِنْ کَانَ کَاذِباً فَقَدْ لَزِمَتْهُ التُّهَمَةُ».

الطریف ما أورده المرحوم ابن میثم فی شرحه لنهج البلاغة عن سوید بن غفلة أنّه قال: کنت مع أبی موسی الأشعری علی شاطیء الفرات فی خلافة عثمان فروی لی خبراً عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: سمعته یقول: «إنّ بَنی إِسرائِیل اختَلَفُوا فَلَم یَزلْ الاختِلاف بَینَهُم حَتّی بَعَثُوا حَکَمَینِ ضَالّین ضَلّا وَأضَلّا مَنْ اتّبعَهُما»، فقلت له:

احذر یا أباموسی أن تکون أحدهما! قال: فخلع قمیصه، وقال: أبرأ إلی اللّه من ذلک کما أبرأ من قمیصی هذا(3).

ویرید بذلک أنّه لا یقبل التحکیم ویتبرأ منه، ولکنّه قَبل وحکم وأضلّ الناس مع عمرو ابن العاص، وبذلک صدق رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی کلامه هذا وما تنبأ به بإعجاز عن قوله (ضالّین ضلّا وأضلّا من أتبعهما).

وعقب کلّ هذا التحلیل الدقیق اقترح علی صحبه اقتراحاً نافعاً، وقال: «فَادْفَعُوا فِی صَدْرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِعَبْدِ اللّه بْنِ الْعَبَّاسِ، وَخُذُوا مَهَلَ الأَیَّامِ، وَحُوطُوا قَوَاصِیَ(4) الْاِسْلاَمِ».

ثم اختتم علیه السلام کلامه بهدف خلق الدافع لدیهم وإثارة حسهم الدینی والإنسانی فقال: «أَلاَ تَرَوْنَ إِلَی بِلاَدِکُمْ تُغْزَی وَإِلَی صَفَاتِکُمْ(5) تُرْمَی؟».

ص:428


1- (1) «أوتار» جمع «وتر» علی وزن «سفر» السهم الذی یجمع طرفاه کالقوس فإذا سحب تقوس أکثر فإن اطلق قذف إلی الأمام وقطع الأوتار هنا کنایة عن عدم الاطلاق.
2- (2) «شیموا» من مادة «غیم» علی وزن «عیب» سل السیف ووضعه فی الغمد.
3- (3) ذکر هذه الروایة أوّلاً ابن أبی الحدید فی الجزء 13، ص 215 فی شرح الخطبة، ثم ذکرها المرحوم ابن میثم والعلّامة التستری فی شرحهما لهذه الخطبة.
4- (4) «قواصی» جمع «قاصیة» الطرف والناحیة و «قواصی الإسلام» إشارة الی أطراف العراق والحجاز ومناطق أخری تابعة لحکومة أمیرالمؤمنین علی علیه السلام.
5- (5) «صفاة» مفرد وتعنی فی الأصل الحجر الصلد وتستعمل کنایة عن القوّة وفسرت بأرض الحیاة التی ینظمها الإنسان.

حقّاً لم یکن أبوموسی الأشعری الأبله من یسعه مواجهة الماکر عمرو بن العاص وکان أفضل من یسعه مواجهته رجل قوی وواعٍ کابن عباس، إلّاأنّ مؤامرات معاویة وبعض الخونة من بطانة الإمام علیه السلام حالت دون ذلک.

کتب الکاتب الإسلامی المصری عبدالکریم الخطیب فی کتابه «علی بن أبی طالب»: وکان الإمام قد أعدّ ابن عباس لیلقی عمرو بن العاص، ولکن أصحاب الإمام اختلفوا علیه، وکان الأشعث بن قیس (المنافق) رأس الجماعة التی نازعت فی اختیار ابن عباس، والأشعث هو الذی مهّد التحکیم، وأکره هو وقومه علیّاً علی قبوله.. ولا شک أنّ الصلة کانت قد توثقت بین معاویة والأشعث.

وهذا الذی سجله الخطیب یتفق تماماً مع ما نقلناه عن کتاب (علی وبنوه) لطه حسین فی شرح الخطبة 19، ج 1، ص 152: من أنّ الأشعث وابن العاص قد دبرا رفع المصاحف واختاروا ا لحکمین سلفاً(1).

ثم ذکر المرحوم مغنیة جانباً آخر من کلام عبدالکریم الخطیب فی کتابه: «کان ابن العاص صاحب مصلحة فی أی خیر یصیبه معاویة من التحکیم، لأنّ الصک بملک مصر فی یده.. ولیس لابن عباس شیء أن خلصت الخلافة لعلیّ، وهل لأحد مع علی مطمع؟ إنّ کلّ الذین یعملون مع علی یعملون للّه لا له، فلیس لهم عنده ید یرجون المثوبة علیها ولا من اللّه، فماذا یخشی القوم من ابن عباس إذن؟ إنّهم لا یخشون إلّاأن یرفع ابن العاص عن کید مارد لا یفطن إلیه إلّارجل أوتی مثل ما أوتی ابن عباس من ألمعیة وذکاء(2). نهایة معرکة صفین عن طریق رفع المصاحف علی أسنة الرماح علی هامش هزیمة جیش معاویة ومن ثم قضیة التحکیم، لمن أفجع حوادث التاریخ الإسلامی، وکانت معاناة الإمام علیه السلام ومصابه بذلک بما لا یمکن وصفه والذی حصل من قبل جماعة دنیویة بعیدة عن الإیمان والتقوی.(3)

ص:429


1- (1) شرح نهج البلاغة للمرحوم مغنیة، ج 3، ص 362.
2- (2) . المصدر السابق.
3- (3) ورد المزید بشأن الحکمین فی ذیل الخطب 125، 127، 177.

ص:430

الخطبة 239

اشارة

یَذْکُرُ فیها آلَ مُحَمَّد صلی الله علیه و آله (1)

نظرة إلی الخطبة

الخطبة فی الواقع قسم واحد ومحورها فضائل أهل البیت علیهم السلام ومکانتهم الرفیعة فی الاُمّة الإسلامیّة وإدراکهم الصحیح للدین وبالتالی ضرورة إتّباعهم وعدم مخالفتهم.

***

ص:431


1- (1) سند الخطبة: جاء فی مصادر نهج البلاغة أنّ هذا الکلام جزء من الخطبة 145 (حسب ترقیمنا 147) التی تبدأ بالعبارة (فبعث اللّه محمدا صلی الله علیه و آله) حتی یقول: (فالتمسوا ذلک من عند أهله فإنّهم عیش العلم وموت الجهل) وأوردها السید الرضی منفصلة. ورواها الکلینی فی «الکافی» باختلاف طفیف فی بعض الکلمات کما ذکرت فی آخرها بعض العبارات فی «محاضرات الاُدباء» للراغب الاصفهانی. (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 176 و 177).

ص:432

هُمْ عَیْشُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْجَهْلِ. یُخْبِرُکُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ، وَصَمْتُهُمْ عَنْ حِکَمِ مَنْطِقِهِمْ، لاَ یُخَالِفُونَ الْحَقَّ وَلاَ یَخْتَلِفُونَ فِیهِ.

وَهُمْ دَعَائِمُ الاِْسْلاَمِ، وَوَلاَئِجُ الاِْعْتِصَامِ. بِهِمْ عَادَ الْحَقُّ إِلَی نِصَابِهِ، وَانْزَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ مُقَامِهِ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ. عَقَلُوا الدِّینَ عَقْلَ وِعَایَةٍ وَرِعَایَةٍ، لاَ عَقْلَ سَمَاعٍ وَرِوَایَةٍ. فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ کَثِیرٌ، وَرُعَاتَهُ قَلِیلٌ.

الشرح والتفسیر: آل محمد أرکان الدین

ذکر علیه السلام فی هذه الخطبة الموجزة اثنتی عشرة فضیلة لأهل البیت علیهم السلام تثبت عظم منزلتهم وتسوق مخاطبیه لاتّباعهم. وهی الصفات التی تستوعب فضائل الإنسانیة وتنطوی علی مواصفات القیادة.

قال فی الصفة الاُولی والثانیة: «هُمْ عَیْشُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْجَهْلِ»، فقد شبّه علیه السلام العلم والجهل هنا بکائنین حیین وأنّ آل محمد یهبون العلم الحیاة ویمیتون الجهل وبعبارة أخری هم روح العلم وعنصر موت الجهل.

وهذا هو الحدیث المعروف الذی ورد عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «أهْلُ بَیْتی کَالنُّجُومِ بِأَیِّهِمُ اقْتَدَیْتُمُ اهْتَدَیْتُمْ»(1).

کما ورد فی روایة أخری عن ابن عباس أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال: «النُّجُومُ أمانٌ

ص:433


1- (1) ورد هذا الحدیث فی مصادر الفریقین فقد رواه الذهبی فی میزان الاعتدال، ج 1، ص 82؛ ابن حجر فی لسان المیزان، ج 1، ص 136.

لاَِهْلِ الْاَرْضِ مِنَ الْغَرْقِ وَأهْلُ بَیْتی أمانٌ لاُِمَّتی مِنَ الاِْخْتِلافِ فَإذا خالَفَتْها قَبیلَةٌ مِنَ الْعَرَبِ اخْتَلَفُوا فَصاروا حِزبَ إِبْلیس»(1).

ثم أشار علیه السلام إلی ثلاث صفات أخری فقال: «یُخْبِرُکُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ، وَصَمْتُهُمْ عَنْ حِکَمِ مَنْطِقِهِمْ».

تشیر العبارة «یُخْبِرُکُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ» إلی علاقة وثیقة بین العلم والحلم، فالجاهل لیس حلیماً وسرعان ما یغضب إزاء الأحداث المختلفة وما یطرح علیه من سؤال؛ أمّا العالم فحلیم إزاء ذلک، وکذلک العلاقة بین الظاهر والباطن حیث إنّ حسن الظاهر فی الغالب والسلوک والتصرف یدلّ علی حسن الباطن، وهکذا علاقة الصمت الذی یکشفه المنطق الحکیم وقد دلّت التجربة علی أنّ مَن قلّ کلامه کان أکثر دقّة وصواباً فی الکلام کما ورد فی الحدیث الشریف قالَ رَسُولُ اللّه صلی الله علیه و آله: «إذا رَأَیْتُمُ الْمُؤمِنَ صَمُوتاً فَادْنُوا مِنْهُ فَإنّهُ یُلْقِی الْحِکْمَة»(2).

ثم قال فی الصفة السادسة والسابعة: «لاَ یُخَالِفُونَ الْحَقَّ وَلاَ یَخْتَلِفُونَ فِیهِ».

ودلیل ذلک واضح، فلهم من جانب مقام العصمة ومن جانب آخر الإحاطة التامة بأحکام اللّه والوحی والسنّة، ومن کان کذلک فلا ینطلق خلاف الحق ولا یختلف فیه.

جاء فی الحدیث النبوی المعروف: «عَلِیٌّ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَهُ وَعَلی لِسانِهِ وَالْحَقُّ یَدُورُ حَیْثُ ما دارَ عَلِیٌّ».

وقرأ بتعیبر آخر فی نفس الحدیث قال صلی الله علیه و آله: «عَلِیٌّ مَعَ الْحَقِّ وَالْقُرآنِ، وَالْحَقُّ وَالْقُرآنُ مَعَ عَلیٍّ وَلَنْ یَفْتَرِقا حَتّی یَرِدا عَلَیَّ الْحَوْضَ»(3).

ونعلم أنّ أئمّة العصمة من ولد علی علیه السلام ورثة علمه، ومن هنا فإنّهم لا یحیدون

ص:434


1- (1) مستدرک الحاکم، ج 3، ص 149.
2- (2) بحار الأنوار، ج 1، ص 154.
3- (3) روی المرحوم العلّامة الأمینی هذین الحدیثین بعبارات متفاوتة لکنها قریبة المعنی من مختلف مصادر العامّة مثل: مناقب الخوارزمی؛ فرائد السمطین للحموینی؛ وربیع الأبرار للزمخشری؛ والإمامة والسیاسة لابن قتیبة. (الغدیر، ج 3، ص 178 وما بعدها).

قط عن الحق.

قال الإمام الصادق علیه السلام: «کِتابَ اللّه فِیهِ نَبَأُ ما قَبْلِکُمْ وَخَبَرُ ما بَعْدِکُمْ وَفَصْلُ ما بَیْنَکُمْ وَنَحْنُ نَعْلَمُهُ»(1).

فکیف یمکنهم الاختلاف فی الحق. فالاختلاف علامة الجهل، ومن کان عالماً بکلّ هذه الأمور یستحیل علیه الاختلاف.

ثم ذکر صفتهم الثامنة والتاسعة فقال: «وَهُمْ دَعَائِمُ الاِْسْلاَمِ، وَوَلاَئِجُ (2)الاِْعْتِصَامِ».

وهکذا فالدین کالخیمة وأوتادها آل محمد، وکما تنهار الخیمة إذا زالت الأوتاد، فإن نحیّنا آل محمد عن الإسلام وقرأناه دونهم، إنهارت فروعه وأصوله.

وواصل علیه السلام کلامه ببیان الصفات الثلاث الأخیرة فقال: «بِهِمْ عَادَ الْحَقُّ إِلَی نِصَابِهِ(3) ، وَانْزَاحَ(4) الْبَاطِلُ عَنْ مُقَامِهِ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ».

تشیر هذه العبارة إلی الانحرافات التی حدثت بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله لاسیما علی عهد الخلیفة الثالث، فقد أصبح بیت مال المسلمین لعبة بید فئة من المتکالبین علی الدنیا ومن بنی أُمیة - ومنهم عدو الإسلام الأوّل، أی أبو سفیان - تسلّموا المناصب الحساسة فی الحکومة الإسلامیّة ففعلوا کلّ ما استطاعوا فعله وکانت نتیجة ذلک الثورة علی الخلیفة والتی أطاحت به وببطانته(5) بمرأی ومسمع المهاجرین والأنصار دون أن یدافعوا عنه.

ص:435


1- (1) الکافی، ج 1، ص 61، ح 9.
2- (2) . «ولائج» جمع «ولیجة» من «الولوج» الدخول وتطلق علی حامل أسرار الشخص أو جامعها ولکن لیس من أهله. ویقال ولیجة لکل من یرد قوماً من الخارج ویحمل أسراره وهی قریبة المعنی من مفردة البطانة.
3- (3) «نصاب» الأصل وموضع الرجوع والمکان المناسب لکل شیء وأساسه وبدایته. ثم اطلق علی المقدار فی باب الزکاة وأمثال ذلک.
4- (4) «انزاح» من مادة «زوح» علی وزن «زوج» تعنی فی الأصل الرحیل من المکان. ثم اطلق علی کلّ شیء یزال عن مکانه.
5- (5) . انظر: تاریخ الطبری، ج 3، ص 440 و 441.

ولکن حین تسلّم الإمام علی علیه السلام زمام الأمور عاد الحق إلی نصابه ونحی أتباع الباطل ولم یجرؤ أحد علی الدفاع عن الوضع السابق ویصادر حقوق الطبقات المستضعفة والمحرومة ویغدقها علی طلّاب الدنیا وذوی الأطماع. ولا یقتصر هذا الأمر علی أمیرالمؤمنین علیه السلام بل لو تسلّم أئمّة أهل البیت علیهم السلام مقالید الأمور لاتّبعوا ذلک النهج بفضل عصمتهم التی یستدل علیها بعدّة أدلة ومنها حدیث الثقلین.

ثم اختتم الکلام بذکر صفتهم الأخیرة فقال علیه السلام: «عَقَلُوا الدِّینَ عَقْلَ وِعَایَةٍ (1)وَرِعَایَةٍ، لاَ عَقْلَ سَمَاعٍ وَرِوَایَةٍ. فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ کَثِیرٌ، وَرُعَاتَهُ(2) قَلِیلٌ».

قطعاً العلم بالدین له مراتب کالعلم بأیّ أمر آخر، المرحلة الأولی سماع ونقل الألفاظ والمرحلة الثانیة فهم المعنی وإدراک المضمون والمرحلة الثالثة الإیمان والیقین العمیق الذی ینفذ فی جمیع کیان الإنسان ویسوقه للعمل، وأهل البیت علیهم السلام فی ذروة المرحلة الثالثة ومن هنا أوصی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأکّد علی الاُمّة بالتمسک بالقرآن وأهل البیت من بعده لیأمنوا الضلال والغی.

***

ص:436


1- (1) . لم ترد هذه المفردة بهذه الصیغة فی المصادر اللغویة وصحیحها «وعاء» ظرف الشیء ویبدو أنّ النسخة الأصلیة کانت وعاء التی تلائم السماع فی العبارة اللاحقة.
2- (2) «رعاة» جمع «راعٍ» المراعی.

الخطبة 240

اشارة

قالَهُ لِعَبْدِ اللّه بْنِ الْعَبّاسِ؛ وَقَدْ جاءَهُ بِرِسالَة مِنْ عُثْمان، وَهُوَ مَحصُورٌ یَسْأَلُهُ فیهَا الْخُرُوجَ إلی مالِهِ بِیَنْبُع، لِیُقَلَّ هَتْفَ(1) النّاسِ بِاسْمِهِ خِلافَةً، بَعْدَ أنْ کانَ سَأَلَهُ مِثْلَ ذلِک مِنْ قَبْلُ، فَقالَ علیه السلام (2)

نظرة إلی الخطبة

مضمون هذه الخطبة واضح. فلما حاصر المسلمون عثمان فی بیته سنة 35 ه وطالبوا بعزله من الخلافة، هتفت الجماعة أنّ الخلافة حق علی بن أبی طالب، فرأی عثمان ابعاد علی علیه السلام عن المدینة لمصادرة ذلک الهتاف، لذلک اقترحه علی الإمام علیه السلام هذا فی الوقت الذی اقترحه سابقاً علی الإمام علیه السلام ففعل.

ثم کتب للإمام علیه السلام بالعودة والدفاع عنه. فلما عاد اقترح علیه التوجه إلی ینبع

ص:437


1- (1) . «هتف» المناداة والصراخ والمراد هنا أنّ الاُمّة کانت تنادی بخلافة علی علیه السلام وقیل: «هتف» تعنی الصوت الذی یسمع ولا یعرف قائله.
2- (2) سند الخطبة: ذکر ابن عبد ربه بعض هذا الکلام فی «العقد الفرید» وکتب أنّ علیّاً علیه السلام خرج من المدینة وذهب إلی ینبع (ینبع موضع قرب المدینة قرب البحر الأحمر الذی کان آنذاک بعضه لعلی وأوقفه) لکن عثمان کتب کتاباً آخر بعد مدّة قصیرة وطلب منه الرجوع إلی المدینة (ویدافع عنه) ثم قال صاحب کتاب نهج البلاغة: ذکر ذلک أیضاً المبرد فی «الکامل» وابن قتیبة فی «الإمامة والسیاسة». (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 189).

فقال علیه السلام هذا الکلام: ما یرید عثمان إلّاأن یجعلنی جملاً ناضحاً فأقدم إن کانت مصلحته فی ذلک أو أخرج.

***

ص:438

یَا ابْنَ عَبَّاس، مَا یُرِیدُ عُثْمَانُ إِلَّا أَنْ یَجْعَلَنِی جَمَلاً نَاضِحاً بِالْغَرْبِ: أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ! بَعَثَ إِلَیَّ أَنْ أَخْرُجَ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَیَّ أَنْ أَقْدُمَ، ثُمَّ هُوَ الآْنَ یَبْعَثُ إِلَیَّ أَنْ أَخْرُجَ! وَاللّه لَقَدْ دَفَعْتُ عَنْهُ حَتَّی خَشِیتُ أَنْ أَکُونَ آثِماً.

الشرح والتفسیر: خطأ آخر من أخطاء عثمان

قضیة قیام المسلمین علی عثمان، إحدی القصص المأساویة المؤسفة فی صدر الإسلام. فکانت تلک الحرکة طبیعیة جدّاً خلافاً لما یظنه المتعصبون، فعثمان سلّم جماعة من بنی أمیة وقرابته الذین لم یکونوا من الصالحین، مناصب حساسة فی الدولة الإسلامیّة، ومن جانب آخر تصرّف فی بیت المال کما یتصرف فی أمواله الشخصیة، فیهب بطانته ما یشاء، فی حین کان أغلب المسلمین یعیشون الحرمان.

وقد عمّت أصداء هذین الفعلین المشینین کلّ مکان وأدّیا إلی تلک الانتفاضة العارمة علی عثمان، وإن کان علم تلک الانتفاضة طائفة من المصریین وأهل الکوفة؛ إلّا أنّ أهل المدینة تضامنوا معهم وصمت المهاجرون والأنصار ولم یهبّ للدفاع عنه سوی علی علیه السلام، فالإمام علیه السلام وإن کان من أشد الناقمین علی أفعال عثمان، لکنه لا یری فی قتله مصلحة للاُمّة الإسلامیّة.

علی کلّ حال، کتب عثمان عدّة کتب متناقضة للإمام علیه السلام طلب منه أوّلاً الخروج من المدینة إلی ینبع، ثم طلب منه العودة، ثم کتب له أخیراً بالخروج من المدینة، وسبب ذلک التناقض أنّه ظنّ بادی الأمر بأنّ بقاء الإمام علیه السلام فی المدینة مدعاة

ص:439

لتشجیع المسلمین علی عزله ومبایعة الإمام علیه السلام للخلافة.

ثم خرج الإمام من المدینة، شعر عثمان أنّه لا یسع أحد الدفاع عنه سوی علی علیه السلام وینقذه من أیدی الناقمین ولذلک طلب منه الرجوع إلی المدینة، وحین بلغه أنّ المسلمین هتفوا بالبیعة للإمام علیه السلام استولی علیه الخوف، فطلب من الإمام علیه السلام الخروج مرّة أخری من المدینة، ولما کان حامل الکتاب هذه المرّة ابن عباس، خاطبه الإمام علیه السلام قائل: «یَا ابْنَ عَبَّاس، مَا یُرِیدُ عُثْمَانُ إِلَّا أَنْ یَجْعَلَنِی جَمَلاً نَاضِحاً (1)بِالْغَرْبِ(2): أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ!».

ثم أضاف علیه السلام قائلاً: «بَعَثَ إِلَیَّ أَنْ أَخْرُجَ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَیَّ أَنْ أَقْدُمَ، ثُمَّ هُوَ الاْنَ یَبْعَثُ إِلَیَّ أَنْ أَخْرُجَ!».

وتشیر هذه القضیة إلی أنّ ضغوط المسلمین کانت علی درجة من الشدّة بحیث ارتبک عثمان وکان کلّ لحظة یتخذ قراراً وقد غفل فوات الأوان وقد انتهی عهد حکمه ولن یقبل المسلمون له عذراً فرأی نفسه مضطراً هنا للتعامل مع علی الذی لا تخفی مکانته عند اللّه ورسوله والمسلمین.

الطریف أنّ عثمان لم یصدر مثل هذه الأوامر المتناقضة مع أحد آخر، فلم یکن للآخرین مثل ذلک الدور فی الوسط الإسلامی فکان حضورهم وغیابهم سیان فی التأثیر.

ثم أشار علیه السلام فی الختام إلی قضیة مهمّة فی أنّه بذل أقصی جهده فی الدفاع عن عثمان؛ الأمر الذی لم یفعله غیره ولا یسعه فعله فقال: «وَاللّه لَقَدْ دَفَعْتُ عَنْهُ حَتَّی خَشِیتُ أَنْ أَکُونَ آثِماً».

لعل هذه العبارة إشارة إلی أنّ الدفاع أکثر من الحد عمن إرتکب تلک الأفعال نوع من دعم الظلم وهو عمل غیر جائز، هذا أفضل تعبیر یمکن ذکره للعبارة السابقة

ص:440


1- (1) . «ناضح» الجمل الذی یحمل الماء من مادة «نضح» علی وزن «نظم» رش الماء.
2- (2) «غرب» بمعنی الدلو العظیمة.

وإن ذکر ابن أبی الحدید وابن میثم فی شرحهما احتمالین آخرین؛ الأوّل قوله علیه السلام:

(لقد دفعت عنه حتی خشیت أن أکون آثماً)، لأنّ الوقوف بوجه أولئک الذین قاموا علیه ربّما یدعوهم للهجوم علیَّ فینالون منّی وهذا ذنب، الآخر: أخشی أن یؤدی دفاعی إلی بثّ الفرقة والخلاف فیصاب البعض بالأذی وهذا ذنب أیضاً، ولکن من الواضح أن أیّاً من هذین الاحتمالین لا یناسب العبارة.

ورد فی «العقد الفرید» أنّ ابن عباس قال: أرسل إلیَّ عثمان فقال لی: اکفنی ابن عمّک، فقلت: إنّ ابن عمّی لیس بالرجل یری له، ولکنّه یری لنفسه، فأرسلنی إلیه بما أحببت، قال: قل له: فلیخرج إلی ماله بینبع، فلا أغتمّ به ولا یغتمّ بی، فأتیته فأخبرته، فقال: ما اتّخذنی عثمان إلّاناضحاً، ثم أنشد:

فَکَیْفَ بِهِ أنّی أداوی جَراحَهُفَیُدْوی فَلا مَلَّ الدَّواءُ وَلاَ الدّاءُ

إلی أن قال: فخرج علی علیه السلام إلی ینبع، فکتب إلیه عثمان حین إشتدّ علیه الأمر، أمّا بعد، فقد بلغ السیل الزبی، وجاوز الحزام الطیبین، وطمع فیَّ من کان یضعف عن نفسه، فأقبل إلیَّ، وکن لی أم علیَّ صدیقاً أم عدوّاً(1).

ویؤید هذا الکلام ما ذکره السید الرضی أنّ عثمان تناقض فی أوامره حین أربکه قیام المسلمین الکبیر علیه.

***

ص:441


1- (1) شرح نهج البلاغة للمرحوم التستری، ج 9، ص 254 (بتلخیص طفیف).

ص:442

الخطبة 241

اشارة

یَحُثُّ بِهِ أَصْحابَهُ عَلَی الْجِهاد (1)

نظرة إلی الخطبة

هدف الإمام علیه السلام کما یتضح من الخطبة حثّ أصحابه علی الجهاد، لکنه أورد أموراً دقیقة بعبارات موجزة تعکس عمق تدبیره للقضایا المتعلقة بالحکومة والجهاد.

***

ص:443


1- (1) سند الخطبة: ذکر الآمدی فی «غررالحکم» بعض عبارات الخطبة بکلمات قصیرة (مصادر نهج البلاغة، ج 3، ص 190).

ص:444

وَاللّه مُسْتَأْدِیکُمْ شُکْرَهُ وَمُوَرِّثُکُمْ أَمْرَهُ، وَمُمْهِلُکُمْ فِی مِضْمَارٍ مَحْدُودٍ، لِتَتَنَازَعُوا سَبَقَهُ، فَشُدُّوا عُقَدَ الْمَآزِرِ، وَاطْوُوا فُضُولَ الْخَوَاصِرِ، وَلاَ تَجْتَمِعُ عَزِیمَةٌ وَوَلِیمَةٌ. مَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْیَوْمِ، وَأَمْحَی الظُّلَمَ لِتَذَاکِیرِ الْهِمَمِ!

الشرح والتفسیر: شمّروا واستعدوا للجهاد

صرّح صاحب «تمام نهج البلاغة» الذی ألف لجمع وإکمال الخطب التی جمعها المرحوم الرضی فی «نهج البلاغة» أنّ الإمام علیه السلام خطبها یوم صفّین(1) ومضمون الخطبة یناسب هذا المعنی.

علی کلّ حال فقد وعظ الإمام علیه السلام مخاطبیه بثلاث عبارات قصیرة لسماع رسالة الجهاد فقال: «وَاللّه مُسْتَأْدِیکُمْ(2) شُکْرَهُ وَمُوَرِّثُکُمْ أَمْرَهُ، وَمُمْهِلُکُمْ(3) فِی مِضْمَار (4)مَحْدُود، لِتَتَنَازَعُوا سَبَقَهُ(5)».

ورغم أنّ الشکر ذکر بصورة مطلقة فی هذه العبارة ومنسجمة مع إطلاقاته فی القرآن الکریم مثل: «وَاشْکُرُوا لِی وَلاَ تَکْفُرُونِ»(6) ولکن یبدو هدف الإمام علیه السلام بیان

ص:445


1- (1) . تمام نهج البلاغة، ص 465.
2- (2) . «مستأدی» الطالب من مادة أداء طلب أداء الشیء.
3- (3) «ممهل» معطی المهلة.
4- (4) «مضمار» المیدان الذی تضمر فیه الخیل للسباق کما وردت بمعنی اسم الزمان.
5- (5) «سبق» المال الذی یقرر للفائزین بالسباق.
6- (6) . سورة البقرة، الآیة 152.

الشکر الحکومی الذی أودعه اللّه الصالحین فی عصره علیه السلام ویؤکد ذلک العبارة الثانیة «وَمُوَرِّثُکُمْ أَمْرَهُ».

فالأمر هنا بمعنی أمر الحکومة. ویتضح من هنا کیفیة مناسبة الشکر للحث علی الجهاد، لأنّ الجهاد الخالص والباسل تحفظه حکومة الصالحین وحفظ النعمة والانتفاع بها مساوٍ لشکرها.

العبارة «وَمُمْهِلُکُمْ فِی مِضْمَارٍ مَحْدُودٍ...» إشارة لما ورد فی سائر خطب نهج البلاغة أنّه علیه السلام قال: «أَلاَ وَإِنَّ الْیَوْمَ الْمِضْمَارَ وَغَدَاً السِّبَاقَ وَالسَّبَقَةُ الْجَنَّةُ وَالْغَایَةُ النَّارُ»(1).

ثم اتجه الإمام علیه السلام صوب ذی المقدمة والنتیجة فقال: «فَشُدُّوا عُقَدَ(2) الْمَآزِرِ(3) ، وَاطْوُوا(4) فُضُولَ الْخَوَاصِرِ(5)».

فالعبارتان «فَشُدُّوا عُقَدَ الْمَآزِرِ، وَاطْوُوا فُضُولَ الْخَوَاصِرِ» کنایة عن الاستعداد التام للقیام بالعمل، لأنّ الشخص الذی یحکم محزمه یقوی عموده الفقری علی الإتیان بالأعمال الشاقة، کما تسهل علیه الحرکة والانتقال إن جمع ثوبه ووضعه تحت حزامه والذی کان عریضاً آنذاک، حتی الیوم الذی غاب فیه الثوب الطویل عن الرجال ما زال القول المتداول أنّ فلاناً شمّر عن ثیاب الهمّة لیفعل کذا.

کما لم یستبعد بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ المراد من العبارة «وَاطْوُوا فُضُولَ الْخَوَاصِرِ» ترک النهم فی الطعام وترهل البدن، إلّاأنّ التفسیر الأوّل أنسب.

ص:446


1- (1) نهج البلاغة، الخطبة 28.
2- (2) . «عقد» جمع «عقدة» ما تربط به الأشیاء.
3- (3) «مآزر» جمع «مئزر» علی وزن منبر الثیاب الداخلیة.
4- (4) «اطووا» من مادة «طی» معروف.
5- (5) «خواصر» جمع «خاصرة» الضلع.

ثم حذّر الإمام علیه السلام مخاطبیه بثلاث عبارات عمیقة المعنی وفصیحة وبلیغة وأوضح لهم سبیل الانتصار فقال علیه السلام بادئ الأمر: «ولاَ تَجْتَمِعُ عَزِیمَةٌ وَوَلِیمَةٌ(1)».

وقال علیه السلام: «مَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْیَوْمِ».

وقال علیه السلام: «وَأَمْحَی الظُّلَمَ(2) لِتَذَاکِیرِ(3) الْهِمَمِ!».

حیث أشار علیه السلام فی هذه العبارة الموجزة والعظیمة المضمون إلی بضعة أمور مهمّة للموفقیة فی الحیاة والإدارة منها:

1. التحلی بالاستعداد علی الدوام ومهما کانت الظروف أو حسب تعبیر الإمام شدّوا المآزر....

2. مقاطعة الترف والدعة التی لا تؤدی سوی إلی الضعف والکسل.

3. مواجهة دواعی النسیان التی تجعل الإنسان ضعیفاً وذلیلاً ومسلوب المنهج.

4. الارتقاء بمستوی الهمة ومکافحة کلّ ما یضعفها ویهبطها.

فإن راعی مدراء المجتمعات الإسلامیّة هذه الوصایا الأربع سیتغلبون قطعاً علی جمیع المشاکل.

تأمّل: آفات النهم والترف

ما ورد فی الخطبة بهذا الشأن ممّا ذکر مسهب فی الروایات. عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: «لا تُمیتُوا الْقُلُوبَ بِکَثْرَةِ الطَّعامِ وَالشَّرابِ فَإِنَّ الْقُلُوبَ تَمُوتُ کَالزُّرُوعِ إذا کَثُرَ عَلَیْهَا الْماءُ»(4).

کما قال صلی الله علیه و آله: «الْقَلْبُ یَمُجُّ الْحِکْمَةَ عِنْدَ امْتِلاءِ الْبَطْنِ»(5).

ص:447


1- (1) «ولیمة» الطعام الذی یعدّ فی العرس. ثم اطلقت علی کلّ طعام یعدّ فی الدعوة للضیافة وهی هنا کنایة عن الترف.
2- (2) «ظلم» جمع «ظلمة» العتمة.
3- (3) «تذاکیر» جمع «تذکار» علی وزن «منقار» التذکیر.
4- (4) بحار الأنوار، ج 63، ص 331، ح 7.
5- (5) مجموعة ورام، ج 2، ص 119.

وقال علیه السلام: «مَنْ قَلَّ أکْلُهُ صَفا فِکْرُهُ»(1).

وأخیراً قال فی الحدیث الرابع: «إیّاکُمْ وَفُضُولَ الْمَطْعَمِ فَإِنَّهُ یَسِمُ الْقَلْبَ بِالْقَسْوَةِ وَیُبْطِیءُ بِالْجَوارِحِ لِلطّاعَةِ وَیُصِمُّ الْهِمَمَ عَنْ سَماعِ الْمَوْعِظَةِ»(2).

وجاء فی رسالة أمیر المؤمنین علی علیه السلام إلی عثمان بن حنیف حین قیل له: کیف تقوی علی الأعداء وهذا طعامک؟ فقال: «أَلاَ وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّیَّةَ أَصْلَبُ عُوداً وَالرَّوَاتِعُ الْخَضِرَةَ أرَقُّ جُلُوداً وَالنَّبَاتَاتِ الْغِدْیَةَ أَقْوَی وَقُوداً»(3).

وتعبیر الإمام بالولیمة لا تقتصر علی الطعام والشراب وهی کنایة عن مطلق اللذة والمتعة، أنشد المتنبی بهذا الخصوص:

بِقَدْرِ الْکَدِّ تُکْتَسَبُ الْمَعالی

وسیرة مختلف الأقوام تؤید ما ورد فی هذه الروایات والخطبة المذکورة، فالأقوام المثابرة والمجتهدة بلغت ذروة الاقتدار فی العالم؛ أمّا تلک الکسلة والمتقاعسة کانت متخلفة وفاشلة.

***

وأخیراً حیث اختتمت الخطب بهذه الخطبة فقد قال الرضی: وَصَلَّی اللّه عَلی سَیِّدنا مُحَمَّدٍ النَّبِیِّ الْاُمِّیِّ وَعَلی آلِهِ مَصابیحِ الدُّجی وَالْعُروةِ الْوُثْقی وَسَلَّمَ تَسلیماً کَثیراً.

ونحمد اللّه الذی وفقنا بعد أربع عشرة سنة من عمل دؤوب باختتام شرح خطب نهج البلاغة التی تعتبر أهم أجزاء نهج البلاغة بما یقارب ثلثیه.

***

ص:448


1- (1) غرر الحکم، ح 7402.
2- (2) بحار الأنوار، ج 100، ص 27، ح 40.
3- (3) نهج البلاغة، الرسالة 45.

خصائص هذا الشرح

1. شرح وتفسیر جمیع فصول وفقرات کلّ خطبة خلافاً لما ورد فی أغلب الشروح التی تقتصر علی الأقسام المطلوبة.

2. إرتباط عبارات وأقسام الخطبة وصلتها الوثیقة والمنطقیة مع بعضها والتی اغمض عنها فی أغلب الشروح، ففسّروا کلّ قسم بصورة مستقلة دون الالتفات لارتباطها بما قبلها وبعدها.

3. الترکیز علی الروح الحاکمة لجمیع الخطبة وجمیع الأبحاث فی إطارها وغض النظر عن المطالب الهامشیة غیر المرتبطة بالخطبة وإن کان یثیر الوساوس.

4. إرساء التأسیس للأصل فی تفسیر العبارات؛ أی، استفادة مفهوم مستقل لکل عبارة خلافاً لما یشاهد فی بعض الشروح، حیث یعتبرون العبارات المتشابهة تأکیداً وینحّون اختلافاتها.

5. إضافة مواضیع تکمیلیة مرتبطة بالخطبة بصورة منفصلة تحت عنوان (تأمّلات) بما فیها المسائل التاریخیّة والأخلاقیّة والاجتماعیة والعقائدیة و....

6. ذکر اسناد الخطبة بالاستفادة من المصادر التی بحثت اسناد نهج البلاغة.

7. ذکر جوّ وخلاصة کلّ خطبة فی مستهلّ البحث تحت عنوان (نظرة إلی الخطبة).

8. ذکر معانی المفردات الصعبة فی الحاشیة بالاضافة إلی جذورها ومعانیها الأصلیة والفرعیة.

ص:449

9. تناول الشرح بصورة مبسطة بما یخدم عامة الناس دون الهبوط بمستوی المواضیع.

10. الالتفات إلی المطالب المهمّة التی وردت فی الشرح من خلال قبولها أو نقدها أو إکمالها.

11. والغایة الأساسیّة من هذا الشرح، هی أن یکون قابلاً للاستفادة للجمیع للخاص والعام والعالم والعامی، وکل یستفید منه بحسب طاقته وقدرته العلمیّة وفهم وإدارکه.

ص:450

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.